إيرادات الأحد.. "روكي الغلابة" الأول و"أحمد وأحمد" في المركز الثاني    القولون العصبي وأورام القولون- 3 أعراض للتفريق بينهما    رابط المناهج المطورة للصفوف من رياض الأطفال وحتى الصف الثاني الإعدادي    غدًا.. إعلان النتيجة الرسمية لانتخابات مجلس الشيوخ 2025 (تفاصيل)    رئيس الوزراء يتوجه إلى عمان للمشاركة في فعاليات الدورة ال33 للجنة العليا المصرية الأردنية المشتركة    تفاصيل قرار تعديل رسوم السحب من "فودافون كاش"    المصريون علمونا كل حاجة.. العبار: الاستثمار والعمل في مصر أفضل من الإمارات    وزير الخارجية: مصر لا تمانع نشر قوات دولية في غزة    الرئيس اللبناني يؤكّد المضي قدماً في تنفيذ قرار تحقيق حصرية السلاح بيد الدولة    طائرتا إطفاء يونانيتان تتجهان لدعم ألبانيا في مواجهة الحرائق    موعد مباراة بيراميدز وأوكلاند سيتي في كأس إنتركونتيننتال للأندية    إقبال كثيف على شواطئ الإسكندرية مع ارتفاع الحرارة ورفع الرايات التحذيرية    لافتة إنسانية.. محافظ الفيوم يعلّق العمل الميداني لعمال النظافة خلال ذروة الموجة الحارة    ماس كهربائي يحوّل شحنة بطاطس إلى رماد على طريق السويس (صور)    كاميرات المراقبة تكشف لحظة دهس 9 أشخاص بكورنيش الإسكندرية (صور)    "تعليم الفيوم" يكرم المتدربين الحاصلين على البرنامج التدريبي "قيادات الغد.. تميز في عصر التكنولوجيا"    محمد قماح بعد فترة الغياب ل«الشروق»: المنافسة في موسم مزدحم تجعل المطرب يكتشف مناطق قوته وضعفه    تفسير رؤية الدجاج في المنام.. الدلالات النفسية    مستشار المفتى يحذر من الذكاء الاصطناعى فى الفتوى: «الاعتماد عليه خطر»    رمضان عبد المعز يفسر قوله تعالى: "وأما بنعمة ربك فحدث"    هل الأموات يسمعون ويراقبون أحوال الأحياء؟.. الإفتاء تجيب (فيديو)    استمرار فعاليات البرنامج الصيفي للطفل بمديرية أوقاف الفيوم بمشاركة الأئمة والواعظات    صحة مطروح: 3720 قرار علاج على نفقة الدولة ب11.2 مليون جنيه منذ بداية 2025    برعاية وزارة الشباب والرياضة.. تكريم شيري عادل في مهرجان إبداع بدورته الخامسة    "الصحفيين الفلسطينيين": استهداف الصحفيين في غزة جريمة ممنهجة لطمس الحقيقة    تداول 56 ألف طن بضائع عامة و693 شاحنة بمواني البحر الأحمر    تقارير: إيفرتون يقترب من حسم إعارة جريليش    ما حكم تأخير الإنجاب فى أول الزواج بسبب الشغل؟ .. عضو بمركز الأزهر تجيب    محافظ الأقصر يبحث مع وفد الصحة رفع كفاءة الوحدات الصحية واستكمال المشروعات الطبية بالمحافظة    تحليل المخدرات شرطا للترشح لعضوية أو رئاسة مجالس إدارات الأندية ومراكز الشباب    «يلوم نفسه».. كيف يتعامل برج العذراء عند تعرضه للتجاهل؟    بدء تداول أسهم شركتي «أرابيا إنفستمنتس» في البورصة المصرية    صراع إيطالي للتعاقد مع نجم مانشستر يونايتد    شوبير: كوبري وسام أبو علي؟ عقده مستمر مع الأهلي حتى 2029    البورصة المصرية تخسر 335 مليون جنيه في ختام تعاملات الاثنين    شيخ الأزهر يستقبل مفتي بوروندي لبحث سُبُل تعزيز الدعم العلمي والدعوي والتَّدريب الديني    فيبا تضع مباراتي مصر ضمن أبرز 10 مواجهات في مجموعات الأفروباسكت    تأجيل محاكمة المتهمين في قضية خلية العجوزة    "اليوم" يعرض تقريرا عن الفنان الراحل نور الشريف فى ذكرى وفاته    أوسكار يراجع تقييم الأداء في الدوري مع 4 حكام بعد الجولة الأولى    نشرة «المصري اليوم» من الإسكندرية: قرار قضائي عاجل بشأن «ابنة مبارك».. وحبس المتهمين في واقعة ركل «فتاة الكورنيش»    الرئيس الفرنسي: على إسرائيل وقف إطلاق النار في غزة وإنهاء الحرب فورا    قصة المولد النبوى الشريف مختصرة للأطفال والكبار    السقا: التعادل أمام الأهلي بطعم الفوز.. ولا أعلم سبب اعتذار حسام حسن فهو ليس كمتعب    محمد إيهاب: نسعى لإخراج البطولة العربية للناشئين والناشئات لكرة السلة في أفضل صورة    إجراء 15 عملية قلب مفتوح وقسطرة علاجية في الفيوم بالمجان    شعبة الجمارك: تسويق الخدمات الجمركية مفتاح جذب الاستثمار وزيادة الصادرات    جريمة أخلاقية بطلها مدرس.. ماذا حدث في مدرسة الطالبية؟    سحب 950 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    أمين الفتوى: الحلال ينير العقل ويبارك الحياة والحرام يفسد المعنى قبل المادة    الأمم المتحدة: قتل إسرائيل للصحفيين "انتهاك خطير" للقانون الدولي    رغم رفض نقابات الطيران.. خطوط بروكسل الجوية تُعيد تشغيل رحلاتها إلى تل أبيب    وزير الري يؤكد أهمية أعمال صيانة وتطوير منظومة المراقبة والتشغيل بالسد العالي    الصحة: 40 مليون خدمة مجانية في 26 يومًا ضمن «100 يوم صحة»    بعد تعنيفه لمدير مدرسة.. محافظ المنيا: توجيهاتي كانت في الأساس للصالح العام    الرعاية الصحية: إنقاذ مريضة من فقدان البصر بمستشفى الرمد التخصصي ببورسعيد    نائب ترامب: لن نستمر في تحمل العبء المالي الأكبر في دعم أوكرانيا    بقوة 6.1 درجة.. مقتل شخص وإصابة 29 آخرين في زلزال غرب تركيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنصير في إفريقيا.. وإخضاع شعوبها للغرب
نشر في الشعب يوم 29 - 09 - 2014

الحركات التنصيرية هي من عوامل الخطر التي تضرب جذر الحضارة والإسلام في إفريقيا، وتسعى لتقويض ما حققه المسلمون الأفارقة من أطر بنيوية في حياتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية القائمة على الإسلام، وهدفها في ذلك ليس دينيًا بقدر ما هو هدف مصلحي غايته إخضاع شعوب إفريقيا حضاريًا وثقافيًا واقتصاديًا للغرب بكل مفاهيمه، مستغلاً حالة الفقر والجهل والمرض ..
دخل المنصرون إلى إفريقيا منذ أوائل القرن الخامس عشر الميلادي أثناء الاكتشافات البرتغالية، ثم بدأت الحملات التنصيرية تستعر في إفريقيا في القرن الثامن عشر، فبدأت تتوافد بعثات الكنيسة البروتستانتية على منطقة النيجر غرب إفريقيا[1]، وفي العام 1819 اتفقت الكنيسة البروتستانتية مع الأقباط في مصر من أجل إرسال بعثات إلى الحبشة. بعد ذلك؛ أخذت تتوالى البعثات السويدية والإنجليزية حتى وصلت إلى ممباسا، وعقب اتساع مناطق الاستعمار الألماني تعززت الإرساليات التنصيرية، كما أن الرهبان البيض الفرنسيين قد وصلوا إلى أوغندا وصلولاً لإفريقيا الوسطى، ثم تقاسمت البعثات الألمانية والأسكتلندية والإنجليزية المنطقة الممتدة من شرق إفريقيا ووسطها حتى الخرطوم والحبشة[2] ..
