تعرف علي أسعار الذهب في السوق المصرية والعالمية في 16 أبريل 2024    رئيس شعبة الثروة الداجنة يكشف عن الأسعار والتحديات في سوق الدواجن المصري    نجم الأهلي يهاجم كولر بعد هزيمة القمة ضد الزمالك    مصر تستعد لموجة حارة وأجواء مغبرة: توقعات الأرصاد ليوم غد واليوم الحالي    "مدبوحة في الحمام".. جريمة قتل بشعة بالعمرانية    اليابان تتعهد بالدفع نحو علاقات استراتيجية متبادلة المنفعة مع الصين    تهديد شديد اللهجة من الرئيس الإيراني للجميع    بعد سقوط كهربا المفاجئ.. كيفية تجنب إصابات الركبة والساق في الملاعب والمحافل    معلومات مثيرة عن كيفية فقدان الحواس أثناء خروج الروح.. ماذا يسمع المحتضرون؟    عامل يحاول إنهاء حياته ب"سم الفئران" في سوهاج    أمطار غزيرة ورياح شديدة وسحب ركامية تضرب الإمارات (فيديو)    الجائزة 5000 دولار، مسابقة لاختيار ملكة جمال الذكاء الاصطناعي لأول مرة    كندا تدين الهجمات الإجرامية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.. وتدعو لمحاسبة المتورطين    خادم الحرمين الشريفين وولي عهده يعزيان سلطان عمان في ضحايا السيول والأمطار    الأردن تؤكد عدم السماح باستخدام المجال الجوي الأردني من قبل أي طرف ولاي غاية    السفيرة الأمريكية بالأمم المتحدة: حان الوقت لإنهاء الصراع في السودان    وزير خارجية الصين لنظيره الإيراني: طهران قادرة على فهم الوضع وتجنب التصعيد    جدول امتحانات المرحلة الثانوية 2024 الترم الثاني بمحافظة الإسكندرية    موعد انتهاء خطة تخفيف أحمال الكهرباء.. متحدث الحكومة يوضح    حظك اليوم برج القوس الثلاثاء 16-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    رئيس تحرير «الأخبار»: المؤسسات الصحفية القومية تهدف إلى التأثير في شخصية مصر    دعاء ليلة الزواج لمنع السحر والحسد.. «حصنوا أنفسكم»    لجنة الحكام ترد على عدم صحة هدف الثاني ل الزمالك في شباك الأهلي.. عاجل    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الثلاثاء 16 أبريل 2024    قبل امتحانات الثانوية العامة 2024.. أطعمة تعزز تركيز الطالب خلال المذاكرة    أحمد كريمة: تعاطي المسكرات بكافة أنواعها حرام شرعاً    جامعة سوهاج تستأنف عملها بعد إجازة عيد الفطر    إسكان النواب: قبول التصالح على مخالفات البناء حتى تاريخ المسح الجوي 15 أكتوبر 2023    تحرك برلماني ضد المخابز بسبب سعر رغيف العيش: تحذير شديد اللجهة    أبرزها عيد العمال.. مواعيد الإجازات الرسمية في شهر مايو 2024    تفاصيل حفل تامر حسني في القاهرة الجديدة    تعليق محمد هنيدي على فوز الزمالك بلقاء القمة في الدوري الممتاز    «حلم جيل بأكمله».. لميس الحديدي عن رحيل شيرين سيف النصر    خبير تحكيمي: كريم نيدفيد استحق بطاقة حمراء في مباراة القمة.. وهذا القرار أنقذ إبراهيم نور الدين من ورطة    خالد الصاوي: بختار أعمالى بعناية من خلال التعاون مع مخرجين وكتاب مميزين    مواقيت الصلاة في محافظات مصر اليوم الثلاثاء 16 أبريل 2024    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    تفاصيل إعداد وزارة التعليم العالي محتوى جامعي