الحلف الصهيونى- الأمريكى تعرض لانكسارات استراتيجية خطيرة، إنكسارات عسكرية فى المقام الأول، فى وقت اعتمد فيه على الخيار المسلح كخيار أول، وبالتالى هو يحاول الآن أن يقصر خطوطه ويسحبها ويعيد ترتيبها، ويركز على عناصر وخيارات أخرى فى إطار ذات المخطط. أى أن الخيار العسكرى ينسحب تدريجياً ومؤقتاً من الواجهة، ويزداد وزن سلاح الفتن ولا نقول يبدأ استخدامه لأنه موجود من البداية. إن ملك الأردن لم يكن يقرأ الغيب (ولكن يقرأ تقارير المخابرات الأمريكية) عندما حذر من ثلاثة حروب أهلية متزامنة فى العراق ولبنان وفلسطين.
وقد تعودنا فى الفترة الأخيرة أن الأعداء يحذرون من شئ وينفذونه فى اليوم التالى. نحن إذن أمام إنكسار عسكرى واضح للأمريكان فى العراق ثم فى أفغانستان، وكانت الهزيمة المدوية للكيان الصهيونى فى حرب لبنان، وإذا كان الكيان الصهيونى لم ينكسر بشكل حاسم أمام الانتفاضة الفلسطينية لضعف استعدادها العسكرى وانقطاع خطوط إمدادها وتموينها، إلا أن المقاومة الفلسطينية تستنزف الكيان الصهيونى وترهقه بصورة دائمة ولا تشعره بالاستقرار لحظة واحدة. وموافقة الصهاينة على هدنة مع غزة لوقف صواريخ القسام كان إجبارياً لأن 160 ألف يهودى فى مرمى هذه الصواريخ التى وإن كانت بدائية وخسائرها قليلة فقد أدت إلى حالة من النزوح الجماعى لليهود وبالأخص من بلدة سيدروت.
الحلف الصهيونى- الأمريكى فى حالة من التراجع والهزيمة ولكننا ما نزال فى مباراة ماراثونية لا تحسم نتيجتها بالضربة القاضية، ولكن بالنقاط.
ولدى هذا الحلف أوراق قوة عديدة فى المنطقة وعلى رأسها الحكام العملاء العرب، كما يقول أولمرت رئيس وزراء العدو الصهيونى- عندما يهاجم أداؤه فى العدوان على لبنان- يقول أن المكسب الرئيسى أننا أنشأنا تحالفاً مع الأنظمة العربية المعتدلة، يقصد (مصر- السعودية- الأردن).
إن إثارة الفتن والحروب الأهلية إحدى الأدوات الدائمة والمستمرة لإحكام السيطرة على هذا البلد أو ذاك (من البلدان الخارجة عن الطوع الأمريكى)، ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن هذه البؤر: كانت فى الجزائر والآن فى السودان والعراق وفلسطين ولبنان وهناك محاولات لم تصبح مؤثرة (فى سوريا وإيران) كمحاولة استخدام ورقة الأقليات العرقية.
إذن حيثما تجد الفتن والحروب الأهلية ابحث عن الأصابع الأمريكية- الصهيونية. ومن الطبيعى عند انكسار الخيار العسكرى المباشر، فإن سلاح الفتن يصبح هو السلاح الأهم.
فى العراق وصلنا مع الأسف إلى نقطة متقدمة، نحن أمام درجة من درجات الحرب الأهلية الفعلية، نحن أمام فتنة طائفية مستحكمة بدأت تشع آثارها الآثمة فى المنطقة العربية والإسلامية. وهناك محاولة جادة فى لبنان لتحويل صراع المعارضة الوطنية ضد حكومة السنيورة إلى فتنة (شيعية- سنية) دون أى داع أو مبرر منطقى (على خلاف الوضع الملتبس فى العراق).
وفى فلسطين تجرى فتنة مدبرة بين فتح (التى تقودها الآن أسوأ العناصر) وحماس.
ويبدو أن العدو الصهيونى يتعجل الوصول إلى ذروة الفتنة الفلسطينية لأنه وصل إلى: محاولة اغتيال رئيس الوزراء، ورأس حماس فى الداخل الأخ/ إسماعيل هنية.
والحقيقة أن الحلف الصهيونى- الأمريكى يعد المسرح منذ عام ونصف العام أى منذ فوز حماس فى الانتخابات التشريعية، لهذه الفتنة. بإحكام الحصار على حكومة حماس والسعى الدؤوب لإفشالها بتجويع الشعب الفلسطينى، ومنع التحويلات المالية وعدم الاعتراف الدولى بها. وكلما نجحت حماس فى اختراق هذا الحصار جزئيا هنا وهناك يجن جنون الأعداء (رفض أمريكا التزام قطر بدفع رواتب وزارتين فلسطينيتين. آخر مثال) وعندما قام هنية بجولة ناجحة فى مصر والسودان وإيران وسوريا وقطر جن جنونهم مرة أخرى وقرروا اغتياله لدى عودته. ومن الواضح أن المحاولة كانت جادة وليس للتهويش أو التخويف (فالحارس الشخصى افتدى هنية) وأصيب أحمد يوسف مستشاره وابنه وآخرون!
