تقع أستراليا على المستوى الاستراتيجي على تقاطع مصالح مع أميركا والصين، وتشهد نقاشًا داخليًّا حول ما إذا كان عليها أن تتبنى سياسة " الاعتماد الاستراتيجي" على حليفها الأمريكي؛ الذي تلتقي معه في القيم الغربية والثقافة لحفظ أمنها ومصالحها على المدى الطويل، أو التزام " الاستقلال الاستراتيجي" عن واشنطن كي لا تجد نفسها في مواجهة الصين، شريكها التجاري الأول الذي تعتمد عليه اقتصاديًّا. وخرج الكتاب الأبيض الدفاعي الأسترالي لعام 2013 من هذه المعضلة بالإبقاء على التحالف مع واشنطن، ومن ذلك الاتفاقية العسكرية التي تم التوقيع عليها عام 2014، وتتضمن تعاونًا بين الطرفين لمدة 25 عامًا، وكذلك باستمرار التعاون المتزايد مع الصين؛ ومن نتيجته أنه تمَّ التوقيع على اتفاق تاريخي مع بكين عام 2014 أيضًا؛ ويقضي بإقامة منطقة تجارة حرَّة، وتخفيف القيود على الاستثمارات الصينية؛ ولكن سياسة الموازنة الأسترالية لمصالحها بين هذين الحليفين أمر صعب ومرهون بمواقف الشريكين الأمريكي والصيني، وبتطورات المنطقة التي تعجُّ بالمنافسة وبكثرة الفاعلين. ازداد النقاش في السنوات الأخيرة في أوساط النخب الأسترالية -ولاسيما بعد الأزمة المالية العالمية ودخول أستراليا نادي العشرين الكبار في العالم (G20)- حول قوَّة أستراليا وماهية نفوذها وتأثيرها وموقعها كقوَّة متوسِّطَة في الخارطة العالمية، وعمَّا إذا كان ذلك يؤهِّلها لأن تتخطَّى حقيقة كونها لاعبًا إقليميًّا إلى المجال الدولي؛ لكنَّ النقاش الأهم الذي حظي بميزة مؤخَّرًا هو النقاش المتعلِّق بالكيفيَّة التي يجب على أستراليا أن تدير بها علاقاتها مع كلٍّ من الولايات المتَّحدة والصين في سياق الصعود الصيني على المستوى العالمي والتراجع الأميركي في ظلِّ علاقات عسكرية أسترالية-أميركية متزايدة، وبالمقابل علاقات اقتصادية أسترالية-صينية متعاظمة، وهو الخيار الذي من الممكن أن تواجهه العديد من الدول في مناطق مختلفة من العالم؛ ومنها منطقة الشرق الأوسط.
مصادر القوَّة لدى أستراليا تُصَنَّف أستراليا على أنَّها "قوَّة متوسِّطة"، تسعى إلى تأدية دور أكبر في محيطها الإقليمي وعلى المستوى العالمي؛ وهي تستمدُّ قوَّتها الحالية من ثلاثة عوامل تحظى بأهمِّيَّة متزايدة لتحقيق طموحها في أن تصبح أكثر فعالية؛ هذه العوامل هي: 1) الموقع الجغرافي تُعَدُّ أستراليا قارة وجزيرة ودولة في الوقت نفسه، منحها موقعها الفريد عزلة جغرافية مائية؛ ظلَّت بالنسبة إلى الأستراليين على الدوام عامل قوَّة؛ تجعل التهديدات بعيدة عنهم، وتجعلهم بمثابة القلعة المحاطة بالمياه، ولأنَّه من الصعب الوصول إليها، لم يكن هناك حاجة ملحَّة لتطوير قدراتها العسكرية تاريخيًّا، وكان يمكن لأستراليا الاعتماد على حليف من الخارج ليسدَّ هذه الثغرة حال وجود مخاطر، وقد صنَّفها البعض جيوبوليتيكيًّا على أنَّها دولة هامشية، أو دولة معلَّقة بين القارات أو على أطراف القارات؛ لكن الأمور سرعان ما بدأت تتغيَّر، وتحوَّلَ موقعها الجغرافي إلى العنصر الأهم في المعادلة؛ خاصَّة فيما يتعلَّق بموقعها أسفل منطقة جنوب شرق آسيا، وصعود الصين، وتعاظم المخاطر الناجمة عن التنافس أو حالة العداء التاريخي أو الصراع على الجزر والحدود المائية أو البريَّة في المنطقة الممتدة من شرق آسيا وحتى الهند، وتحوَّلَ التركيز الأمريكي -أيضًا- إلى شرق آسيا، كلها عوامل أدَّت إلى تزايد أهمِّيَّة أستراليا التي تقع على مدخل كل هذه المعادلات. 