تعليمي توعوي بخطورة الإنترنت    بايدن يؤكد سعي واشنطن لتحقيق صفقة بشأن وقف إطلاق النار في غزة    "كنت عايز أرتاح وأبعد شوية".. محمد رمضان يكشف سبب غيابه عن دراما رمضان 2024    حسن مصطفى: أخطاء كولر والدفاع وراء خسارة الأهلي أمام الزمالك    جمارك مطار القاهرة تحرر 55 محضر تهرب جمركي خلال شهر مارس 2024    إبراهيم نور الدين يكشف حقيقة اعتزاله التحكيم عقب مباراة الأهلى والزمالك    أيمن دجيش: كريم نيدفيد كان يستحق الطرد بالحصول على إنذار ثانٍ    هل نقدم الساعة فى التوقيت الصيفي أم لا.. التفاصيل كاملة    هيئة الدواء المصرية توجه نصائح مهمة لانقاص الوزن.. تعرف عليها    التعليم: مراجعات نهائية مجانية لطلاب الإعدادية والثانوية لتحقيق الاستفادة من نواتج التعلم    دعاء السفر قصير: اللهم أنت الصاحبُ في السفرِ    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة بلاك بول الدولية للإسكواش    رئيس تحرير «الأهرام»: لدينا حساب على «التيك توك» لمخاطبة هذه الشريحة.. فيديو    تكريم 600 من حفظة القرآن الكريم بقرية تزمنت الشرقية فى بنى سويف    لماذا رفض الإمام أبو حنيفة صيام الست من شوال؟.. أسرار ينبغي معرفتها    الإعدام لمتهم بقتل شخص بمركز أخميم فى سوهاج بسبب خلافات بينهما    خالد الصاوي: مصر ثالث أهم دولة تنتج سينما تشاهد خارج حدودها    اليوم.. فتح باب التقديم للمدارس المصرية اليابانية للعام الدراسي 2024 / 2025    رئيس تحرير "الجمهورية": لا يمكن الاستغناء عن الأجيال الجديدة من الصحفيين.. فيديو    لست البيت.. طريقة تحضير كيكة الطاسة الإسفنجية بالشوكولاتة    تجديد اعتماد المركز الدولي لتنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس والقيادات بجامعة المنوفية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنصير في إفريقيا.. وإخضاع شعوبها للغرب
نشر في الشعب يوم 29 - 09 - 2014

الحركات التنصيرية هي من عوامل الخطر التي تضرب جذر الحضارة والإسلام في إفريقيا، وتسعى لتقويض ما حققه المسلمون الأفارقة من أطر بنيوية في حياتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية القائمة على الإسلام، وهدفها في ذلك ليس دينيًا بقدر ما هو هدف مصلحي غايته إخضاع شعوب إفريقيا حضاريًا وثقافيًا واقتصاديًا للغرب بكل مفاهيمه، مستغلاً حالة الفقر والجهل والمرض ..
دخل المنصرون إلى إفريقيا منذ أوائل القرن الخامس عشر الميلادي أثناء الاكتشافات البرتغالية، ثم بدأت الحملات التنصيرية تستعر في إفريقيا في القرن الثامن عشر، فبدأت تتوافد بعثات الكنيسة البروتستانتية على منطقة النيجر غرب إفريقيا[1]، وفي العام 1819 اتفقت الكنيسة البروتستانتية مع الأقباط في مصر من أجل إرسال بعثات إلى الحبشة. بعد ذلك؛ أخذت تتوالى البعثات السويدية والإنجليزية حتى وصلت إلى ممباسا، وعقب اتساع مناطق الاستعمار الألماني تعززت الإرساليات التنصيرية، كما أن الرهبان البيض الفرنسيين قد وصلوا إلى أوغندا وصلولاً لإفريقيا الوسطى، ثم تقاسمت البعثات الألمانية والأسكتلندية والإنجليزية المنطقة الممتدة من شرق إفريقيا ووسطها حتى الخرطوم والحبشة[2] ..