إن الصهاينة يدركون أنه لا قبل لهم بإعادة الاحتلال الدائم للضفة (وقد هربوا من غزة بالفعل)، وبالتالى يحتاجون لسلطة فلسطينية ذاتية متعاونة معهم. وعندما فقدوا الثقة فى ياسر عرفات (رحمة الله عليه) قرروا تصفيته والدفع بأبى مازن الذى تم إعداده جيداً، بل إن مواقفه الانهزامية مشتهرة منذ سنوات بعيدة. ولو كان عرفات موجوداً لما تطورت الأمور إلى هذا الحد. لذلك فإن أبا مازن ومن معه هم أسوأ من فى منظمة فتح، وأثاروا نعرة "الفتحاوية" بعد الهزيمة الانتخابية، ولكن القيادة وثيقة الصلة بالدوائر الإسرائيلية والأمريكية. وقد تم الدفع بأبى مازن فى حياة عرفات، وفرض عليه كرئيس وزراء وكرأس آخر للسلطة، بعد تعديل قانونى لاستحداث هذا المنصب بصلاحيات أكبر. (وقد سمى ذلك اصلاح السلطة!!).
وتمت تصفية ياسر عرفات. وبدا أن المشهد أصبح معداً تماماً لصالح الصهاينة.
وجاء فوز حماس فى الانتخابات التشريعية مفاجئاً لحماس ولفتح ولاسرائيل وأمريكا وأسقط فى يد الجميع!! ولا شك أن انتصار حماس كان معنوياً وضخماً فى دلالته السياسية، فالشعب الفلسطينى بنسبة 60% فى انتخابات حرة: انتخب المقاومة وانتخب التوجه الاسلامى. وأنزل الشعب عقوبة قاسية برموز السلطة الفتحوية الذين زكم فسادهم الأنوف، حتى أنهم تربحوا من بيع الأسمنت المصرى لبناء جدار الفصل العنصرى وغيرها من الأمور الفاضحة.
وقرر الجميع: أمريكا- اسرائيل- معظم قيادة فتح والأجهزة الأمنية- الأنظمة العربية وعلى رأسها التحالف الثلاثى الجديد (مصر- السعودية- الأردن)- الاتحاد الأوروبى كل هذه الأطراف قررت خنق هذه الحكومة الجديدة.
فى وقت يقدم أبو مازن نفسه باعتباره منقذاً للشعب الفلسطينى من الجوع. بعد عام ونصف العام وجد هذا الحلف غير المقدس أن الشعب الفلسطينى صامد، وأن الحكومة تخترق الحصار وتهرب الأموال من هنا وهناك. وتتصاعد الصواريخ من غزة مؤلمة الصهاينة. والشعب الفلسطينى يتحمل المجازر ويصبر.
ومن ناحية أخرى أصر أبو مازن على إفشال مفاوضات حكومة الوحدة الوطنية (كما يفعل السنيورة فى لبنان بالضبط). وبصورة كاربونية وكما حدث اغتيال الوزير بيير الجميل كحادث اغتيال جديد لتحميل المسئولية على سوريا وحلفائها فى لبنان. بصورة كاربونية حدثت محاولة اغتيال ضابط مخابرات فلسطينى كى يتم اتهام حماس ضمناً، ثم القيام فى الأيام التالية باغتيال قاض وقيادة كبيرة فى حماس وكأن ذلك هو الرد الانتقامى، والهدف أن تتوالى حوادث الانتقام والانتقام المضاد. ولكنهم متعجلون أو رأوا أنهم قاموا بما يكفى من التمهيد فوصلوا إلى ذروة الفتنة بمحاولة اغتيال: اسماعيل هنية.
نحن نثق فى حكمة قيادة حماس وقدرتها على إدارة هذا الصراع المعقد دون أن تصل إلى حد الحرب الأهلية المطلوبة من الأعداء.
المشكلة أن حماس أمام سيناريوهين ولا أملك- من بعيد- أن أنصح بأحدهما وعلى أى حال هما ليسا متعارضين إلا زمنياً.
1. الأول: الاستمرار فى السيناريو الحالى وهو محاولة فك الحصار عن الحكومة وتحويل غزة إلى أراضى محررة بالفعل ومحاولة مد ذلك إلى الضفة الغربية بالتدريج.
2. السيناريو الثانى: الانسحاب من السلطة والتحول بالكامل إلى مواقع المقاومة السياسية والعسكرية.