2) الموارد الطبيعية ولاسيما الغاز المسال بلغت صادرات أستراليا من الموارد الطبيعية والسلع المعدنية لعام 2013/2014 حوالي 195 مليار دولار، وتأتي صادرات الحديد الخام في المرتبة الأولى؛ حيث تؤمِّن حوالي 75 مليار دولار، وبعدها صادرات الفحم بحوالي 40 مليار دولار، والغاز المسال بحوالي 16 مليار دولار، والذهب بحوالي 13 مليار دولار. وتحتل أستراليا المركز 13 في قائمة أكبر منتجي الغاز، والمرتبة 11 في قائمة الدول التي تمتلك أكبر احتياطي للغاز في العالم، وعلى الرغم من أنَّ هذه الأرقام متواضعة نسبيًّا؛ فإنَّ موقع أستراليا الجغرافي والتطورات الإقليمية الاقتصادية تعطيها أهمِّيَّة متزايدة؛ نظرًا إلى ما تمثِّله صادراتها من الموادِّ الأولية من أهمِّيَّة استثنائية لدول المنطقة من جهة، وللحفاظ على نموِّ اقتصادها وزيادة دخلها القومي من جهة أخرى. على المستوى العالمي، تمتلك أستراليا أكبر احتياطي يورانيوم في العالم؛ حوالي 32% وفق إحصاءات عام 2012، وهي تُعَدُّ ثاني أكبر مُصَدِّر للفحم (2012)، وثالث أكبر مُصَدِّر للغاز المسال(2013)، وثالث أكبر منتج ومُصَدِّر لليورانيوم. على الصعيد الإقليمي، تُعَدُّ أستراليا رابع أكبر منتج للغاز بعد الصين وإندونيسيا وماليزيا، ورابع أكبر مُزَوِّد للغاز للدول الكبرى المستوردة في آسيا، وتُشير تقارير غربية عديدة إلى أنَّ أستراليا قد تتحوَّل في القريب العاجل إلى قوَّة مؤثِّرة في مجال تجارة "الغاز المسال"، وأنَّها قد تتقدَّم حتى على قطر في مجال صادرات الغاز المسال ما بين 2018 و2020؛ حيث تمَّ استثمار حوالي 200 مليار دولار لتطوير هذه الصناعة، ومن المتوقَّع أن تزيد صادرات البلاد منه لعام 2015/2016 بنسبة 70%، وثمَّ بنسبة 42% سنويًّا حتى عام 2018 لتُسهم هذه الصادرات وحدها بنموٍّ في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة حوالي 0.7% على مدى ثلاث سنوات. 3) القدرات العسكرية المتزايدة تنفق أستراليا حاليًّا حوالي 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد على الدفاع؛ وهي تحتلُّ المرتبة 12 عالميًّا في الإنفاق العسكري وفقًا لأرقام "التوازن العسكري العالمي" الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية لعام 2013؛ أي مباشرة خلف دولة مثل كوريا الجنوبية، التي تخضع لتهديدات إقليمية مباشرة؛ أما إذا قيس الإنفاق الدفاعي نسبة إلى عدد السكان؛ فتحتل أستراليا حينها المرتبة ال 6 عالميًّا متقدِّمة على المملكة المتحدة. شهدت الموازنة الدفاعية الأسترالية لعام 2014/2015 زيادة ملحوظة في الإنفاق الدفاعي مقارنة بالسنوات السابقة؛ وبلغت 29.3 مليار دولار، وهو ما يتماشى مع التعهدات السابقة بإنفاق حوالي 2% من الناتج المحلي الإجمالي لأستراليا على الدفاع لمدَّة عشر سنوات تقريبًا؛ أي كسقف حلف شمال الأطلسي الذي يشير إلى إنفاق البعض 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. ويتم التركيز على زيادة الإنفاق العسكري بما يعكس القوة الأسترالية المتنامية في مجالها الإقليمي من جهة، ونظرًا إلى التهديدات المتعاظمة من جهة أخرى. تحوُّل البيئة الاستراتيجية لأستراليا لا