والحقيقة التي لا بد أن نقرر هنا؛ أن التنصير والاستعمار صنوان لا يفترقان، فكل منهما يخدم الآخر، وفي الواقع كان التنصير أداة يستخدمها الاستعمار للهيمنة على الشعوب وتدميرها ونهب خيراتها وطمس هويتها، يقول المؤرخ جورنفيل الذي رافق الملك لويس التاسع في حملته على مصر: "إن خلوة الملك في معتقله في المنصورة أتاحت له الفرصة ليفكر بعمق في السياسة التي يجدر بالغرب أن يتبعها إزاء المسلمين، واهتدى إلى تلك الخطط التي أفضى بها إلى أعوانه أثناء رحلته إلى عكا".
وقد حصرها الباحث عبد الرحمن عميرة في ثلاث نقاط:
- التحول إلى حملات صليبية سلمية عن طريق المبشرين.
- العمل على إغراء مسيحيي الشرق من أجل تنفيد طموحات الكنيسة الغربية.
- العمل على إنشاء قاعدة للغرب في قلب العالم الإسلامي؛ تكون نقطة ارتكاز للوثوب على الإسلام، وحدد لها موقعًا يمتد من غزة إلى الإسكندرية[3] .
وإذا تأملنا العالم الغربي وجدناه عالمًا ملحدًا لا يؤمن بدين، عالمًا ماديًا لا يعرف للروح ولا للدين أي معنى، ففرنسا الدولة العلمانية في بلادها، نجدها هي الدولة التي تحمي رجال الدين في الخارج، فاليسوعيون المطرودون في فرنسا هم خصومها في الداخل لكنهم أصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها، وكذلك إيطاليا التي حجزت بابا الكنيسة في الفاتيكان كانت تبني جميع سياساتها الاستعمارية على جهود الرهبان والمنصرين، حتى روسيا السوفييتية حين أرادت أن تحقق لنفوذها توسعًا إقليميًا وسياسيًا تظاهرت بالعطف على رجال الدين ودعت إلى مجمع مسكوني في موسكو وحملت إليه المؤتمرين بطائراتها، ثم شرف ستالين نفسه أولئك المؤتمرين بمقابلته، وكثير ما كان الحكام الإنجليز يحثون حكوماتهم على نشر المنصرين في العالم، كما نصح الجنرال هايغ الحكومة البريطانية أن ترسل منصريها إلى شبه الجزيرة العربية[4].
ورغم أن المبادئ الفرنسية العلمانية المستمدة من الثورة الفرنسية كانت تكره الكنيسة وترفض أي دور لها في الدولة، حيث كان شعار الثورة "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" ومع ذلك فإن التعاون كان وثيقًا بين الكنيسة وفرنسا من أجل السيطرة على الجزائر. ولعل هذه الحقيقة تظهر بوضوح في تصريح كليرمون وزير الحربية الفرنسية غداة احتلال الجزائر سنة 1980م بما نصه: "لقد أرادت العناية الإلهية أن تتأثر حمية جلالتكم للقضاء على ألد أعداء النصرانية، ولعله لم يكن من باب المصادفة أن يدعى لويس (التقي) لكي ينتقم للدين وللإنسانية، وربما يسعدنا الحظ لنشر المدنية بين السكان الأصليين وندخلهم النصرانية"[5]. وبذلك يتضح لنا العلاقة الوثيقة بين الاستعمار والتنصير[6].
