خبرتُ الكلاب المسعورة ونالنى منها الأذى وأنا طفل صغير فكرهت الكلاب . و فى سنوات النضج العقلي درستُ طبائع الكلاب المسعورة فى السياسة والإعلام ..فهالتنى خسّتهم ونذالتهم .. وسقطت الهالات الزائفة التى أقَمْتها فى خيالى أيام الصبا؛ حيث كنت أتصوّر نفسى إذاعيا ناجحا ؛ يملك كنوزًا من المعارف والمعلومات ، وقدرة على التعبير المبين ، والحوار الذكي الَّلمَّاح ، فى شتى الموضوعات والمواقف. أو صحفيًّا مرموقًا رشيق العبارات مبهرًا .. أو سياسيا دبلماسيا يجيد الخطابة وعرض الأفكار وإقناع الجماهير والنظراء بوجاهة أفكاره .. ولكنى خرجت من دراستى وتجربتى مع الجميع بمرارة واحتقار شديدين.. ووجدت نفسى أردّد مع الشاعر المتشائم أبى العلاء المعرِّى هذين البيتين المشهورين من الشعر.. يقول فيهما: يسوسون الأمور بغير عقلٍ ** فينفُذُ أمرهم ويقال ساسة فأُفَّ من الحياةِ وأُفَّ منهم ** ومن زمنٍ رئاستُه خساسة
بعد انطلاق ثورة يناير 2011م المجيدة صعدت آمال الناس -وكنت منهم- إلى عنان السماء.. واعتقد الجميع أن عهود الظلم والفساد ولّت إلى غير رجعة، وأن القضاء العادل سوف يعاقبُ كبار الناهبين واللصوص؛ الذين نهبوا ثروة الشعب وأفسدوا حياته وباعوا ممتلكاته للأجانب بتراب الفلوس .. وأنه سيقتصّ من السفّاحين الذين قتلوا الثوار وأصابوهم بعاهات مستديمة أثناء الثورة الشعبية السلمية.. و أنه سيعيد الحقوق إلى أصحابها.. فإذا بنا نكتشف أن كلاب القضاء الفاسد قد انحازوا للثورة المضادة وبرّأوا جميع القتلة واللصوص والفاسدين من أعداء الشعب و أعداء ثورته..
ثم تابعت رصدى لأنواع من كلاب القضاء لم أكن أتصوّر وجودها .. فروّعنى مدى انحطاطهم وفقدانهم لأبسط خصائص الأهلية والشرف ، بانحيازهم وخضوعهم الذليل للعصابة الانقلابية ؛ تمادوا فى إرضاء العسكر ، وبالغوا فى نفاقهم حتى لا يفضحون جرائمهم ؛ ومن علامات ذلك إسرافهم فى الأحكام بالسجن والغرامات الفاحشة والإعدام -بلا سند من قانون- على الأبرياء والشرفاء من رافضى الانقلاب.. فإذا تطلّعت إلى وجوههم ارتعدت فرائصك من بشاعة تقاطيعها العابثة الكالحة، التى لا تنم عن ملامح إنسانية لقضاةٍ حقيقيين ، وإنما سمات وجوه لعصابة من متعاطى المخدرات أدمنوا الشمّ والبانجو والأفيون .. تنظر إلى وجوههم فتندهش: كيف أفلتت هذه المخلوقات من مستشفيات الأمراض العقلية ..!!
وقد عبّر المستشار أحمد مكي وزير العدل السابق بلغة مهذبة جدا عن استيائه من أحكام الإعدام التى صدرت مؤخرا ضد معارضي الانقلاب، بأنها "أضرّت بسمعة القضاء المصري" .. ولأنه أعلم بهذه الأوساط قدّم لنا تفسيرًا واقعيًّا لانحراف القضاة وأسباب فسادهم ؛ حيث صرّح خلال لقائه في برنامج حوار خاص على قناة الجزيرة مباشر مصر .. قال : "إن هناك بعض القضاة استطاع الأمن أن يسجل عليهم جرائم ارتكبوها من قبل واستعملها ورقة ضغط للحكم بما تريده السلطة وإلا سيقوم بفضحهم أمام الرأى العام والشعب المصرى..!!" كما قال أيضا: " إن السلطة القضائية تغض الطرف عن جرائم بعض القضاة المُدانين فيها بالسطو على المال العام ؛ وترْك أمثال المستشار أحمد الزند يمارس العمل السياسى دون محاسبته لعلاقته الوطيدة بالسلطة الحالية"..
وهذه شهادة لا يمكن التغاضى عنها أو الاستهانة بها لأن قائلها مستشار مشهود له بالنزاهة والصدق ، وأنها شهادة نابعة من داخل المنظومة القضائية.. وعلى لسان واحد من أبرز القضاة الذين كرّسوا حياتهم للدفاع عن استقلال القضاء وشرفه ..
إنه يلفت نظرنا أيضًا إلى الواقع المقلوب، الذى يسمح بتحكّم مجموعة من أراذل القضاة ووُضعائهم.. فى أشرف القضاة وأنقيائهم ؛ حيث أشار إلى حبس المستشار محمود الخضيرى الذى زامله فى معركة استقلال القضاء خلال عهد مبارك .. يقول عنه: "إن المستشار محمود الخضيري يتباهى بأنه محبوس بين أحرار الوطن، وأنه شديد الصلابة .. ويتمتع بروح معنوية عالية، و كأنه قد عاد إلى شبابه عقب دخوله السجن، وأنه قارب على الانتهاء من حفظ القرآن الكريم كاملًا..!"