تنبع أهميَّة أستراليا من المعطيات المذكورة أعلاه فقط؛ لكن نجمها بدأ يسطع في السنوات الأخيرة لاعتبارات متعلِّقة بالتحول الحاصل في البيئة الجيوستراتيجية لأستراليا؛ التي تعطيها أهميَّة أعظم ووزنًا أكبر، لاسيما تلك المرتبطة بشكل أساسي بانتقال القوة والثروة على المستوى العالمي من الغرب إلى الشرق، وتحوُّل منطقة (آسيا/الهادئ) إلى منطقة تضمُّ العديد من القوى المتنافسة التي تتمتَّع بوزن ثقيل في المسرح العالمي على الصعيد الاقتصادي والديمغرافي والعسكري والاستراتيجي، ومن المتوقَّع بحلول عام 2040 أن تقوم منطقة شرق وجنوب آسيا بأكبر إسهام في الناتج المحلي الإجمالي على الصعيد العالمي مقارنة بغيرها من المناطق، وفي قلبها الصينوالهند؛ بما يمثِّلانه ديموغرافيًّا (أكثر من 50% من سكان العالم حينها). وعلى الصعيد الملاحي، فإن المحيط الهندي آخذ في التحوُّل إلى أكثر خطٍّ ملاحي تجاري مزدحم في العالم، وإذا ما استمرَّ نموُّ اقتصادات "دول آسيان" بالشكل الذي هو عليه اليوم؛ فإن حجم التجارة الدولية التي تتمُّ في غالبها عبر التجارة البحرية ستتركز بشكل أساسي في الطرق البحرية في المحيط الهندي وغرب الهادئ؛ بما في ذلك المياه المتنازع عليها في جنوب وشرق بحر الصين. أضف إلى ذلك أن النمو الاقتصادي للدول المهمَّة في هذه المنطقة سيؤدي إلى زيادة الإنفاق العسكري وتحويل قسم من الثروة إلى بناء قدرات عسكرية مع إرادة أكبر لاستخدام هذه القوة في مجال من التنافس والنزاع في منطقة الهند/الهادئ. والجدير بالذكر أنه في السنوات القليلة الماضية أخذت المنطقة المحيطة بأستراليا في التحوُّل إلى منطقة مركزيَّة بالنسبة إلى التوازنات الدولية في القوى والمصالح؛ لاسيما بين الولايات المتَّحدة الأميركية والصين؛ التي تخطو خطوات سريعة في مسارٍ ما بات يُعرف باسم الصعود الصيني؛ وطالما تمتعت أستراليا بعلاقات منسجمة مع شركائها الاقتصاديين والأمنيين؛ فكان شريكها الاقتصادي الأول حليفًا دومًا لشريكها الأمني أي الولايات المتَّحدة: كاليابان، أو كوريا الجنوبية، أو دول جنوب شرق آسيا؛ لكنَّ الوضع اختلف الآن حيث تحتلُّ الصين مرتبة أكبر شريك اقتصادي لأستراليا، وأصبح اعتماد الاقتصاد الأسترالي على الصين يفوق الاعتماد على أي شريك اقتصادي تجاري آخر خلال ال63 سنة الماضية؛ حتى إنه تجاوز الاعتماد على بريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية؛ مما أطلق مخاوف عديدة لدى شرائح مختلفة في مقابل مخاوف أخرى تتعلَّق بازدياد حجم التعاون العسكري الأسترالي مع الولايات المتَّحدة، واستضافة جنود وقواعد أميركية في البلاد؛ وهو ما يحمل معه إمكانية استفزاز الصين، الأمر الذي يضع أستراليا في موقف ضعيف للغاية بين شريكها الأمني وشريكها الاقتصادي. أستراليا في حسابات الولاياتالمتحدةوالصين 1) كيف تنظر الولاياتالمتحدة إلى أستراليا؟ شهد عام 2011 تحوُّلاً في استراتيجية الولايات المتَّحدة المعلنة تجاه شرق آسيا، وقد عبَّرت الإدارة الأميركية عن هذا باستراتيجية "التوجه نحو آسيا"، ومهدَّت له وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون بالتأكيد على أهمِّيَّة منطقة المحيط الهادئ بالنسبة إلى السياسة الأميركية في القرن القادم؛ وذلك عبر مقال كتبته في الفورين بوليسي تحت عنوان: "القرن الأميركي في منطقة المحيط الهادئ"، وسجَّل مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون شرق آسيا والهادئ ملاحظة تفيد أن واشنطن انغمست خلال السنوات العشر الماضية في منعطف الشرق الأوسط بشكل كبير، لكنَّ مستقبل الولايات المتَّحدة ستحدِّده بشكل أساسي ورئيس التطورات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ؛ كما قال، وهو أمر ينسجم مع التوجهات الحاصلة آنذاك. وقد عبَّرت الوثائق الأميركية الرسمية بعدها عن هذا المسار؛ حيث ذكرت وثيقةٌ لوزارة الدفاع تحت عنوان: "الحفاظ على القيادة العالمية للولايات المتحدة: أولويات القرن الواحد والعشرين الدفاعية" أنَّ حوالي 60% من قدرات أميركا البحريَّة والجويَّة سيتمُّ نقلها إلى المسرح الآسيوي بحلول عام 2020؛ لتحقيق التوازن المطلوب في منطقة آسيا/الهادئ. ضمن هذا المنظور الواسع تأتي أهميَّة أستراليا؛ لاسيما من الناحية الجيوستراتيجية؛ فالولاياتالمتحدة الشريك الأمني الأول لكانبيرا التي تقع في موقع جغرافي ممتاز يتلاءم مع التوجه الأميركي الجديد، ويجعل منها بمثابة قاعدة لوجستيَّة للاستراتيجية الأميركية التي تهدف إلى تعديل ميزان القوى في المنطقة. وبما أنَّ أستراليا تمتلك القيم الغربية والموقع الآسيوي، وتتمتع -أيضًا- بقوَّات مسلَّحة محترفة ومؤهَّلة، وتمتلك البنية التحتيَّة اللازمة للعمل هناك، فإن هذه المعطيات تجعل المؤسسات الأمنيَّة الأميركية ترى فيها شريكًا متزايد الأهمية، ولا يمكن تعويضه للولايات المتحدة في تلك المنطقة من العالم؛ حتى إن أوباما وصف العلاقة مع أستراليا بأنَّها علاقات لا غنى عنها. وبهذا المعنى فإن أستراليا تقع في صلب الاهتمام الأمني الأميركي في منطقة "الهند/الهادئ"؛ بما يمكن لها أن توفِّره لواشنطن في أن تكون بمثابة محطَّة دعم للعمليات المخصَّصة لمواجه المخاطر القادمة من الشمال، ومنصَّة مراقبة على بوابات جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي، ومحطة متابعة للأمن الملاحي في منطقة هي بمثابة الشريان الحيوي للتجارة العالمية عبر البحر؛ بالإضافة إلى ما يمكن أن تُقَدِّمه أستراليالواشنطن كمحطة دعم لوجستي لقواتها في المنطقة. كما ترى الولايات المتَّحدة أنَّه من الممكن لأستراليا أن تصبح نقطة تقاطع لإقامة علاقات ممتازة مع قوى ديمقراطية صاعدة في المنطقة؛ مثل: الهند، وإندونيسيا، بما يضمن تحقيق توازنات جيوستراتيجية؛ لاسيما في مواجهة الصعود الصيني. 2) كيف تنظر الصين إلى أستراليا؟ نما حجم التجارة البينيَّة بين كلٍّ من أسترالياوالصين بين الأعوام 1972 و2010 من 100 مليون دولار إلى حوالي 120 مليار دولار، وتخطَّت الصينُاليابانَ في عام 2007 كأكبر شريك اقتصادي لأستراليا، وتحوَّلت إلى أكبر سوق للصادرات الأسترالية، وأكبر سوق للواردات الأسترالية مع فائض في ميزان التبادل التجاري لصالح أستراليا بحوالي 47 مليار دولار. تُصَدِّر أستراليا إلى الصين المواد الخام المعدنية، والمواد الخام التي تُستخدَم في صناعة النسيج والمحاصيل الزراعية ومصادر الطاقة، وفي الربع الثاني من عام 2013 ابتاعت الصين أكثر من 35% من صادرات أستراليا؛ أي أكثر من ضعفي ما كانت تشتريه منها قبل حوالي 5 سنوات فقط، وفي عام 2011 تخطَّت بكينُاليابانَ كأكبر مستوعب للصادرات الزراعية الأسترالية. هذه