والحقيقة التي لا بد أن نقرر هنا؛ أن التنصير والاستعمار صنوان لا يفترقان، فكل منهما يخدم الآخر، وفي الواقع كان التنصير أداة يستخدمها الاستعمار للهيمنة على الشعوب وتدميرها ونهب خيراتها وطمس هويتها، يقول المؤرخ جورنفيل الذي رافق الملك لويس التاسع في حملته على مصر: "إن خلوة الملك في معتقله في المنصورة أتاحت له الفرصة ليفكر بعمق في السياسة التي يجدر بالغرب أن يتبعها إزاء المسلمين، واهتدى إلى تلك الخطط التي أفضى بها إلى أعوانه أثناء رحلته إلى عكا".
وقد حصرها الباحث عبد الرحمن عميرة في ثلاث نقاط:
- التحول إلى حملات صليبية سلمية عن طريق المبشرين.
- العمل على إغراء مسيحيي الشرق من أجل تنفيد طموحات الكنيسة الغربية.
- العمل على إنشاء قاعدة للغرب في قلب العالم الإسلامي؛ تكون نقطة ارتكاز للوثوب على الإسلام، وحدد لها موقعًا يمتد من غزة إلى الإسكندرية[3] .
وإذا تأملنا العالم الغربي وجدناه عالمًا ملحدًا لا يؤمن بدين، عالمًا ماديًا لا يعرف للروح ولا للدين أي معنى، ففرنسا الدولة العلمانية في بلادها، نجدها هي الدولة التي تحمي رجال الدين في الخارج، فاليسوعيون المطرودون في فرنسا هم خصومها في الداخل لكنهم أصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها، وكذلك إيطاليا التي حجزت بابا الكنيسة في الفاتيكان كانت تبني جميع سياساتها الاستعمارية على جهود الرهبان والمنصرين، حتى روسيا السوفييتية حين أرادت أن تحقق لنفوذها توسعًا إقليميًا وسياسيًا تظاهرت بالعطف على رجال الدين ودعت إلى مجمع مسكوني في موسكو وحملت إليه المؤتمرين بطائراتها، ثم شرف ستالين نفسه أولئك المؤتمرين بمقابلته، وكثير ما كان الحكام الإنجليز يحثون حكوماتهم على نشر المنصرين في العالم، كما نصح الجنرال هايغ الحكومة البريطانية أن ترسل منصريها إلى شبه الجزيرة العربية[4].
ورغم أن المبادئ الفرنسية العلمانية المستمدة من الثورة الفرنسية كانت تكره الكنيسة وترفض أي دور لها في الدولة، حيث كان شعار الثورة "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس" ومع ذلك فإن التعاون كان وثيقًا بين الكنيسة وفرنسا من أجل السيطرة على الجزائر. ولعل هذه الحقيقة تظهر بوضوح في تصريح كليرمون وزير الحربية الفرنسية غداة احتلال الجزائر سنة 1980م بما نصه: "لقد أرادت العناية الإلهية أن تتأثر حمية جلالتكم للقضاء على ألد أعداء النصرانية، ولعله لم يكن من باب المصادفة أن يدعى لويس (التقي) لكي ينتقم للدين وللإنسانية، وربما يسعدنا الحظ لنشر المدنية بين السكان الأصليين وندخلهم النصرانية"[5]. وبذلك يتضح لنا العلاقة الوثيقة بين الاستعمار والتنصير[6].
ويمكننا القول: إن حركات التنصير في إفريقيا قدمت خدمات كبيرة للغرب المستعمر بوصفه النصراني، وفي خدمة أهدافه التي قام من أجلها سواء أكانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وإذا كان موضوع الدراسة هو التنصير وتجلياته في إفريقيا إلا أننا لن نخوض في قضايا أُفردت لها الكتب والدراسات والمقالات من قبل، سواء كانت عن مفهوم التنصير وأهدافه، أو وسائله وسبل مواجهته، بل ستحاول هذه الدراسة الوقوف على أهم التداعيات والآثار التي أصابت العديد من نواحي الحياة في إفريقيا وأثرت على عقيدتهم وهويتهم الدينية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية.
