فى هدوء وصمت رحل عن دنيانا الفنان قدرى كامل كبير مرمى الآثار، والذى أثار معارك عديدة لعل أشهرها كشفه عن تزوير اليابان للآثار المصرية التى عرضت هناك وكان مرافقا لها، إضافة لما قدمه من فن نادر فى مجال الترميم لعل من أجمله قيامه وحده بترميم الأسلحة الأثرية النادرة بمتحف أكاديمية الشرطة، ورغم هذا لم يشر إعلام الداخلية أو أبناء الآثار بخبر واحد عن رحيله فى الثمانينيات من القرن الماضى، ومع مجىء فاروق حسنى وزيرا للثقافة، عرفنا قدرى كامل ضمن من تصدوا بشجاعة لمخاطر إهمال ترميم الآثار، أو ترميمها على أسس الفهلوة، لنهب الأموال الطائلة تحت ستار الترميم خاصة فى تمثال أبو الهول، وقدم قدرى كامل خطة ترميم علمية للتمثال، وغيره من الآثار الهامة، إلا أن فاروق حسنى أهملها، وتبين أن السبب، هو فتح خزائن الآثار والأنفاق بسفه تحت ستار الترميم، والذى سرعان ما كان ينهار، فيعاد ويتكرر وتتكرر معه فتح الخزائن. وكان قدرى كامل أيضا من ضمن فريق العلماء المعارضين لمشروع الوزير بمنطقة الأهرامات والمعروف باسم " طفطف وبوتيكات ومدرجات "، وهو المشروع الذى تصدى له علماء الآثار وفى مقدمتهم د . على رضوان و د . نعمات فؤاد حتى تم إيقافه، وقد عاد المشروع مؤخرًا بصورة أخرى، إذ يبدو أن زمن معارضة العلماء لمشروعات الفساد قد توقف تماما. وفى النصف الأول من التسعينيات سافر قدرى كامل مرافقا لمعرض للآثار باليابان، ومع توقعه بأن الآثار يمكن أن يتم استبدالها بآثار مزورة بأحدث التكنولوجيا، أخذ صور دقيقة ووضع علامات غير مرئية للآثار الحقيقية، وجاءت المفاجأة بمهانة اليابان للآثار إذ تبين أن الجهة العارضة للآثار ليست الدولة بل شركة تجارية متواضعة، قامت بعرض آثار مصر وسط السلع والأحذية، لينتهى اليوم بانصراف المصريين المرافقين للمعرض بين سقف "فاترينات العرض يمكن رفعه واعادته بسهولة بعد انصراف المرافقين". وراقب قدرى كامل الآثار بدقة، وبالفعل اكتشف تزوير العديد من أجمل الآثار المعروضة، ولم يتوان للحظة واحدة طمعا فى بدلات السفر، أو حصوله مقابل الصمت بالتقرب للوزير، بل أعلن على الفور وبشجاعة نادرة، و بأدلة علمية بارعة تزوير الآثار هناك، وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات خاصة مع نشر صور مهانة كيفية نقل الآثار فى سوبر ماركت بالدور السابع بأحد " المولات " وعرضها بجانب الأحذية. وثار وقتها الوزير المفسد، وأحضر مجموعة من " حظيرته "؛ ليزعموا أن الآثار لم تزور، وكان الطريف فى توقيعهم على محضر بسلامة الآثار، بينما بعضهم رأى الآثار عن بعد، وهى داخل " فاترينة " بالمتحف، وبعضهم وقَّع دون أن يحضر من الأساس ، وواصل الوزير الجانب الآخر من التعتيم على الحقيقة والتدليس، إذ قام بمجازاة قدرى كامل بدلا من مكافأته، إلا أن شهادة العلماء لقدرى كامل وقتها كانت أرفع وسام وأكبر ألف مرة من مكافأة الوزير. وكان موقف قدرى كامل الجرىء سندا لكسب القضية التى أقامها العلماء ضد الوزير، وعودة الآثار من اليابان، ومن المفارقات العجيبة أنه فى اليوم التالى لعودة الآثار من اليابان قام زلزال فى نفس المدينة التى كانت تعرض بها الآثار. وواصل قدرى كامل معاركه فى كشف فساد ترميم الآثار خاصة فى الكنيسة المعلقة، ووقف معه علماء نذكر منهم المرحوم د . على صبرى ود . حجاجى إبراهيم بالتعاون مع راعى الكنيسة القمص مرقص عزيز، إلا أن فاروق حسنى استغل كاتب السلطة الهارب إبراهام سعدة، ليحول الموضوع إلى هجوم على القس بزعم أن رجال الدين لا علاقة لهم بترميم الآثار، رغم أن الرأى فى الترميم كان لعلماء الآثار، وفى مقدمتهم المتخصص وكبير المرممين قدرى كامل. ووسط هذا الخضم كشف عدد من الآثريين الشرفاء بالأقصر فى مقدمتهم سيدة عبد الراضى ونعمة سند عن سرقة آثار الكرنك بمشاركة البعثة الفرنسية والتى أحدثت كوارث بالمعبد، وقد تبين أن مرمى البعثة من الهواة، ورفض الشرفاء الإغراءات وتعرضوا للتنكيل، بل استمر هذا الظلم ملازما ملفاتهم حتى اليوم بمنعهم من السفر مع المعارض بينما تم منح الفرص لمن هم أقل