كان المستشار الخضيرى من أبرز الشخصيات المحترمة فى القضاء المصري ؛ فقد تدرج في السلك القضائي حتى أصبح نائبًا لرئيس محكمة النقض، التي تعتبر أرفع المحاكم المصرية ، ولكنه استقال من منصبه بعد 46 عاما من الخدمة ، مصرِّحا بقوله: "أعتبر أن استقالتي صرخة احتجاج في وجه الأوضاع الحالية بالقضاء، وأتمنى أن تحدث نوعًا من الجدِّية لإصلاحه"..
والمهم هنا هو أن كلام المستشار أحمد مكي -على بساطته وعفويته- يفجر حقيقة هذا الانقلاب العسكري ويفضح فساده وجرائمه فى حق هذا الوطن.. وفى حق أبنائه الشرفاء .. ويبيّن لنا بما لا يدع مجالا للشك أن مصر منقسمة لا على أسس من الاختلافات الحزبية أو الفكرية ، تحن مظلّة الوطنية التى تحتضن الجميع ، وإنما على أساس من القسمة الأخلاقية بين شرفاء تم الغدر بهم ومورست عليهم عمليات التشويه والقمع والإقصاء ، ووُضعاء مارسوا الخيانة والغدر واستخدموا ما أتيح لهم بحكم وظائفهم من قوة الجيش والشرطة والسلاح، والقضاء الفاسد والإعلام المرتشى ، لتحقيق أهداف دنيئة ومصالح شخصية ، على حساب الشعب وثورته وأمانيه فى حياة كريمة وعادلة..
إن الأمة قد أصابتها كارثة عظمى نعلم مُبتدَأَها .. ولكن يعلم الله وحده مُنتهاها ؛ فالوُضعاءُ والأخِسَّاءُ والأنذال يتصدَّرون السلطة.. و يجلسون على منصات القضاء والتوجيه الفكري والإعلامي ، بينما الشرفاء فى السجون والمعتقلات .. يعيشون تحت سياط التعذيب والقهر وأحكام الإعدام .. يوصمون بالإرهاب .. ويُصبُّ على وجوههم القطران.. ويُطارَدُ ذووهم ، وأنصار الشرعية المعارضون للانقلاب - فى الشوارع والمنازل- بهرّوات الشرطةُ وبنادق العسكر.. ويُسَلّطُ عليهم المستأجرون من البلطجيةُ وأربابُ السوابق ، الذين تصفهم أجهزة إعلامِ كبير الوُضعاء- ب "المواطنين الشرفاء"!
استمعت مؤخّرا إلى تسجيل للرجل الذى يُفترض فيه أنه قائد هذه العملية كلها ، فتأكّد لديّ أن مصر قد ابتليت بشخصية هي من أعجب عجائب هذا الزمان .. شخصية يستحيل أن تتكرر فى بلد واحد خلال قرن كامل: دعْك من أنه لا يعرف كيف يدعو الله دعاء صحيحًا..! لأنه لم يتعوّد أن يلجأ إلى الله ويدعوه بأي نوع من الدعاء المأثور.. ولا يعرف كيف يتأدب مع الله فى خطابه .. وقد تكفّل الشيخ وجدى غنيم بالرد عليه بما يستحق ..! ولكن -فى الحقيقة- لفت نظرى نقطتان فى حديثه القصير المفكك ، الذى وصفه الناس بأنه كلام أهبل: النقطة الأولى أنه شدّد على عبارة "وأنا متأكد" بشكل مُلْفت للنظر وانتظرنا ليبيّن لنا "متأكد من إيه ..؟!" فلم نعرف لأنه لم يكمل العبارة .. وإنما انتقل على الفور إلى موضوع آخر مختلف تمامًا .. وكأنه لا يدرى ماذا قال..!
لقد توقّعت أن ذاكرته الرجل ربما ستعود إليه ليستدرك ويكمل العبارة .. ويحل لنا اللغز المفتوح الذى طرحه لنعرف من أي شيء هو متأكد...؟! ولكنه مضى فى حديث مفكك لا يربط أجزاءه منطق .. حتى انتهى من الكلام الأهبل وهو يتظاهر بالتأثر وكأنه سيبكى على حال مصر المائل..! من الواضح أنه يشعر بورطة كبيرة ولكنه لايريد أن يصرّح بهذه الحقيقة .. والمصيبة أن الحاضرين من أصحاب القبّعات العسكرية وحاشيتهم صفقوا له طويلًا.. كأنه قال شيئًا رائعًا.. وقد سألت نفسى: على أي شيء يصفق هؤلاء الناس ..؟ هل يصفقون على الخيبة والهبل مثلا ..؟! أم تعاطفًا مع عيّل خيبان أوقع نفسه فى مأزق وأخذ يتهته لا يدرى ماذا يقول.. ويريدون تشجيعه لاستعادة الثقة بنفسه .. أم أن الحكاية كلها هبل فى هبل ..؟! وتمثيليات تُسوّق للغوغاء خالية من الذكاء..؟ّ!
لقد صدق الشيخ وجدى غنيم فى تعليقه الساخر .. وصدق الله العظيم القائل فى محكم التنزيل: { إن الله لا يصلح عمل المفسدين}.
لست أشك لحظة أن هذه الأوضاع التى انقلبت فيها موازين الحق والعدل والشرع .. وانتهكت فيها عصابةٌ مارقة سنن الله فى المجتمعات الإنسانية- لا يمكن أن تستمر طويلا.. لابد أن تبلغ نهايتها الفاجعة المحتومة .. ويقولون متى هو ..؟! قُلْ عسى أن يكون قريبًا.. إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا.. بحول الله وقوته..!