وفيما يأتي أبرز هذه الآثار:
1. الآثار الدينية:
أولى الآثار الدينية والعقدية لحملات التنصير في إفريقيا هو فتنة المسلمين في دينهم بل ونكوص أعداد كبيرة منهم عن الإسلام وتحول دول بأكملها من أغلبية مسلمة إلى أقلية، ولا أدل على ذلك من تصريح أمين المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالكونغو الديمقراطية؛ الذي أشار إلى تناقص تعداد المسلمين في الكونغو من 20 مليون نسمة إلى 5 ملايين!! يقول الشيخ موديلو واماليما الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بجمهورية الكونغو الديمقراطية: "إن المنظمات التنصيرية في القارة الأفريقية تقف وراء تناقص أعداد المسلمين من 20 مليون نسمة غداة استقلال الكونغو في حقبة الستينيات إلى 5 ملايين مسلم في الوقت الحالي، وإن غول التنصير قد استطاع افتراس الجسد الإسلامي في الكونغو مستفيدًا من معاناة المسلمين لعقود من الفقر الشديد والتهميش السياسي والاقتصادي على يد حكومات الكونغو المتعاقبة ما أسهم في ارتداد ملايين المسلمين حرصًا على الحصول على الدعم المالي واللوجيستي الذي تقدمه آلاف من المنظمات التنصيرية المنتشرة في جميع بقاع البلاد".
وتستغل منظمات التنصير كفالة الأيتام وتمويل نفقات تعليم أغلب الأطفال في المدارس لإغرائهم بالارتداد عن الإسلام واعتناق المسيحية وهو ما كانت له نتائج كارثية على المسلمين في الكونغو للدرجة أن تجد أصحاب أسماء إسلامية بارزة غير أنهم يعتنقون النصرانية بسبب المد التنصيري الجارف[7].
2- ومن أبرز الآثار العقدية للتنصير في إفريقيا؛ هي خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها، وذلك عبر وسائل وأساليب متعددة، مباشرة وغير مباشرة. يقول المنصر المعروف صاموئيل زويمر الذي خاض تجربة التنصير في مصر وعدد من الدول الإسلامية. وقد أرسل إلى لو شاتليه([8]) رسالة في أوائل العام 1911م قال فيها: "إن لنتيجية إرساليات التبشير في البلاد الإسلامية مزيتين: مزية تشييد ومزية هدم، أو بالحري مزيتي تحليل وتركيب. والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير - الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية في البلاد العثمانية والقطر المصري وجهات أخرى - هو أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه، ولا ينبغي لنا أن نعتمد على إحصائيات التعميد في معرفة عدد الذين تنصروا رسميًا من المسلمين، لأننا هنا واقفون على مجرى الأمور ومتحققون من وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم واعتنقوا النصرانية من طرف خفي"([9]).
من الآثار العقدية أيضًا ظهور تيار من المفكرين والعلماء والسياسيين أو ما يطلق عليهم النخبة وحتى عامة الناس ينادي بفصل الدين عن الحياة أو ما يطلق عليه العلمانية، فالعقيدة الإسلامية تربط كل مجالات الحياة بالإيمان بالله عز وجل وبالتصور العام الذي جاء به الإسلام للخالق سبحانه وتعالى والكون والإنسان.
وقد استخدم في ذلك الإعلام والتعليم؛ وقد عبر محمد إقبال عن هذا فقال: "إن التعليم هو الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي، ثم يكونها كما يشاء، إن هذا الحامض هو أشد قوة وتأثير من أي مادة كيماوية، وهو الذي يستطيع أن يحول جبلاً شامخًا إلى كومة تراب"[10].