كفاءة وخبرة وربما شرفا. ومع إثارة الموضوع فى مجلسى (الشعب والشورى)، وأصبح حديث الرأى العام، جمع الوزير أعوانه فأطاعوه، وأصدروا تقريرًا جاملوا فيه بعض البعثة الفرنسي، وأشاروا إلى سلامة ترميم الكرنك، وعدم وجود سرقات. ولأن هذا النفاق الرخيص يضر بأغلى ما تملكه مصر من كنوز، لجأ شرفاء الآثار للقضاء، وتم تشكيل لجنة ضمت كبار العلماء والمتخصصين فى مقدمتهم شيخ الآثريين عبد الحميد زايد وكبير المرممين قدرى كامل، وأعدت اللجنة تقريرا علميا أثبت بحق ما تعرض له معبد الأقصر من تخريب على يد الفرنسيين و الوكلاء المغفلين لهم فى مصر. واستمرت معارك خبير ترميم الآثار قدرى كامل دفاعا عن آثار مصر خاصة فى الندوات التى نظمتها اللجنة الثقافية ولجنة الأداء النقابى فى نقابة الصحفيين، حيث كشف بشجاعة عن سرقات عديدة لقطع أثرية نادرة من مواقع مختلفة دون أن يبدى أحد المسئولين أى اعتراض ودون أى ضجيج، وعلى سبيل المثال الباب الأثرى الفخم لمدرسة ليسيه المعادى، حيث تم نقله للحرف الأثرية للترميم منذ 14 سنة كاملة ثم اختفى، ولم يعد. وأضاف : "إن أحد مرممى الزجاج المعشق أخذ الشبابيك الفخمة من مسجد السيدة زينب، وهى نوافذ مُعشَّقة بالزجاج بشكل فنى رائع، وقام باستبدالها بنوافذ جديدة، وعندما سأل عن نوافذ ذات القيمة الفنية القديمة رد رجال الآثار أن مسجد السيدة زينب غير مسجل فى تعداد الآثار.. أى من يريد أن يسرق أو يستبدل أو يستفيد بفارق الأسعار بين النوافذ ذات القيمة النادرة، وبين النوافذ العادية، فليفعل ولا رقيب أما عن اللمسات الجمالية فى ترميم الآثار، فقد شارك قدرى كامل فى ترميم العديد من التماثيل الكبرى خاصة المعروضة بالميادين وفى المحافظات المختلفة، كما قام وحده وبجهد وعبقرية نادرة ومثابرة فائقة، بترميم جميع معروضات متحف أكاديمية الشرطة بما يضمه المتحف من بنادق ومسدسات وغدرات، وغيرها من الأسلحة، بعضها يرجع إلى عهد محمد على، وكثير منها ذات شهرة عالمية؛ لاستخدامها من قبل شخصيات هامة من ملوك وأمراء أو قواد فى الحروب العالمية. وفى مجال الإبداع قد لا يتنبه الكثيرون إلى أن اللوحات المعروضة بالفنادق الكبرى فى مصر، والتى كانت تستخدم كخلفيات جمالية فى المناسبات لجذب الزوار والسياح، وأشهرها التى كانت تعرض فى شهر رمضان، وكانت على لوحات بمقاسات كبيرة جدا وعليها رسومات بإيحاءات من القاهرة القديمة خاصة العصر المملوكى كانت من تصميم الفنان قدرى كامل. ورغم هذا الإثراء الذى قدمه قدرى كامل فى الحياة الثقافية، سواء بتصديه للفساد، أو بترميمه للآثار ببراعة فائقة إلا أنه رحل فى هدوء، إذ يبدو أن الإعلام أصبح لا يهتم سوى بمن يعمل فى حزب سياسى ذو صوت عالى، أو أصحاب غسيل الأموال، أو الراقصات والغوازى، بينما يغيب الوفاء عن تكريم العلماء، وكأن المفسدين يقفون وراء عدم تكريمه ردا على ما قام به ، وإن كنا نعرف أن مثل قدرى كامل لم يكن ينتظر تكريما، فهو يعلم مكانته فى قلوب محبيه من الوطنيين والمثقفين بحق، ويعلم أن ما يؤديه هو واجبه الوطنى تجاه بلده، ومخلصا لوجه الله والوطن. لقد كان من عادة قدرى كامل – رحمه الله - أن يبادر بالاتصال فى العيد بمعارفه وأصدقائه، إلا أن هذا العيد كاد أن ينتهى دون أن يتصل، فقمت بالاتصال فى مساء آخر أيام العيد، فردت ابنته رضوى، والتى أعرفها من صوتها، حيث كان يداعب ابنتى عندما ترد على اتصاله؛ لأنها تحمل أيضا اسم ابنته، فإذا بها تفاجأنى برحيله، حاولت أن " ألملم " الصدمة ، وسألتها لماذا لم تقم والدتك بإخبارنا؟، فواصلت الصدمة بأنها هى الأخرى توفت فور رحيله، وكانت مدرسة للغة الفرنسية طيبة ودودة. أثق فى أن الله سيخرج من هذا النبت الطيب فروع طيبة، وأن تكون رضوى مثل والديها فى الطيبة، والتفوق فى العلم، والجرأة فى الحق ، ولكن يبقى السؤال كيف يرحل مثل هذا العالم الكبير دون ذكر أو تكريم سواء من العامين فى الآثار، أو من أكاديمية الشرطة التى قام بترميم وإحياء متحفها، أو حتى من الفنادق الكبرى التى ضمت لوحاته، وكذلك من المثقفين محبى هذا الوطن؟!