ويمكننا القول: إن حركات التنصير في إفريقيا قدمت خدمات كبيرة للغرب المستعمر بوصفه النصراني، وفي خدمة أهدافه التي قام من أجلها سواء أكانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وإذا كان موضوع الدراسة هو التنصير وتجلياته في إفريقيا إلا أننا لن نخوض في قضايا أُفردت لها الكتب والدراسات والمقالات من قبل، سواء كانت عن مفهوم التنصير وأهدافه، أو وسائله وسبل مواجهته، بل ستحاول هذه الدراسة الوقوف على أهم التداعيات والآثار التي أصابت العديد من نواحي الحياة في إفريقيا وأثرت على عقيدتهم وهويتهم الدينية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية.
وفيما يأتي أبرز هذه الآثار:
1. الآثار الدينية:
أولى الآثار الدينية والعقدية لحملات التنصير في إفريقيا هو فتنة المسلمين في دينهم بل ونكوص أعداد كبيرة منهم عن الإسلام وتحول دول بأكملها من أغلبية مسلمة إلى أقلية، ولا أدل على ذلك من تصريح أمين المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالكونغو الديمقراطية؛ الذي أشار إلى تناقص تعداد المسلمين في الكونغو من 20 مليون نسمة إلى 5 ملايين!! يقول الشيخ موديلو واماليما الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بجمهورية الكونغو الديمقراطية: "إن المنظمات التنصيرية في القارة الأفريقية تقف وراء تناقص أعداد المسلمين من 20 مليون نسمة غداة استقلال الكونغو في حقبة الستينيات إلى 5 ملايين مسلم في الوقت الحالي، وإن غول التنصير قد استطاع افتراس الجسد الإسلامي في الكونغو مستفيدًا من معاناة المسلمين لعقود من الفقر الشديد والتهميش السياسي والاقتصادي على يد حكومات الكونغو المتعاقبة ما أسهم في ارتداد ملايين المسلمين حرصًا على الحصول على الدعم المالي واللوجيستي الذي تقدمه آلاف من المنظمات التنصيرية المنتشرة في جميع بقاع البلاد".
وتستغل منظمات التنصير كفالة الأيتام وتمويل نفقات تعليم أغلب الأطفال في المدارس لإغرائهم بالارتداد عن الإسلام واعتناق المسيحية وهو ما كانت له نتائج كارثية على المسلمين في الكونغو للدرجة أن تجد أصحاب أسماء إسلامية بارزة غير أنهم يعتنقون النصرانية بسبب المد التنصيري الجارف[7].
2- ومن أبرز الآثار العقدية للتنصير في إفريقيا؛ هي خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها، وذلك عبر وسائل وأساليب متعددة، مباشرة وغير مباشرة. يقول المنصر المعروف صاموئيل زويمر الذي خاض تجربة التنصير في مصر وعدد من الدول الإسلامية. وقد أرسل إلى لو شاتليه([8]) رسالة في أوائل العام 1911م قال فيها: "إن لنتيجية إرساليات التبشير في البلاد الإسلامية مزيتين: مزية تشييد ومزية هدم، أو بالحري مزيتي تحليل وتركيب. والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير - الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية في البلاد العثمانية والقطر المصري وجهات أخرى - هو أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه، ولا ينبغي لنا أن نعتمد على إحصائيات التعميد في معرفة عدد الذين تنصروا رسميًا من المسلمين، لأننا هنا واقفون على مجرى الأمور ومتحققون من وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم واعتنقوا النصرانية من طرف خفي"([9]).
من الآثار العقدية أيضًا ظهور تيار من المفكرين والعلماء والسياسيين أو ما يطلق عليهم النخبة وحتى عامة الناس ينادي بفصل الدين عن الحياة أو ما يطلق عليه العلمانية، فالعقيدة الإسلامية تربط كل مجالات الحياة بالإيمان بالله عز وجل وبالتصور العام الذي جاء به الإسلام للخالق سبحانه وتعالى والكون والإنسان.