وقد حرص التنصير على إنشاء المدارس والجامعات الغربية في إفريقيا، وقد نشرت "لافيد" الإيطالية نقلاً عن تقارير صادرة عن دائرة تنصير الشعوب في الفاتكان تقريرًا حول نشاط الدائرة في القارة الإفريقية جاء فيه أن التوسع في إنشاء المدارس والجامعات الكنسية سوف يؤدي إلى زيادة عدد المنصرين؛ لأن إيجاد منصرين من نفس الدولة يساعد على نشر النصرانية إلى حد كبير في هذه الدول. ومما يِؤكد ويدعم مدى اهتمام المنصرين بمجال التعليم لتنصير العالم ما ترصده من مبالغ ضخمة لبناء المدارس والجامعات، ففي تقرير صادر عن دائرة تنصير الشعوب في الفاتكان أن ميزانية الكنيسة الكاثوليكية المخصصة للتعليم والمدارس التنصيرية مائة وسبعة عشر مليون دولار سنويًا، وأن مؤسسة "ورماسيا" قدمت للكنيسة الكاثوليكية 80 مليون دولار وطلبت أن يخصص هذا المبلغ لدعم المدارس والجامعات والمعاهد التنصيرية.[11].
ولنا أن نعرف أنه حتى وقت قريب كان 95%من التعليم في إفريقيا جنوب الصحراء تحت إشراف الكنائس والبعثات التبشيرية، ومن ذلك الكلية الإنجيلية التي تحولت إلى الجامعة الأمريكية التي لها فروع كثيرة، بالإضافة إلى كلية فيكتوريا (مدرسة ثانوية)، وقد زعم كرومر Cromer في احتفال بمدرسة فيكتوريا بأن الهدف من هذه المدرسة وشبيهاتها تنشئة أجيال من أبناء المسلمين يكونون جسرًا بين الثقافة الغربية ومواطنيهم المسلمين، ولعلها عبارة ملطّفة لتكوين جيل ممسوخ لا يعرف ثقافته ولا عقيدته[12] وقد وصف الشيخ سعيد الزاهري التلاميذ الجزائريين الذين درسوا في المدارس الفرنسية في الجزائر -أطلق عليها خداعًا المدارس العربية- بأنهم "لا يصلون ولا يصومون ولا يتحدثون اللغة العربية فيما بينهم، ولا يؤمنون بأن القرآن الكريم وحي من الله[13]"…

ويعد التعليم أنجح وسيلة اتخذتها الكنيسة للتنصير الظاهر والخفي، وقد لجأت إليه الكنائس في المقام الأول، وكانت تقدمه للمتنصرين خدمة مجانية إذ كان يساعد في قراءة وفهم الإنجيل، ولم يكن التعليم للتعميد فحسب بل كان يضمن للدارس الوظيفة الحكومية، وربط هذا النوع من التعليم بالتطور الاجتماعي والمادي والثقافي للمتعلم، ولهذا فقد اتجهت إليه جموع الشباب المسلم في إفريقيا طلبًا للوظيفة والمراكز الاجتماعية المرموقة.
2. الآثار الاجتماعية:
من أهم تداعيات التنصير في إفريقيا على النواحي الاجتماعية؛ محاولة طمس الهوية الإسلامية للدول الإفريقية المسلمة، ومحاولة فرض طريقة حياة مختلفة متطابقة مع الرؤية الغربية كبديل عن نمط الحياة في المجمعات الإسلامية، فأشاع المنصرون طريقة حياتهم الاجتماعية. في البداية اهتم المنصرون بدراسة المجتمعات الإسلامية ومعرفتها معرفة وثيقة حتى يمكنهم أن يؤثروا فيها بنجاح. وقد تمكنت الحملات التنصيرية بالتعاون مع الاستعمار من إحداث تغيرات اجتماعية كبيرة في البلاد التي وقعت تحت هيمنتهم. ففي الجزائر مثلاً حطم الاستعمار الملكيات الجماعية أو المشاعة للأرض وذلك لتمزيق شمل القبائل التي كانت تعيش في جو من الانسجام والوئام.