المعطيات تعني أنَّ الصين أصبحت تُولي أهمية متزايدة لأستراليا كمصدر أساسي من مصادر تأمين المواد الأولية والخام اللازمة والضرورية للحفاظ على النموِّ الاقتصادي في البلاد وعلى مسار الصعود الصيني؛ ليس هذا فقط، بل نعود مرَّة أخرى إلى المعطى الجغرافي لأستراليا؛ الذي يجعل الصين تنظر إليها على أنَّها لاعب مهمٌّ في منطقة متزايدة التعقيد لناحية التطورات الجيوستراتيجية الإقليمية وإمكانيَّة التدخلات الخارجية، وأنَّ ربط أستراليابالصين اقتصاديًّا قد يحدُّ من إمكانية استخدامها مستقبلاً من قِبَل قوى أخرى في لعبة تحالفات إقليمية لمواجهة بكين. صحيح أنَّ الصين ترى في أستراليا قوَّة متوسِّطة الحجم على الصعيد الإقليمي والعالمي؛ لكنَّها تعي أنها قوة متوسِّطة فاعلة، وتمتلك دبلوماسية نشطة؛ جعلتها تؤدِّي دورًا في تأسيس "منظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ" (آيبك) وفي قمة شرق آسيا، وأن تصبح عضوًا في نادي العشرين الكبار، وأن تقود في مرات عديدة النقاش العالمي حول ملفات التغير المناخي ونزع الأسلحة النووية؛ وهذا يعكس الطموح الأسترالي في أن تكون قوة متوسطة فاعلة وحاسمة في منطقة حساسة (منطقة الهند/الهادئ)، وبالتالي هناك مصلحة صينية في عدم دفع أستراليا لأن تصبح قوَّة موازنة في معادلة التنافس الإقليمي بين القوى المتعدِّدة في المنطقة.
أستراليا بين مفهوم "الاعتماد الاستراتيجي" و"الاستقلال الاستراتيجي" 1) المدرسة التقليدية في الثقافة الاستراتيجية الأسترالية تقوم الثقافة الاستراتيجية الأسترالية على مبدأ "الاعتماد الاستراتيجي" على حليف خارجي؛ فعلى الرغم من مرورها بمراحل متعددة؛ فإنَّها اتسمت جميعًا باعتماد البلاد خلال المراحل التاريخية المختلفة على حليف غربي قوي، تمثَّل بداية في المملكة المتَّحدة، ثم استبدلته فيما بعد بالولايات المتَّحدة الأميركية مع تحوُّل الأخيرة إلى قوة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية. ولهذا المذهب أنصار في أوساط المفكرين والباحثين وصانعي القرار الأستراليين؛ لعلَّ أبرزهم الداعين إلى تقوية التحالف مع الولايات المتَّحدة الأميركية إلى أقصى حدٍّ ممكن؛ فهؤلاء يعتبرون أنَّه على أستراليا تقوية تحالفها مع الولايات المتَّحدة الأميركية إلى الحدِّ الأقصى لموازنة الصعود الصيني؛ الذي قد يُشَكِّل خطرًا محتملاً على أستراليا والمصالح الأسترالية خلال مرحلة لاحقة؛ لاسيما مع تصاعد القدرات العسكرية الصينية والنزاعات الإقليمية. ويرى أنصار هذا التيار أنَّ هناك تصاعدًا في الحزم الصيني على المستوى الإقليمي، وأنَّه يجب على أستراليا أن تتخذ مبادرات تعبِّر من خلالها عن تضامنها الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة؛ وذلك بما يُسهم وبشكل فاعل في تقوية التحالف مع واشنطن، ويُشَجِّع هذه الأخيرة على أن تحافظ على التزاماتها الأمنية الإقليمية، وعلى الرفع من درجة متانة ومصداقية التحالف كعنصر رادع. ويرى هؤلاء أنَّ الطريقة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف هو أن تمتلك أستراليا القدرات التي تخوِّلها الإسهام الفعلي والفعال في التعامل مع أي أزمة أو نزاع إقليمي، وأن تمتلك القدرة العسكرية التي تخولها الدفاع عن أراضيها بشكل فعال أمام أي هجوم من أي قوة آسيوية؛ لا بل أن تنقل المعركة - أيضًا- بمساعدة الولاياتالمتحدة إلى أرض العدو؛ بمعنى آخر: يرى هؤلاء أنَّه يجب على القوات العسكرية الأسترالية أن تتبنى سياسة "الردع بالعقاب"، وليس "الردع بالحرمان". 