ما إن تقع عيناك على وجهها الأبيض المبتسم حتى يسكنك شعور غريب يدفعك للاقتراب منها برهبة ووقار شديدين. فهي شامخة كشموخ الجبال تتلمس في قوتها الخير في الأمة كلها من خير النساء التي تتميز بشجاعتها ونضالها بعد رحلة حافلة بالجهاد والدعوة والعمل السياسي أضاءت فيها أم الأحرار "خنساء فلسطين" تاريخ الوطن بشعلة من نور بعدما قدمت ثلاثة من أبنائها شهداء إلى جانب سيل من التضحيات المتنوعة أعادت إلى الأذهان بطولات النساء العظام في التاريخ الإسلامي فهذه "نسيبة بنت كعب بن عمرو" الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما التفت يمينا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني"، وهذه "أم سليم" كان معها خنجر يوم "حنين" وهي حامل تدافع به عن نفسها، وهذه "الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس" التي أبت أن تترك حبسة السوق، وهذه "صفية بنت عبد المطلب" التي دافعت عن حصن نساء الخندق وقتلت اليهودي، وهذه "مريم فرحات" أم نضال التي ما استكانت وما خضعت وأبت إلا أن تستكمل كفاحها حتى قدمت لله ثلاثة شهداء. من الخنساء؟ هي "مريم محمد يوسف محيسن"، والشهيرة بلقب "خنساء فلسطين" ولدت في 24 ديسمبر عام 1949 بحي الشجاعية الباسل بغزة لأسرة بسيطة ومتدينة ولديها عشرة من الإخوة وخمس أخوات، وتعود أصول عائلتها عائلة "محيسن" إلى عائلة " المغني"، وهي عائلة كبيرة العدد في حي الشجاعية ومن أقدم العائلات الغزية . تفوقت "أم نضال" في دراستها التي واصلتها حتى تزوجت بفتحي فرحات وكان ذلك في بداية الثانوية العامة في مدرسة الزهراء، وقدمت امتحانات الثانوية وهي حامل بمولودها الأول وحصلت على 80%.. نضال الخنساء أطلق عليها خنساء فلسطين هو لقب تجسد من سير التاريخ في امرأة عربية قدمت أبناءها في سبيل تحرير فلسطين ثم عقدت الشعر في فراقهم فرحة باستشهادهم. قدمت أم نضال ثلاثة من أبنائها شهداء في سبيل الله فكان أولهم الاستشهادي "محمد فرحات"، والتي كانت أول أم فلسطينية تودع ابنها وهو خارجٍ إلى عملية استشهادية وكانت توصيه بألا يعود إليها إلا مثخنا في عدوه محمولا على أكتاف الرجال. فقد ملكت أم نضال قلوب الفلسطينيين عندما ظهرت مطلع العام 2002 في شريط فيديو وهي تودع نجلها الشهيد القسامي "محمد" لتنفيذ عملية نوعية في مغتصبة "عتصمونا"؛ حيث تمكن من قتل وإصابة عدد من الجنود الصهاينة لتكون أول حالة رسمية توثق وداع ابنها لعمل استشهادي. وقدمت ابنها الثاني وهو البكر مهندس صواريخ القسام "نضال فرحات" في انفجار كبير كان يجهز فيه مجموعة من المجاهدين العبوات الناسفة حتى تنال من عدوهم فكان لا يتردد على لسانها إلا كلمات الشكر والحمد لله بأن أكرمها باستشهاد نجلها الثاني. أما ابنها الثالث "رواد فرحات" وهو الأوسط بين إخوانه إلى أن نالت الطائرات الحربية الصهيونية عام 2005، وما كان منها إلا أن كانت تصبر النساء والناس الذين كانوا يأتون لمواساتها والذين كانوا يظنون أنها لن تحتمل فراق ثلاثة من أبنائها الذين ربتهم على الدين والقرآن والأخلاق الحميدة فكانت نموذجا رائعا يضرب فيه الأمثال ويسجل للتاريخ. لم تجزع أم نضال فرحات عند سماعها بنبأ استشهاد ابنها "رواد" بل قالت بصوت ملؤه الثبات أنها مستعدة لتقديم كل أبنائها للمقاومة. لم تبدأ فصول مقارعة "أم نضال" للعدو الصهيوني بدفع ابنها "محمد" للجهاد بل في عام 1992؛ حيث آوت في بيتها المتواضع المناضل الذي وصفه الإسرائيليون "بذي الأرواح السبعة" القائد "عماد عقل" قائد الجناح العسكري لحركة "حماس" والذي استشهد في منزلها بعد أن تحول إلى جبهة حرب بينه وبين ما يزيد عن مائتي جندي صهيوني قبل اقتحامهم المنزل واستشهاد عماد عقل. ومن يومها أصبح بيتها مأوى للمجاهدين والأبطال حتى باغتت الطائرات الحربية الصهيوني بيتها بقصفه أكثر من مرة. إنسانية "أم نضال" عندما عرضت حكومة إسماعيل هنية على أم نضال إعادة بناء بيتها بعد قصفه أكثر من ثلاث مرات رفضت ذلك إلا بعد ترميم جميع الدمار الذي لحق ببيوت جيرانها جراء القصف ما دل على العمق الإنساني الذي كانت تحمله أم نضال بجانب جهادها ونضالها. وهي الأرملة وأم لستة أبناء وأربع بنات كل أبنائها في كتائب القسام استشهد منهم ثلاثة نضال فرحات ومحمد فرحات ورواد فرحات، وأم لأسير منذ 11 عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي والأم الروحية للشباب المجاهدين، قصف منزلها أربع مرات. وهي أحد أعلام حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين وعضو في المجلس التشريعي الفلسطيني. وفاة الخنساء في صبيحة يوم 17مارس 2013 توفيت النائبة بالمجلس التشريعي الفلسطيني المجاهدة الصابرة "مريم فرحات" في مستشفى الشفاء بقطاع غزة بعد صراع مع المرض استمر سنوات طويلة . تناوب على حمل جثمانها قادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وعلى رأسهم رئيس الوزراء آنذاك إسماعيل هنية، ورئيس المجلس التشريعي بالإنابة أحمد بحر، ومجاهدو القسام، وحضر صلاة الجنازة وتبعها جمع غفير من كافة الفصائل الفلسطينية ومعظم قادة حماس ووزرائها، ونواب في المجلس التشريعي، وأحيط الجثمان بمجاهدي كتائب القسام وألقى إسماعيل هنية كلمة في المسجد الذي صلي عليها فيه . نامت فلسطين تدمع يوم فراقها فلقد فقدت مثالاً نادر الحدوث وأم لكل فلسطين.