وكما قلت فإن السيناريوهان غير متعارضين إلا زمنياً، بمعنى أن حماس يمكن أن تواصل إلى حين السيناريو الأول، وعندما تصل إلى طريق مسدود تنتقل إلى الثانى. ولكن البعض يرى أنه قد تم الوصول إلى الطريق المسدود بالفعل والبعض يرى لا والدليل هذه الجولة الناجحة لرئيس الوزراء إسماعيل هنية. ومن يتمسك فى حماس بالحكومة يقول: إذا تركنا الحكومة فإنها ستتحول إلى جهاز معاد بصورة أكبر مما كان للمقاومة. وكيف نترك لهم الحكومة بينما الشرعية لنا بأصوات الجماهير. وهذا يعنى الاستسلام لشريعة البلطجة.
ويقول الرأى الآخر، ولكنك فى حكومة ليست بالحكومة. ما هو حجم الصلاحيات التى تمتلكها بالفعل إنها تكاد تكون حكومة معنوية. حتى وزير الاعلام سحب منه أبو مازن التلفزيون الفلسطينى فماذا بقى له؟ وعموماً فإن الشح المالى يجعل الوزارات لا تعمل بصورة طبيعية.
**********
الأعداء يخططون لدفع حماس خارج الوزارة، وفكرة الانتخابات المبكرة تأتى لتعطى غطاءاً شرعياً قانونياً لحكومة جديدة تأتى من خلال التزوير هذه المرة.
وهذه التطورات تكشف لنا لماذا وافقت اسرائيل على الهدنة مع غزة، فليس السبب الوحيد الحرج الذى يمثله استمرار إطلاق صواريخ القسام، ولكن لأن وراء وقف إطلاق النار بديل آخر هو هذه الفتنة. ولا يوجد أفضل من أن تتفرج اسرائيل على إقتتال فلسطينى- فلسطينى.
وهذا هو المقصود فى واشنطن عندما يتحدث الديموقراطيون أو بعض الجمهوريين المعارضين لبوش عن حل المشكلة الفلسطينية بالحوار بدلاً من القتال. وكذلك فى لبنان والعراق. أى استخدام منهج "فتنمة الحرب" وهو المصطلح الذى أطلق على مرحلة ما بعد انسحاب أمريكا من فيتنام وترك الفيتناميين يحاربون بعضهم البعض فالمطلوب الآن "عرقنة الحرب" و"لبننة الحرب" و"فلسطنة الحرب".
المهم بالنسبة لنا كقوى وطنية وقومية واسلامية فى بلاد العرب ألا ننجر لتصور أننا أمام صراع داخلى بين (فتح- حماس)، نحن أمام صراع اسرائيل بالوكالة من خلال عملائها فى السلطة الفلسطينية ضد حماس والشعب الفلسطينى. ولابد من ملاحظة أن انهيار وتراجع منظمة فتح، جعل قيادتها تعتمد بالأساس على الأجهزة الأمنية. لذلك فإن كثيراً من المظاهرات والتحركات الشعبية التى تجرى باسم "فتح" ما هى إلا تجييش لهذه الأجهزة، التى يحصل أفرادها على مرتباتهم بالكامل ويدعون عكس ذلك. ويعشش الفساد بين قيادات هذه الأجهزة الأمنية، ومن الضرورى الاهتمام بالكشف عن فسادهم وصلاتهم باسرائيل ليتأكد العرب والمسلمون من حقيقة الصراع.
طبعاً نحن لا نريد للصراع أن يستفحل ويأخذ طابعاً عسكرياً، ولكن لابد ألا نقف على الحياد، وألا يكون موقفنا هو مجرد الدعوة إلى وحدة الصف. فالمتآمرون لن يقبلوا ولن يوافقوا، ولذلك علينا محاصرتهم سياسياً واعلامياً.
إن القوى الوطنية والقومية والاسلامية خارج فلسطين عليها أن تعلن مساندتها الصريحة لحماس باعتبارها الهيئة المنتخبة من الشعب الفلسطينى وأن تعلن استنكارها للسياسة التى يمثلها أبو مازن وهى ممالأة أمريكا واسرائيل، واستعداده دائماً للتعاون معهما، وإفشاله المتعمد لأى تفاهم مع حماس من أجل حكومة وحدة وطنية. كذلك فإن دور فريق أبى مازن هو الضغط على حماس كى تعترف باسرائيل على طريقة (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء).
إن فريق أبى مازن لم يضع أى مسافة بينه وبين الحلف الصهيونى- الامريكى، وبالتالى لا يمكن التعامل معه على قدم المساواة مع حماس.
والموقف مما يجرى فى فلسطين، هو ذات الموقف الذى يتعين أن نتخذه فى لبنان، نحن كوطنيين- وعرب ومسلمين- لسنا على الحياد بين سنيورة أمريكا والمعارضة اللبنانية، نحن بلا تحفظ مع المعارضة اللبنانية والمقاومة اللبنانية. إن ما يجرى فى لبنان عمل تاريخى بكل معنى الكلمة. (نفصل ذلك فى المقال القادم إن شاء الله).