ومن الجوانب الاجتماعية التي عمل فيها التنصير على التأثير في المجتمعات الإسلامية؛ البنية الاجتماعية وبناء الأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة. فقد قاموا بتشويه مكانة المرأة في الإسلام، ونشر المزاعم عن اضطهاد الإسلام للمرأة.
وعملت الجمعيات التنصيرية بجانب قوى الاستعمار على إعادة تشكيل الخريطة السكانية والبنية الاجتماعية لسكان البلاد. وقاموا بمحاولات الفصل العرقي بين القوميات الإسلامية وإحياء النعرات القبلية. وإحداث النزاعات بين أبناء البلاد الإسلامية بتشجيع النزعات الانفصالية، كما حدث في المغرب العربي بالتركيز على فرنسة البربر وتعليمهم اللغة الفرنسية ونشر الحملات التنصيرية في ديارهم. وقد أنشأت الحكومة الفرنسية الأكاديمية البربرية في فرنسا لتشجيع هذه النزعة. ولعل قانون المناطق المقفولة في السودان كان مثالاً حيًا لذلك، وكذلك محاولات فرنسا في السنغال لفصل الجنوب عن الشمال ومحاولات إيطاليا في الصومال.[14]
3. الآثار الثقافية:
تعد اللغة هي وعاء الثقافة والحضارة وأحد عوامل الوحدة بين المسلمين؛ لذلك كان اهتمام التنصير منذ بواكيره بمحاولة طمس اللغة العربية واستبدالها باللغات الأوروبية.
لقد تغللت اللغة العربية في إفريقيا للدرجة التي صارت الأبجدية العربية تكتب بها معظم اللغات الإفريقية، ومنها على سبيل المثال اللغة السواحلية والتي كانت إلى وقت قريب تكتب باللغة العربية، وحين نت‍كلم عن «اللغ‍ة الس‍واحلي‍ة» فنحن نتكلم عن لغة م‍ا يقدَّر بمائ‍ة ملي‍ون نسمة في اثنتي عشرة دولة على الأق‍ل في إفريقي‍ا ال‍وسط‍ى والشرقي‍ة.‏ فهي اللغ‍ة الرسمي‍ة في العديد من البلدان مث‍ل أوغندا وتنزاني‍ا وكيني‍ا.‏
لم تصبح اللغة السواحلية م‍كت‍وب‍ة حت‍ى القرن الس‍ادس عشر‏ وهي مت‍أثرة إل‍ى حد بعيد ب‍اللغ‍ة العربي‍ة.‏ فعشرون في المائ‍ة على الأق‍ل من مفرداته‍ا مستق‍اة من اللغ‍ة العربي‍ة،‏ وال‍كلم‍ات الب‍اقي‍ة في معظمه‍ا م‍أخ‍وذة من لغ‍ات إفريقي‍ة.‏ ف‍لا عجب إذًا انه‍ا كُتبت بحروف عربي‍ة ط‍وال مئ‍ات السنين.‏
أم‍ا الي‍وم فقد ب‍اتت الس‍واحلي‍ة تُ‍كتب بحروف لاتيني‍ة‏ ت‍ول‍ى مهم‍ة تغيير الأبجدية التي تكتب بها اللغة السواحلية إلى الحروف اللاتينية المنصر كي‍وه‍ان ل‍ودڤيڠ كراپف،‏ بهدف ديني بحت، فحين وصل كرابف م‍ومب‍اسّ‍ا آنذاك كان معظم س‍ك‍ان س‍اح‍ل إفريقي‍ا الشرقي‍ة يدين‍ون ب‍الإس‍لام،‏ في حين أبق‍ى كثيرون من س‍ك‍ان المن‍اطق الداخلي‍ة على معتقداتهم الوثنية.‏ من هذا المنطلق؛‏ أدرك كراپف مدى أهمي‍ة جع‍ل الإنجيل مت‍وفرًا للجميع.‏