2) المدرسة التغييريَّة في الثقافة الاستراتيجية الأسترالية ظهر خلال السنوات القليلة الماضية تركيزٌ على مذهب استراتيجي جديد؛ ألا وهو "الاستقلال الاستراتيجي"؛ يُشَكِّك أنصار هذه المدرسة بفعالية " الاعتماد الاستراتيجي" على الحليف الخارجي، ويرون ضرورة أن تقوم أستراليا باعتماد مبدأ "الاستقلال الاستراتيجي". وينطلق هؤلاء في تسويق هذه الفكرة من معطيات يرون أنها تشير إلى أنَّ قدرة الولايات المتَّحدة في المحافظة على موقعها المتقدِّم كضامن أمني يتمتَّع بمصداقية على المدى البعيد آخذة في التراجع، كما أنَّ رؤيتهم المستقبلية للمنطقة تعتمد على فرضية استمرار الصعود الصيني والتراجع الأمريكي. ولهذا المذهب -أيضًا- أنصار في أوساط المفكرين والباحثين وصناع القرار الأستراليين؛ لعلَّ أبرزهم الداعون إلى تخفيض حجم ونوع التحالف مع الولايات المتَّحدة إلى أقصى حدٍّ ممكن؛ فهؤلاء يرون أنَّه على أستراليا البحث عن سياسة أمنيَّة مستقلَّة، وعلى أن تبقي على هامش التنافس الأميركي-الصيني المتزايد؛ لكي لا تجد نفسها يومًا معلَّقة وسط صراع مدمِّر بين الطرفين، وأنَّه من غير الضروري أن تتخذ أستراليا خطوات قد تراها بكِّين استفزازية. 3) النقاش الرسمي يُعَدُّ رئيس الوزراء الأسترالي السابق مالكوم فرايزر من أبرز أنصار المدرسة الثانية، وألَّف كتابًا حول الموضوع بعنوان: "حلفاء أستراليا الخطيرون". يرى فرايزر أنَّ اعتماد أستراليا على بريطانيا جعلها غير مستعدة لمواجهة المخاطر الأمنية والعسكرية والحرب؛ وهو ما أدَّى في النهاية إلى أن تنقل اعتمادها الاستراتيجي من بريطانيا إلى الولايات المتَّحدة الأميركية في نهاية عام 1941؛ وذلك لأنَّ المصالح الاستراتيجية المباشرة للطرفين أصبحت متناقضة؛ إذ إنَّ أولوية بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية كانت مواجهة ألمانيا؛ بينما كانت أولوية أستراليا مواجهة اليابان، وإنَّ حظ أستراليا في ذلك الوقت كان جيدًا لأنَّ عملية بيرل هاربر أدخلت الولايات المتَّحدة الحرب، وأصبح من الممكن الاعتماد على واشنطن لسدِّ الثغرة الخطيرة التي تركتها بريطانيا. ويعتبر فرايزر أنَّ إيمان أستراليا الأعمى ببريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية تركها في موقع ضعيف وغير جاهزة للحرب، وأن الاعتماد على أميركا بالطريق نفسه قد يجعل من أستراليا في موقع أضعف أيضًا؛ خاصة إذا ما تمَّ جرَّها إلى مربَّع التنافس أو الصراع الأمريكي-الصيني في المنطقة. وعندما صعدت اليابان في شرق آسيا وبدأت بالتوسع إقليميًّا، لم تستطع أستراليا أن تفعل شيئًا، أو حتى تدين السلوك الياباني؛ لأن أستراليا كانت مرتبطة اقتصاديًّا إلى حدٍّ بعيد باليابان من جهة، ولأنَّ حليفها الأمني (بريطانيا) كان بعيدًا جغرافيًّا عنها ولن يكون حاضرًا في الوقت المناسب للدفاع عنها أمام أي أخطار يابانية (أمر مشابه اليوم لعلاقات أستراليا مع الصينوالولاياتالمتحدة الأميركية)، وعليه فإن الاعتماد الاستراتيجي على الولاياتالمتحدة قد يترك أستراليا في وضع مشابه اليوم. في المقابل، فإن حكومة توني