بقلم: د. أحمد مصطفى لم يعد أمام المرء إلا دعاء العجائز والتضرع إلى السماء أن ترحم من في الارض طالما ان أهل الأرض جميعا اتفقوا على الظلم والطغيان، واستكان من تسلب حقوقهم لرغد العيش الذليل. أقول قولي هذا وبضع مئات من الفلسطينيين، اسرى الاحتلال في ارضهم، يتصدون بصدورهم العارية وقلوبهم المليئة بالايمان بالحق وبسلاح الشجاعة لقطعان المتطرفين الصهاينة التي تدنس بيت الله المبارك حوله في حماية شرطة الاحتلال العنصرية. ومع ان القدس والاقصى تحديدا يتعرض للعدوان بشكل دائم، إلا ان الارهاب الصهيوني يصعد من طغيانه في اختبار لردود الفعل حتى يأتي على ما تبقى من عاصمة فلسطين التاريخية ويهدم قبلة المسلمين الاولى ليقيم مكانها هيكلا مزعوما. وجاءت نتيجة الاختبار في غاية الروعة للمحتل الصهيوني، اذ كان رد مليار ونصف المليار مسلم، ربعهم من العرب، شديد اللهجة خاليا من أي معنى. فقد اعربت جامعة الدول العربية عن استنكارها ونددت منظمة المؤتمر الاسلامي وان لم يصل صوت المؤسستين ابعد من فضاء القاهرةوجدة، حيث تتواجدان. وفي ظل ما نرى الان، لا يظن المرء ان انهيار احد جدران الاقصى الشريف غدا، تحت وطأة الحفريات والانفاق، التي يحفرها الصهاينة أسفله منذ زمن، سيثير حمية احد خارج فلسطين. وان تظاهر بضع مئات هناك او هناك، فأكثرهم ربما يكون في باكستان او اندونيسيا. فالعرب مشغولون حتى اذانهم في مواجهة الضغوط الاميركية لتقديم التنازلات للكيان الصهيوني كي يرضى عنهم ويجلس مع الفلسطينيين في مفاوضات عبثية هدفها النهائي الإجهاز على ما تبقى من حقوق الشعب الفلسطيني. هل يمكن ان يجزع العرب والمسلمون لو افاقوا غدا ليجدوا هيكلا مكان الاقصى وقبة الصخرة، او على جزء من مكانهما وقد أحيلا الى منتجعات للسياحة الدينية لمتطرفي العالم؟ ربما، ثم يعبرون عن جزعهم ببيانات ومقالات وتحليلات في الفضائيات وينصرف كل منهم الى حال سبيله وكأنه ادى الواجب. وان ظل حالنا هكذا فلا لوم الا على انفسنا حين تصبح كل رموزنا ومقدساتنا ملونة بالازرق والابيض وتعلوها ايات التلمود بالعبرية الفصحى. وباستثناء الفلسطينيين واللبنانيين، نسي بقية العرب والمسلمين والمسيحيين وحتى اليهود الشرقيون دماء ضحايا النازية الجديدة والعنصرية الدموية للحركة الصهيونية، واصبح الجميع "يتطلع لمستقبل افضل في ظل علاقات طبيعية مع الدولة العبرية". هذه هي "طبيعية" الاحتلال: نسف هوية الآخر أو هو نسفه تماما، وأعداد الشهداء تكفي للدلالة. منذ سنوات، قررت الانظمة العربية رسميا وعلنا انها لم تعد قادرة على قطع مشوار استعادة الحقوق، وان خيارها الوحيد هو السلام، وقيل للرازحين تحت الاحتلال اذهبوا انتم وربكم فحاربوا إنا ها هنا مستسلمون. وكأن ذلك لم يكف، فطلب منهم الا يؤازروا اخوانهم بالدعاء فصمتوا حتى عن التأييد والتعضيد اللفظي ، ناهيك عن السياسي والمادي. ثم طمع فيهم عدوهم اكثر، وهو يرى خنوعا لم يتصوره، فصاح فيهم ان يخنقوا اهلهم لانهم مشاغبون ففعلوا صاغرين. ولما حاق بهم ما فعلوا، او كاد، لم يعد لديهم من المروءة ما يمكنهم من التعبير حتى عن الغضب. وأصبح بقية العالم من اميركا اللاتينية واوروبا يغضبون نيابة عنا. من الصعب الان استنهاض همم من استكانوا، لكن هناك مئات الملايين من البسطاء امثالي الذين لم يشاركوا في صياغة استراتيجية الامة وخطها العبثي. ومن ثم لا يجوز ان نلتزم بما لا نراه خيارنا، وعلينا نحن ان نجد وسيلة للتعبير بها عن غضبنا مما يجري لمقدساتنا واهلنا تكون اكثر فاعلية من مجرد بيانات لا تساوي قيمة ما كتبت به من حبر. ان لنا عدوا لا يعرف لغة المهادنة ولا يفهم الا القوة وليست القوة دوما في السلاح ، بل هناك اشكال كثيرة نملك منها ما يكفي. واذا كنا في غفلة من امرنا تخلينا عن تلك الاسلحة من مقاطعة وغيرها فان المطالب الاميركية الحالية للدول العربية تثبت انها لا تزال اسلحة فاعلة. ولا يكفي هنا التذكير بها، بل العمل الجاد والفوري كل في موقعه ومكانه يمكنه ان يسهم في مقاطعة الصهاينة والتعبير عن غضبه بوضوح ودون تجاوز للقوانين. لا أدعي اني املك استراتيجية وبرنامجا محددا، لكن الامم التي تبغي التقدم تبتكر دوما ما تحقق به اهدافها. ولتكن الخطوة الاولى قدرا من الاعتداد بالنفس دون نزق او حماقة، ولنعلي من شأن انفسنا ليقدر الاخرون اننا نستحق اخذنا في الاعتبار. فلنعامل المحتل وأعوانه بندية، ولا نحني الرؤس لكل "خواجة" ونحن نطفح بعقد الدونية ومركبات النقص. وكل ذلك من أجل وهم أن ننعم بحياة مستقرة، ما هي إلا مذلة ان يتركك عدوك تحيا لغرض انه لا يطيق العيش بدون خصم ضعيف يتلذذ بسلبه حقه وهزيمته يوميا. لدى كل منا وسيلة بالتأكيد ليعبر بها عن غضبه من تدنيس الاقصى وتهويد القدس ، سواء بالقول او الفعل في اطار ما تسمح به قوانين مجتمعاتنا من تظاهرات حاشدة الى حملات مقاطعة فاعلة ليس للصهاينة فحسب، بل ولكل من يواليهم ويعينهم على عدوانهم الدائم. واضعف الايمان ان نفعل مثل محرر الهند العظيم، مهندس غاندي، اذا كنا ممن لا وسيلة لديهم للفعل والتعبير المباشر. وليس مطلوبا تجييش الجيوش ولا شن المعارك، فللبيت رب يحميه وما علينا الا ان نحمي انفسنا.