اصدر "ائتلاف المؤسسات الاهلية للدفاع عن حقوق المقدسيين " بالتعاون مع "مركز القدس للديمقراطية وحقوق الانسان " مؤخرا تقريرا عن الانتهاكات الاسرائيلية الخطيرة لحقوق الانسان وقواعد القانون الدولي ، بمواصلة الممارسات العنصرية وعملية التطهير العرقي ضد المواطنين العرب بالقدس ، وكانت اسبوعية "الحقيقة الدولية" الاردنية قد نشرت في 30/8/2006 دراسة لنواف الزرو ، الكاتب المختص في الصراع العربي – الصهيوني ، جاء فيها أن رئيس بلدية القدس أورى لوبوسكي كشف النقاب عن خمسين مخطط هيكلي في طور الانجاز خلال عامين لتغيير جغرافية القدسالشرقية ، ولمضاعفة الاستيطان فيها ، لطمس هويتها العربية وتأكيد تكريس القدس الكبرى عاصمة ابدية لاسرائيل . ومن جملة ما هو مخطط له تحويل المسجد الاقصى وكنيسة القيامة الى متحفين . فيما يجري استكمال بناء جدار الفصل العنصري في منطقة القدس لاحكام عزلها عن بقية الضفة الغربيةالمحتلة .
والتخطيط للاستيلاء على القدس وتهويدها قديم قدم التفكير باقامة المشروع الصهيوني ، إذ احتلت القدس موقعا متميزا في الفكر والعمل الاستعماريين لاقامته . ففي سنة 1838 اقامت بريطانيا اول قنصلية لها بالقدس ، وجعلت في مقدمة مهام نائب القنصل "حماية اليهود باعتبار ذلك من مهام الدولة " . وقد حصلت على امتياز "حماية " يهود الامبراطورية العثمانية لقاء دورها في حماية العرش العثماني من طموحات محمد علي . وتحت ضغط المداخلات البريطانية المكثفة اصدر السلطان عبدالمجيد سنة 1849 فرمانا باجازة امتلاك اليهود الاراضي في فلسطين واقامتهم بالقدس ، التي كانوا ممنوعين منها منذ سنة 70 م . وذلك ما استغله كل من الكولونيل تشارلز هنري تشرتشل – جد ونستون تشرتشل - والمليونير اليهودي البريطاني موسى مونتفيوري في دعوتهما اليهود للهجرة الى فلسطين واستيطانها . وقد اقام مونتفيوري سنة 1854 اول مستوطنة بالقدس في الموقع الذي بات يحمل اسمه . وألاحظ أن هذا النشاط الاستعماري تزامن مع حرب القرم التي تسببت بتدفق يهود وسط اوروبا نحو الغرب . وطوال زمن الانتداب اعتبرت الادارة البريطانية والوكالة اليهودية القدس عاصمة "الوطن القومي اليهودي " الجاري انشاؤه ، إذ ضمت مكاتب المؤسسات والادارات الصهيونية كافة ، واقيمت فيها الجامعة العبرية سنة 1925 ، وكثف الاستيطان فيها لدرجة انه عند نهاية الانتداب سنة 1948 قارب عدد مستوطنيها الصهاينة عدد مواطنيها العرب .
وبالمقابل ندر ان تجاوز الاهتمام العربي ، الرسمي والشعبي ، بالقدس الانشداد العاطفي لاولى القبلتين وثالث الحرمين . إذ لم تلق الدعم العملي الذي يرقى لمستوى قدسيتها واهميتها الاستراتيجية ومكانتها التاريخية ، او يوفر الحد الادنى من القوة لمواجهة ما بات يتهددها نتيجة تعاظم القدرات الصهيونية . ويذكر بهجت او غربية انه حتى صدور قرار التقسيم لم يكن قد وصل القدس أي قطعة سلاح من أي مصدر رسمي او شعبي عربي . فيما كان لدى الصهاينة جيش من ستين الفا ، كما ورد في تقرير المندوب السامي البريطاني إثر تفجير الارغون لفندق الملك داود بالقدس في 26/7/1946 .
ومع ان القدس وضواحيها اعتبرت بقرار التقسيم "منطقة دولية" إلا أن الصهاينة بادروا غداة صدوره بالهجوم على الاحياء العربية العزلاء من أي سلاح . والشواهد كثيرة على التواطؤ البريطاني مع الهجمات الصهيونية ، في حين لم تلق عناصر "الجهاد المقدس" حديث التشكل دعما يذكر من "اللجنة العسكرية" التي عهدت اليها الجامعة العربية بادارة الصراع . والثابت ان اللجنة لم تول القدس الحد الادنى من الاهتمام الذي تستحقه بحكم موقعها الاستراتيجي ، وليس فقط اهميتها القومية وقدسيتها عند العرب مسلمين ومسيحيين . وبرغم بسالة وتضحيات العدد المحدود من المقاومين احتل الصهاينة معظم احياء القدسالغربية ، بحيث بلغت الاملاك العربية 70 % من القدسالغربية التي احتلت سنة 1948 .