وقد استخدم في ذلك الإعلام والتعليم؛ وقد عبر محمد إقبال عن هذا فقال: "إن التعليم هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي، ثم يكونها كما يشاء، إن هذا الحامض هو أشد قوة وتأثير من أي مادة كيماوية، وهو الذي يستطيع أن يحول جبلاً شامخًا إلى كومة تراب"[10].
وقد حرص التنصير على إنشاء المدارس والجامعات الغربية في إفريقيا، وقد نشرت "لافيد" الإيطالية نقلاً عن تقارير صادرة عن دائرة تنصير الشعوب في الفاتكان تقريرًا حول نشاط الدائرة في القارة الإفريقية جاء فيه أن التوسع في إنشاء المدارس والجامعات الكنسية سوف يؤدي إلى زيادة عدد المنصرين؛ لأن إيجاد منصرين من نفس الدولة يساعد على نشر النصرانية إلى حد كبير في هذه الدول. ومما يِؤكد ويدعم مدى اهتمام المنصرين بمجال التعليم لتنصير العالم ما ترصده من مبالغ ضخمة لبناء المدارس والجامعات، ففي تقرير صادر عن دائرة تنصير الشعوب في الفاتكان أن ميزانية الكنيسة الكاثوليكية المخصصة للتعليم والمدارس التنصيرية مائة وسبعة عشر مليون دولار سنويًا، وأن مؤسسة "ورماسيا" قدمت للكنيسة الكاثوليكية 80 مليون دولار وطلبت أن يخصص هذا المبلغ لدعم المدارس والجامعات والمعاهد التنصيرية.[11].
ولنا أن نعرف أنه حتى وقت قريب كان 95%من التعليم في إفريقيا جنوب الصحراء تحت إشراف الكنائس والبعثات التبشيرية، ومن ذلك الكلية الإنجيلية التي تحولت إلى الجامعة الأمريكية التي لها فروع كثيرة، بالإضافة إلى كلية فيكتوريا (مدرسة ثانوية)، وقد زعم كرومر Cromer في احتفال بمدرسة فيكتوريا بأن الهدف من هذه المدرسة وشبيهاتها تنشئة أجيال من أبناء المسلمين يكونون جسرًا بين الثقافة الغربية ومواطنيهم المسلمين، ولعلها عبارة ملطّفة لتكوين جيل ممسوخ لا يعرف ثقافته ولا عقيدته[12] وقد وصف الشيخ سعيد الزاهري التلاميذ الجزائريين الذين درسوا في المدارس الفرنسية في الجزائر -أطلق عليها خداعًا المدارس العربية- بأنهم "لا يصلون ولا يصومون ولا يتحدثون اللغة العربية فيما بينهم، ولا يؤمنون بأن القرآن الكريم وحي من الله[13]"…

ويعد التعليم أنجح وسيلة اتخذتها الكنيسة للتنصير الظاهر والخفي، وقد لجأت إليه الكنائس في المقام الأول، وكانت تقدمه للمتنصرين خدمة مجانية إذ كان يساعد في قراءة وفهم الإنجيل، ولم يكن التعليم للتعميد فحسب بل كان يضمن للدارس الوظيفة الحكومية، وربط هذا النوع من التعليم بالتطور الاجتماعي والمادي والثقافي للمتعلم، ولهذا فقد اتجهت إليه جموع الشباب المسلم في إفريقيا طلبًا للوظيفة والمراكز الاجتماعية المرموقة.
2. الآثار الاجتماعية:
من أهم تداعيات التنصير في إفريقيا على النواحي الاجتماعية؛ محاولة طمس الهوية الإسلامية للدول الإفريقية المسلمة، ومحاولة فرض طريقة حياة مختلفة متطابقة مع الرؤية الغربية كبديل عن نمط الحياة في المجمعات الإسلامية، فأشاع المنصرون طريقة حياتهم الاجتماعية. في البداية اهتم المنصرون بدراسة المجتمعات الإسلامية ومعرفتها معرفة وثيقة حتى يمكنهم أن يؤثروا فيها بنجاح. وقد تمكنت الحملات التنصيرية بالتعاون مع الاستعمار من إحداث تغيرات اجتماعية كبيرة في البلاد التي وقعت تحت هيمنتهم. ففي الجزائر مثلاً حطم الاستعمار الملكيات الجماعية أو المشاعة للأرض وذلك لتمزيق شمل القبائل التي كانت تعيش في جو من الانسجام والوئام.