لذلك م‍ا إن وص‍ل إل‍ى كيني‍ا حت‍ى ب‍اشر بدراسة اللغ‍ة الس‍واحلي‍ة.‏ وه‍كذا،‏ استط‍اع على الف‍ور أن يبدأ بترجم‍ة الإنجيل في (‏ي‍وني‍و)‏ ع‍ام 1844.‏ وقد كان كراپف أول مَن استخدم الحروف ال‍لاتيني‍ة في كت‍اب‍ة الس‍واحلي‍ة.‏ وتجدر الإش‍ارة أن كراپف،‏ إض‍اف‍ة إل‍ى كونه رائدًا في ترجم‍ة الإنجيل إل‍ى الس‍واحلي‍ة،‏ وضع الأس‍اس للمترجمين الذين أت‍وا بعده.‏ كم‍ا أنه ألف أول كت‍اب لق‍واعد اللغ‍ة الس‍واحلي‍ة وأول ق‍ام‍وس لمفرداته‍ا[15].

ومعنى تغيير الأبجدية التي تكتب بها أي لغة إلى لغة أخرى هو إيجاد قطيعة ثقافية وعلمية وحضارية لذلك التراث الذي كتب بالأبجدية المستبدلة والتي لا تستيطع الأجيال الجديدة قراءاتها ولا التواصل معها، ومعناه أيضًا ثقافة وهوية حضارية جديدة وهو ما قام به هذا المنصر.
يقول (صموئيل) زعيم المنصرين في أوائل القرن العشرين: "يوم لا يبقى اللسان العربي هو لغة التجارة في إفريقيا، لا يبقى خطر من الإسلام لأن مداريته حينئذ ستصير فارغة".
كما حققت حملات التنصير نجاحًا كبيرًا في التأثير في الحياة الثقافية والفكرية في إفريقيا، فبعد أن كان القرآن الكريم واللغة العربية منتشرين بين عموم الأفارقة المسلمين ويكونان المجال الثقافي والفكري أصبحت المصادر الغربية تدخل في التكوين الفكري والثقافي والمجالات الفكرية الأخرى كالتاريخ أو علم الاجتماع أو علم النفس أو علم الإنسان أو غيره من العلوم للأجيال الجديدة في إفريقيا، من المسلمين وغيرهم.
4. الآثار السياسية:
سعى الاستعمار متخذًا من التنصير وسيلة لضرب وحدة المسلمين أينما حل، واتبع إستراتيجية شد الأطراف ثم البتر، سواء في إفريقيا أو في عموم العالم الإسلامي، فقد أدرك الغرب النصراني أن وحدة المسلمين وتماسكهم هي سرّ قوتهم وسيادتهم على الأمم الأخرى[16]؛ ولذلك حاولوا عن طريق التنصير إثارة الفتن والاضطرابات. ويمكننا أن نراجع في ذلك انفصال جنوب السودان في دولة نصرانية عن السودان الدولة العربية المسلمة، وكان ذلك في إستراتيجية متحدة لعبت فيها الحركات والإرساليات التنصريية دورًا كبيرًا.
كما كانت الإرساليات التنصيرية وأتباعها أداة في يد المستعمر؛ يستعين بها في التجسس على المسلمين وإثارة حالات الاحتقان السياسي والديني بين أبناء المجتمع الواحد، وفي هذا نجد كلام المنصّرين أنفسهم أكبر دليل على ذلك حيث يقول أحدهم: "لقد تمت محاولات نشطة لاستعمال المنصّرين ليس لمصلحة النصرانية بل لخدمة الاستعمار والعبودية" كما يؤكد هذا الهدف أيضًا القرار الصادر عن مؤتمر اليونان سنة1959م وجاء فيه: "… إن السياسة هي المجال الذي يجب على الكنيسة في دول إفريقيا وآسيا وأمريكا أن تعمل به…"[17].