وفضلا عن التواطؤ مع الصهاينة لم تتعاون حكومة الانتداب مع "لجنة التقسيم" التي شكلتها الاممالمتحدة لتنفيذه . فلا هي سمحت للجنة دخول فلسطين قبل اول آيار / مايو 1948 ، ولا اذنت لبعض موظفي اللجنة بالدخول لاجراء الاتصالات الأولية . كما رفضت الحكومة البريطانية تولي قواتها تنفيذ القرار برغم قدرتها على ذلك ، خلافا لما فعلت تجاه قرار تقسيم القارة الهندية بين الهند وباكستان سنة 1947 . وبذلك كله تكون بريطانيا قد اسهمت عمليا في تمكين الصهاينة من السيطرة على الجزء الاعظم من منطقة القدس المعتبرة دولية بقرار الجمعية العامة للامم المتحدة .
وقبلت اسرائيل عضوا في الاممالمتحدة برغم تجاوزها حدود التقسيم وعدوانها على منطقة القدس المعتبرة دولية ، وفي ذلك قبول ضمني بالتجاوزات الصهيونية . ويذكر انه في سنة 1960 حالت الادارة الامريكية دون محاولة الاردن اتخاذ القدس عاصمة ثانية بنقل مكاتب بعض الوزارات اليها ، وذلك بحجة كون القدس دولية . ولكن الادارة الامريكية لم تعترض على اجراءات التهويد الجارية فصولها منذ خريف 1947 .
وفي اعقاب عدوان 1967 ضمت اسرائيل القدسالشرقية واجازت الاستيطان فيها ، كما وسعت منطقة "القدس الكبرى" بضم نحو 27 % من الضفة الغربية ، ضاربة عرض الحائط باتفاقيات جنيف للعام 1949 التي لا تجيز تغيير معالم "الارض المحتلة ، كما بقرار مجلس الامن رقم 242 بالانسحاب لحدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 . ولم تتخذ الجمعية العامة للامم المتحدة ولا مجلس الامن أي اجراء عقابي يلزم اسرائيل بالالتزام بالقرارات الدولية . وكل ما صدر بهذا الخصوص قرار مجلس الامن رقم 452 الصادر في 20/7/1979 باعتبار المستوطنات غير قانونية وتشكل خرقا لاتفاقية جنيف ، والذي اعاد التذكير بقرار الجمعية العامة باعتبار منطقة القدس دولية .
وألاحظ أن ضم القدسالشرقية وتوسيع منطقة القدس الكبرى اقتصرا على الارض دون مواطنيها اصحاب الوجود الطبيعي والتاريخي فيها . وبسقوط السيادة العربية افتقد مواطنو القدس العرب صفتهم كمواطنين ، وغدوا مجرد مقيمين " اجانب " في مدينة آبائهم واجدادهم ، علاوة على اخضاعم لجملة اجراءات واحكام عنصرية متعسفة . كما انهم تعرضوا لعمليات افساد مبرمجة استهدفت بشكل خاص اجيالهم الشابه . الأمر الذي تسبب بتدني فعاليتهم كبشر وتراجع ارادة المقاومة عند القسط الاعظم منهم ، بحيث غاب الحراك الوطني والفعل المقاوم ، او كادا ، في المدينة التي شكلت إبان سنوات الاحتلال الاولى بؤرة المقاومة .
وبقبول فريق اوسلو ارجاء القدس لمفاوضات المرحلة النهائية اعطت منظمة التحرير الفلسطينية الانطباع بتدني اهمية القدس لديها . ومما ضاعف الاثار السلبية لهذا الانطباع لدى صناع القرار الصهيوني ورعاتهم على جانبي الاطلسي ، كما في اوساط عرب التسوية ، ما ورد في وثيقة محمود عباس – يوسي بيلين حول توسيع منطقة القدس لتشمل قرية ابو ديس ، لتصبح "القدس العربية" مع اعطائها ممرات للمسجد الاقصى وبقية المواقع الدينية .
وبمقدار ما تدل اجراءات التهويد والتطهير العرقي المتوالية ، وتلك المخطط لها ، على استهانة بقرارات "الشرعية الدولية" وتواطؤ صناع قرار "المجتمع الدولي" مع التجاوزات الصهيونية لحقوق الانسان والقوانين والقرارات الدولية ، بقدر ما يدل ذلك على شعور التحالف الامريكي - الصهيوني بافتقاد العرب ، انظمة وشعوبا ، المنعة والقدرة على الدفاع عن حقوقهم المشروعة . وهذا هو التحدي الاستراتيجي والتاريخي الذي يواجه العرب مسلمين ومسيحيين ، تجاه ما يتهدد القدس "عروس عروبتهم" .