ومن الجوانب الاجتماعية التي عمل فيها التنصير على التأثير في المجتمعات الإسلامية؛ البنية الاجتماعية وبناء الأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة. فقد قاموا بتشويه مكانة المرأة في الإسلام، ونشر المزاعم عن اضطهاد الإسلام للمرأة.
وعملت الجمعيات التنصيرية بجانب قوى الاستعمار على إعادة تشكيل الخريطة السكانية والبنية الاجتماعية لسكان البلاد. وقاموا بمحاولات الفصل العرقي بين القوميات الإسلامية وإحياء النعرات القبلية. وإحداث النزاعات بين أبناء البلاد الإسلامية بتشجيع النزعات الانفصالية، كما حدث في المغرب العربي بالتركيز على فرنسة البربر وتعليمهم اللغة الفرنسية ونشر الحملات التنصيرية في ديارهم. وقد أنشأت الحكومة الفرنسية الأكاديمية البربرية في فرنسا لتشجيع هذه النزعة. ولعل قانون المناطق المقفولة في السودان كان مثالاً حيًا لذلك، وكذلك محاولات فرنسا في السنغال لفصل الجنوب عن الشمال ومحاولات إيطاليا في الصومال.[14]
3. الآثار الثقافية:
تعد اللغة هي وعاء الثقافة والحضارة وأحد عوامل الوحدة بين المسلمين؛ لذلك كان اهتمام التنصير منذ بواكيره بمحاولة طمس اللغة العربية واستبدالها باللغات الأوروبية.
لقد تغللت اللغة العربية في إفريقيا للدرجة التي صارت الأبجدية العربية تكتب بها معظم اللغات الإفريقية، ومنها على سبيل المثال اللغة السواحلية والتي كانت إلى وقت قريب تكتب باللغة العربية، وحين نت‍كلم عن «اللغ‍ة الس‍واحلي‍ة» فنحن نتكلم عن لغة م‍ا يقدَّر بمائ‍ة ملي‍ون نسمة في اثنتي عشرة دولة على الأق‍ل في إفريقي‍ا ال‍وسط‍ى والشرقي‍ة.‏ فهي اللغ‍ة الرسمي‍ة في العديد من البلدان مث‍ل أوغندا وتنزاني‍ا وكيني‍ا.‏
لم تصبح اللغة السواحلية م‍كت‍وب‍ة حت‍ى القرن الس‍ادس عشر‏ وهي مت‍أثرة إل‍ى حد بعيد ب‍اللغ‍ة العربي‍ة.‏ فعشرون في المائ‍ة على الأق‍ل من مفرداته‍ا مستق‍اة من اللغ‍ة العربي‍ة،‏ وال‍كلم‍ات الب‍اقي‍ة في معظمه‍ا م‍أخ‍وذة من لغ‍ات إفريقي‍ة.‏ ف‍لا عجب إذًا انه‍ا كُتبت بحروف عربي‍ة ط‍وال مئ‍ات السنين.‏
أم‍ا الي‍وم فقد ب‍اتت الس‍واحلي‍ة تُ‍كتب بحروف لاتيني‍ة‏ ت‍ول‍ى مهم‍ة تغيير الأبجدية التي تكتب بها اللغة السواحلية إلى الحروف اللاتينية المنصر كي‍وه‍ان ل‍ودڤيڠ كراپف،‏ بهدف ديني بحت، فحين وصل كرابف م‍ومب‍اسّ‍ا آنذاك كان معظم س‍ك‍ان س‍اح‍ل إفريقي‍ا الشرقي‍ة يدين‍ون ب‍الإس‍لام،‏ في حين أبق‍ى كثيرون من س‍ك‍ان المن‍اطق الداخلي‍ة على معتقداتهم الوثنية.‏ من هذا المنطلق؛‏ أدرك كراپف مدى أهمي‍ة جع‍ل الإنجيل مت‍وفرًا للجميع.‏