وأخيرًا:
يتبين لنا جليًا بعد تلك المقالة الموجزة أن الحركات التنصيرية هي من عوامل الخطر التي تضرب جذر الحضارة والإسلام في إفريقيا، وتسعى لتقويض ما حققه المسلمون الأفارقة من أطر بنيوية في حياتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية القائمة على الإسلام، وهدفها في ذلك ليس دينيًا بقدر ما هو هدف مصلحي غايته إخضاع شعوب إفريقيا حضاريًا وثقافيًا واقتصاديًا للغرب بكل مفاهيمه، مستغلاً حالة الفقر والجهل والمرض التي تعيش بها معظم البلدان الإفريقية، وإن لم ينتبه المسلمون لهذا الخطر الذي يحيق بهم خاصة في إفريقيا ستكون النتائج شديدة على واقع المسلمين ومستقبلهم.
* الهوامش:
[1] بن بوزيد لخضر، جامعة محمد خيضر بسكرة – الجزائر، (حملات التنصير في إفريقيا في القرن التاسع عشر والعشرين)، المجلة الإفريقية للعلوم السياسية.
[2] المرجع السابق
[3] عبد الرحمن عميرة : الإسلام والمسلمون بين أحقاد التبشير وضلال الاستشراف ، دار الجيل بيروت 1999 ، ص21: 23.
[4] مصطفى الخالدي وعمر فروخ التبشير والاستعمار في البلاد العربية ، مشورات المكتبة العصرية ، بيروت ،1953، ص34.
[5] د. الناصر أبوكروق، التنصير الحديث في أفريقيا وخلفيته التاريخية وبعض وسائله
[6] بن بوزيد لخضر، حملات التنصير في إفريقيا في القرن التاسع عشر والعشرين، مرجع سابق.
[7]التنصير في غرب إفريقيا العمل دون بعيدًا عن الضجيج إعلامي موقع المسلم
http://www.almoslim.net/node/114308
([8]) أ. لو شاتليه أستاذ المسائل الاجتماعية الإسلامية في فرنسا وأحد المنصرين المستشرقين الفرنسيين في هذا القرن الميلادي. رأس تحرير مجلة العالم الإسلامي الفرنسية. انظر ترجمته في: الغارة على العالم الإسلامي. - مرجع سابق. - ص 5.
([9]) أ. ل. شاتليه. الغارة على العالم الإسلامي. مرجع سابق. ص 8.
[10] محمد الطاهر عزوي، الغزو الثقافي والفكري للعالم الإسلامي، 1999م، دار الهدى، ميلة-الجزائر.ص31.
[11] رحمون نعيمه، حريش حدة، أساليب ووسائل التنصير المعاصرة.
[12] محمد محمد حسين. الإسلام والحضارة الغربية. ط 5. (بيروت: مؤسسة الرسالة 1402-1982) ص 46.
[13] محمد السعيد الزاهري. الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير. (الجزائر: دار الكتب الجزائرية، بدون تاريخ) ص108
[14] د. إجلال رأفت، السياسة الفرنسية فى أفريقيا جنوب الصحراء، مجلة قراءات إفريقية، 27مارس 2014.
[15] حوار مع دكتور سيد جابر، عميد معهد البحوث والدراسات الإفريقية في القاهرة.
[16] محمد بن ناصر الشثري، التنصير في البلاد الإسلامية، أهدافه، ميادينه، آثاره، دار الحبيب، الرياض، ط: 1، 1998 م،، ص: 17.
[17] محمود عبد الرحمن، التنصير والاستغلال السياسي، دار النفائس، بيروت، لبنان، ط: 1، ص: 90.
المصدر : قاوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.