أبوت الأخيرة كانت من مؤيدي تيار تعزيز التحالف مع أميركا إلى أقصى حدٍّ ممكن؛ كما أنَّ وزير الخارجية الأسترالي السابق كيفين رود سبق له أن شدَّد على ضرورة إظهار القوة والتماسك في وجه الحزم الصيني، ولكن مع تعزيز الاتصالات والتعاون العسكري الأميركي-الصيني من أجل خلق مساحات تعاون أكبر. التوجهات المستقبلية لأستراليا في الكتاب الأبيض الدفاعي الأسترالي لعام 2013، تمَّ التوصُّل إلى حلٍّ وسط لهذا النقاش؛ إذ يُشير الكتاب إلى موقف الحكومة من هذا الوضع بالقول: "الحكومة لا تؤمن بأنَّه يجب على أستراليا الاختيار بين تحالفها الطويل الأمد مع الولاياتالمتحدة الأميركية وبين علاقاتها المتزايدة مع الصين... ولا ترى الولاياتالمتحدةوالصين -أيضًا- أنه يجب علينا أن نتخذ مثل هذا الخيار". وهو ما تمَّ -أيضًا- الإشارة إليه في وثيقة النقاشات الخاصة بالتحضير للكتاب الأبيض لعام 2015(28). عمليًّا، قامت أستراليا بخطوات صارخة في اتجاه كلٍّ من الولاياتالمتحدةوالصين خلال العام الماضي، فعدا استضافتها لقوات أميركية، فإنه تَمَّ التوقيع في أغسطس 2014 على اتفاقية عسكرية لمدة 25 عامًا تسمح باستضافة قوات جويَّة أميركية بما فيها المقاتلات والقاذفات الجوية، إضافة إلى القوات البحرية الأميركية بما في ذلك الغواصات؛ كما تمَّ الاتفاق على تعزيز التعاون العسكري؛ ولاسيما في مجال القوات الخاصة والتدريب العسكري والفضاء والمجال الإلكتروني والدفاع الصاروخي. وفي المقابل، قامت أستراليا فيما يبدو أنَّها خطوة موازنة بتوقيع اتفاق تاريخي مع الصين في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 يقضي بإقامة منطقة تجارة حرة؛ وذلك بعد مفاوضات استمرَّت عقدًا من الزمان، ويفتح أسواقًا قيمتها مليارات الدولارات أمام مصدري المنتجات الزراعية الأستراليين وقطاع الخدمات، في الوقت الذي تخفف فيه القيود على الاستثمارات الصينية في أستراليا الغنية بالموارد الطبيعية. حتى الآن تبدو أستراليا واعية للخطوات المتوازنة التي تقوم بها؛ لكن ما يحكم استمرارها أو مدى نجاعتها لا يتعلَّق بعلاقاتها المباشرة مع كلٍّ من واشنطنوبكين بقدر ما يتعلق -أيضًا- بتأثير كلٍّ من هاتين الدولتين عليها من جهة، وعلاقاتهما الثنائية مع بعضهما البعض من جهة أخرى، ولعبة التوازنات الإقليمية التي قد تكون الخيار الوحيد مستقبلاً لاحتواء الصين؛ الأمر الذي يتطلَّب التعاون مع اليابان وتايوان وإندونيسيا والهند، هذا على فرض أنَّ الصين واصلت صعودها على المستوى العالمي، ولم تُوَاجِه أي مشاكل خطيرة تعرقل هذا الصعود أو تنهيه. ويُعَدُّ التنظير ل"تحالف الديمقراطيات الصاعدة" في محيط أستراليا أو "تحالف القوى المتوسطة" هو المفتاح بالنسبة إلى البعض للحفاظ على التوازن في العلاقة مع الصين من جهة والولاياتالمتحدة من جهة أخرى؛ لكنَّ ذلك يتطلَّب العمل على ترتيبات بين هذه الدول الإقليمية تتعاون من خلالها على مواضيع استراتيجية مشتركة لا تشرك فيها الصين أو الولاياتالمتحدة، وتعمل على مبادرات (أمنية وسياسية ودبلوماسية.. إلخ)، لتؤثِّر على حسابات كلٍّ من بكينوواشنطن؛ حتى يتمَّ الحفاظ على التوازن في العلاقة، والابتعاد عن التأثيرات السلبية للتنافس بين الطرفين، وهو أمر لا يبدو أنه سهل المنال أو قريب التحقُّق حتى الآن. المصدر: الجزيرة