الأحداث المؤلمة والمهينة التي تمر بأمتنا ليست سوى أعراض لمرض عضال يسري في أوصالها ويهد قواها ويكاد يفتك بها .. هذا المرض العضال حذرنا منه القرآن الكريم في آيات كثيرة .. وحذرنا منه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه .. كما أن استقراء التاريخ ومعرفة السنن الكونية وأخبار الأمم السابقة تشير بوضوح إلى خطورة هذا المرض .. وضرورة الوقاية منه .. وعلاج أي عرض يظهر له على الفور .. هذا المرض اللعين هو الانقسام والتفرق .. وهو يغزو جسد الأمة عن طريق أعدائها .. حين يستقطبون فريقا منا .. يضلونهم ويمكرون بهم .. حتى يتحولوا من لبنة بناء إلى معول هدم يقوض الأركان ويصدع البنيان .. وعادة ما يكون المكر مستترا لا يفصح عن حقيقة نواياه إلا في مراحل متأخرة حين يسفر الداء عن وجهه القبيح .. ويبدأ في التخريب والتدمير .. واستهداف جهاز المناعة حتى لا يجد مقاومة أو تصديا لمخططاته الملعونة .. وهو أشبه بالسرطان أو الإيدز .. لذا .. فقد وصف القرآن الكريم الاستسلام لهذا المرض بأنه نوع من الشرك ( ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا .. كل حزب فرحون ) 31 – 32 من سورة الروم .. ونفى انتساب المتفرقين والمفرقين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وبالتالي نفى انتسابهم إلى الإسلام نفسه حين قال ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) 159 من سورة الأنعام .. وقال الرسول عليه الصلاة والسلام ما معناه : لا تعودوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض .. وقد وقعت مجتمعات إسلامية وعربية كثيرة في براثن هذا الداء الخبيث واندلعت الفتنة بين أبنائها .. واحتدم الصراع والاقتتال بينهم .. وبدلا من توجيه سلاحهم إلى صدور أعدائهم باتوا يوجهونه إلى أنفسهم .. وحققوا للأعداء أغلى أمانيهم .. والصراع الدائر هذه الأيام ليس طائفيا أو مذهبيا فقط .. لكنه صراع سياسي اجتماعي فكري طبقي .. وغالبا ما تتداخل كل هذه الخيوط وتتشابك أو تتقاطع بحيث لا تستطيع الفصل بينها .. لكن الرابط الأساسي فيها جميعا هو الولاء للأعداء .. والانسياق الأعمى وراء مزاعمهم وأفكارهم النجسة .. وهم سعداء جدا بما يجري في العراق بين السنة والشيعة وما يجري في فلسطين والصومال وأفغانستان ولبنان وكشمير والشيشان وغيرها .. ولديهم من المخططات التي تجعل كل البلدان العربية والإسلامية في نفس الدائرة .. ولن يرتاح لهم بال إلا إذا حمي الوطيس وارتفعت رايات العصبية والقبلية والجاهلية .. وتحول العالم العربي والإسلامي إلى بحور من الدماء .. وهم ينفخون كل لحظة في هذه النيران حتى تؤتي أكلها بسرعة قبل أن يتمكن المخلصون من إخمادها والسيطرة عليها .. وقد بلغ هذا المكر مداه حين ذاقوا بأس المقاومة في كل مكان .. وتأكدوا من هزيمتهم وخزيهم أمام ضرباتها الموجعة .. فأرادوا تحويل النصر إلى هزيمة بإيقاع هذه الفتن .. واللعب على أوتار العصبية والفرقة .. حتى يذيق بعضنا بأس بعض .. ويصيبنا الوهن الذي حذرنا منه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فتتداعى علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها .. وهم يستغلون كل حدث ويوجهونه للنفخ في نيران هذه الفتن وانتشار سعيرها .. وما حدث في جريمة اغتيال الرئيس القائد الشهيد صدام حسين دليل أكيد على هذا النهج اللئيم .. فالتوقيت مهين ومريب .. والأصوات التي تعالت بهتافات طائفية ليست عفوية أو عشوائية .. بل هي مقصودة ومدبرة .. وبالفعل وقع الكثيرون في حبائل هذا الفخ .. وأخذوا يكيلون الاتهامات للشيعة .. والآخرون يردون عليهم .. إلا من رحم الله من الذين يدركون مقاصد الأعداء جيدا .. ولا ينخدعون بهذه الحيل الشيطانية .. لكنهم يمكرون ويمكر الله .. والله خير الماكرين .. فقد استطاعوا بغبائهم الذي لا يحسدون عليه أن يقدموا للرجل صورة مشرقة بإذاعة هذا الشريط الذي أوضح للعرب والمسلمين كافة قوة وبسالة زعيمهم .. وإيمانه الشامخ الذي لم يفارقه حتى اللحظة الأخيرة من حياته .. فكان عملاقا وسيظل بعد استشهاده المشرف .. بينما أكد أعداؤه أنهم أقزام جبناء يهابونه حتى وهم يلفون حبل المشنقة حول عنقه .. وسقطوا هم .. ولم يسقط البطل .. بل أصبح رمزا كبيرا للمقاومة والصمود والتضحية والفداء .. حتى الذين كانوا يكرهونه في حياته أحبوه كثيرا بعد استشهاده .. لأن الشهيد هو الذي يصنع التاريخ .. وقد استبشر كثير من المسلمين حين سمعوه ينطق الشهادتين بلسان طلق .. لا تلعثم فيه ولا اضطراب .. بل ثقة عالية في مغفرة الله ورحمته ورضوانه .. فلو أن الله عز وجل لم يغفر خطاياه لانعقد لسانه وانشغل ذهنه عن كلمة التوحيد .. وهي من المبشرات الأكيدة وعلامات حسن الخاتمة التي يتمناها أي مسلم .. وقد أوصى الشهيد العظيم قبل موته بالتسامح ونبذ الفرقة .. وتوحيد الصفوف لمواجهة الأعداء والمحتلين .. ولعل الشعب العراقي وكل الشعوب العربية والإسلامية تنفي الخبث عن صفوفها وتنقي مسيرتها من الشوائب والعوائق التي تعرقل خطاها وتبدد قواها في الاقتتال الداخلي والتناحر الذاتي .. وأرجو من كل النخب وأصحاب الأقلام والآراء والمنابر على اختلاف مواقعها أن لا يستهينوا بكلمة تقال هنا أو هناك .. فرب كلمة صغيرة تشعل فتنة كبيرة لا يعلم مداها إلا الله .. وإن المرء ليلقي بالكلمة لا يلقي بها بالا فتهوي به في قعر جهنم .. وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ ! .. منذ وقت قليل حذرنا من وقوع الفتنة .. لكنها للأسف الشديد وقعت بالفعل .. وإذا لم نسعى جميعا لإخمادها وتحجيم خطرها فستأكل الأخضر واليابس .. ولن تبقي على أحد .. لذا .. نقول اليوم بأعلى صوت .. أطفئوا نار الفتنة .. حاصروها قبل أن تهلكنا جميعا ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .. واعلوا أن الله شديد العقاب ) 25 من سورة الأنفال