لذلك م‍ا إن وص‍ل إل‍ى كيني‍ا حت‍ى ب‍اشر بدراسة اللغ‍ة الس‍واحلي‍ة.‏ وه‍كذا،‏ استط‍اع على الف‍ور أن يبدأ بترجم‍ة الإنجيل في (‏ي‍وني‍و)‏ ع‍ام 1844.‏ وقد كان كراپف أول مَن استخدم الحروف ال‍لاتيني‍ة في كت‍اب‍ة الس‍واحلي‍ة.‏ وتجدر الإش‍ارة أن كراپف،‏ إض‍اف‍ة إل‍ى كونه رائدًا في ترجم‍ة الإنجيل إل‍ى الس‍واحلي‍ة،‏ وضع الأس‍اس للمترجمين الذين أت‍وا بعده.‏ كم‍ا أنه ألف أول كت‍اب لق‍واعد اللغ‍ة الس‍واحلي‍ة وأول ق‍ام‍وس لمفرداته‍ا[15].

ومعنى تغيير الأبجدية التي تكتب بها أي لغة إلى لغة أخرى هو إيجاد قطيعة ثقافية وعلمية وحضارية لذلك التراث الذي كتب بالأبجدية المستبدلة والتي لا تستيطع الأجيال الجديدة قراءاتها ولا التواصل معها، ومعناه أيضًا ثقافة وهوية حضارية جديدة وهو ما قام به هذا المنصر.
يقول (صموئيل) زعيم المنصرين في أوائل القرن العشرين: "يوم لا يبقى اللسان العربي هو لغة التجارة في إفريقيا، لا يبقى خطر من الإسلام لأن مداريته حينئذ ستصير فارغة".
كما حققت حملات التنصير نجاحًا كبيرًا في التأثير في الحياة الثقافية والفكرية في إفريقيا، فبعد أن كان القرآن الكريم واللغة العربية منتشرين بين عموم الأفارقة المسلمين ويكونان المجال الثقافي والفكري أصبحت المصادر الغربية تدخل في التكوين الفكري والثقافي والمجالات الفكرية الأخرى كالتاريخ أو علم الاجتماع أو علم النفس أو علم الإنسان أو غيره من العلوم للأجيال الجديدة في إفريقيا، من المسلمين وغيرهم.
4. الآثار السياسية:
سعى الاستعمار متخذًا من التنصير وسيلة لضرب وحدة المسلمين أينما حل، واتبع إستراتيجية شد الأطراف ثم البتر، سواء في إفريقيا أو في عموم العالم الإسلامي، فقد أدرك الغرب النصراني أن وحدة المسلمين وتماسكهم هي سرّ قوتهم وسيادتهم على الأمم الأخرى[16]؛ ولذلك حاولوا عن طريق التنصير إثارة الفتن والاضطرابات. ويمكننا أن نراجع في ذلك انفصال جنوب السودان في دولة نصرانية عن السودان الدولة العربية المسلمة، وكان ذلك في إستراتيجية متحدة لعبت فيها الحركات والإرساليات التنصريية دورًا كبيرًا.
كما كانت الإرساليات التنصيرية وأتباعها أداة في يد المستعمر؛ يستعين بها في التجسس على المسلمين وإثارة حالات الاحتقان السياسي والديني بين أبناء المجتمع الواحد، وفي هذا نجد كلام المنصّرين أنفسهم أكبر دليل على ذلك حيث يقول أحدهم: "لقد تمت محاولات نشطة لاستعمال المنصّرين ليس لمصلحة النصرانية بل لخدمة الاستعمار والعبودية" كما يؤكد هذا الهدف أيضًا القرار الصادر عن مؤتمر اليونان سنة1959م وجاء فيه: "… إن السياسة هي المجال الذي يجب على الكنيسة في دول إفريقيا وآسيا وأمريكا أن تعمل به…"[17].
وأخيرًا:
يتبين لنا جليًا بعد تلك المقالة الموجزة أن الحركات التنصيرية هي من عوامل الخطر التي تضرب جذر الحضارة والإسلام في إفريقيا، وتسعى لتقويض ما حققه المسلمون الأفارقة من أطر بنيوية في حياتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية القائمة على الإسلام، وهدفها في ذلك ليس دينيًا بقدر ما هو هدف مصلحي غايته إخضاع شعوب إفريقيا حضاريًا وثقافيًا واقتصاديًا للغرب بكل مفاهيمه، مستغلاً حالة الفقر والجهل والمرض التي تعيش بها معظم البلدان الإفريقية، وإن لم ينتبه المسلمون لهذا الخطر الذي يحيق بهم خاصة في إفريقيا ستكون النتائج شديدة على واقع المسلمين ومستقبلهم.
* الهوامش:
[1] بن بوزيد لخضر، جامعة محمد خيضر بسكرة – الجزائر، (حملات التنصير في إفريقيا في القرن التاسع عشر والعشرين)، المجلة الإفريقية للعلوم السياسية.
[2] المرجع السابق
[3] عبد الرحمن عميرة : الإسلام والمسلمون بين أحقاد التبشير وضلال الاستشراف ، دار الجيل بيروت 1999 ، ص21: 23.
[4] مصطفى الخالدي وعمر فروخ التبشير والاستعمار في البلاد العربية ، مشورات المكتبة العصرية ، بيروت ،1953، ص34.
[5] د. الناصر أبوكروق، التنصير الحديث في أفريقيا وخلفيته التاريخية وبعض وسائله
[6] بن بوزيد لخضر، حملات التنصير في إفريقيا في القرن التاسع عشر والعشرين، مرجع سابق.
[7]التنصير في غرب إفريقيا العمل دون بعيدًا عن الضجيج إعلامي موقع المسلم
http://www.almoslim.net/node/114308
([8]) أ. لو شاتليه أستاذ المسائل الاجتماعية الإسلامية في فرنسا وأحد المنصرين المستشرقين الفرنسيين في هذا القرن الميلادي. رأس تحرير مجلة العالم الإسلامي الفرنسية. انظر ترجمته في: الغارة على العالم الإسلامي. - مرجع سابق. - ص 5.
([9]) أ. ل. شاتليه. الغارة على العالم الإسلامي. مرجع سابق. ص 8.
[10] محمد الطاهر عزوي، الغزو الثقافي والفكري للعالم الإسلامي، 1999م، دار الهدى، ميلة-الجزائر.ص31.
[11] رحمون نعيمه، حريش حدة، أساليب ووسائل التنصير المعاصرة.
[12] محمد محمد حسين. الإسلام والحضارة الغربية. ط 5. (بيروت: مؤسسة الرسالة 1402-1982) ص 46.
[13] محمد السعيد الزاهري. الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير. (الجزائر: دار الكتب الجزائرية، بدون تاريخ) ص108
[14] د. إجلال رأفت، السياسة الفرنسية فى أفريقيا جنوب الصحراء، مجلة قراءات إفريقية، 27مارس 2014.
[15] حوار مع دكتور سيد جابر، عميد معهد البحوث والدراسات الإفريقية في القاهرة.
[16] محمد بن ناصر الشثري، التنصير في البلاد الإسلامية، أهدافه، ميادينه، آثاره، دار الحبيب، الرياض، ط: 1، 1998 م،، ص: 17.
[17] محمود عبد الرحمن، التنصير والاستغلال السياسي، دار النفائس، بيروت، لبنان، ط: 1، ص: 90.
المصدر : قاوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.