أسرى أم غير أسرى، الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود بأية ذريعة ليس وجهة نظر. نقطة على السطر. فما بالك إذا جاء مثل ذلك الاعتراف في وثيقة هدفها تخفيض السقف السياسي لفصائل مقاومة بعينها، ولحالة المقاومة عند الشعب العربي الفلسطيني بشكلٍ عام؟! ما زال البعض يحيلنا إلى ضرورة إنهاء حالة "الانقسام الفلسطيني" من خلال حكومة "وحدة وطنية"، وضرورة تحقيق "الوحدة الوطنية" بين الفصائل والشخصيات الفلسطينية على أساس "وثيقة الوفاق الوطني"، المسماة "وثيقة الأسرى" لإضفاء نوعٍ من الحصانة النضالية عليها، وكأن من يعترض على المضمون السياسي المتهالك لتلك الوثيقة مثلاً يتطاول على المكانة النضالية للأسرى! ليكن واضحاً إذن أن الأسرى والشهداء والمناضلين والمجاهدين، بما يمثلونه من حالة تضحية وفداء، وبالتالي بما يمثلونه من حالة إجماع، يتم استغلالهم كعنوان هنا للتغطية على موقف تسووي بامتياز يقود بالضرورة إلى تصفية حالة الانتفاضة والمقاومة. وقد سبقت الإشارة في مواضع أخرى، مني ومن كثرٍ غيري، أن الوحدة الوطنية لا تقوم مع غير وطنيين يرتبطون بمشروع غير وطني يتظلل بالطرف الأمريكي-الصهيوني ويعادي فكرة التحرير والعمل والمسلح والاستشهادي من حيث المبدأ. الوحدة مع من ينسقون أمنياً وسياسياً مع العدو الصهيوني لا يمكن أن تكون وطنية. فالوحدة، أية وحدة، يتحدد مضمونها بشيئين: 1) برنامجها السياسي، 2) طبيعة قيادتها. فإذا كان برنامجها تسووياً، ويقوم على إيجاد موطئ قدم في المشروع الأمريكي-الصهيوني في الإقليم، وقيادتها معادية للمقاومة، وتعلن ذلك صراحةً، فإن أي وحدة من هذا الصنف تؤدي إلى خلط الأوراق وتشويش أنصار المقاومة وحرف بوصلتهم، كما تؤدي لمد أنصار الطرف الأمريكي-الصهيوني في الساحة الفلسطينية بالمشروعية و"وحدانية التمثيل" ليمارسوا من خلفهما المزيد من التنسيق مع الطرف الأمريكي-الصهيوني. الطريقة الوحيدة للتعامل مع من ينسقون أمنياً وسياسياً مع العدو عند أي شعب محتل في العالم واضحة ولا تحتاج إلى تفسيرات أو شروح أو حوارات، ولعل المثال الأفضل عليها هو الحسم العسكري في غزة مع مشروع دايتون لتصفية المقاومة، بالرغم من أن ذلك الحسم جاء كإجراء وقائي، والأصح أن يكون إستراتيجية عامة مفروغ منها للتعاطي مع أذناب الاحتلال. المهم، ما يسمى "وثيقة الأسرى" تمثل اختراقاً سياسياً في الحالة المقاومة من قبل أصحاب المشروع التسووي والتفريطي في الساحة الفلسطينية. وأخطر ما فيها أنها تجيء لتكرس إجماعاً غير وطني كبديل للميثاق الوطني الفلسطيني (غير المعدل) الذي تم شطب أهم بنوده في جلسات للمجلس الوطني الفلسطيني على مرحلتين عامي 96 و98، بحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون.
الميثاق الوطني الفلسطيني غير المعدل ينص على أن: 1) فلسطين عربية من النهر إلى البحر، 2) الكفاح المسلح هو إستراتيجية تحرير فلسطين، و3) اليهود الذين أتوا إلى فلسطين بعد بدء المشروع الصهيوني لا يعتبرون فلسطينيين.
تلك هي وثيقة الإجماع الوطني الفلسطيني، ولسنا بحاجة لأخرى غيرها تدخلنا في متاهات التسوية والتفريط والمرحلية.
أما "وثيقة الأسرى" فتقوم على ما يلي: 1) اعتبار هدف النضال الفلسطيني تقرير المصير، "بما في ذلك" حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة على جميع الأراضي المحتلة عام 1967، "وما كفلته الشرعية الدولية" طبعاً. ويبدو أن "بما في ذلك" وضعت لإيهام أنصار التحرير الكامل بأن "الدولة المستقلة" مشروع "مرحلي"، ولو كانت تلك هي النية لما تمت الإشارة للشرعية الدولية التي تضمن حق "إسرائيل" بالوجود وبحدود آمنة، مع العلم أن الحديث هنا عن "تقرير مصير"، أي عن دولة ما، وليس عن تحرير، أو عن انسحاب دون قيد أو شرط، فالفهلوة هنا على أنصار التحرير وليس على العدو، وفي النهاية المشروع المطروح هو دولة في حدود ال67. 2) انضمام حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى منظمة التحرير الفلسطينية "بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده". وهنا يضرب عصفوران بحجر واحد، أولهما تكريس مرجعية م.ت.ف رسمياً، أي تكريس مرجعية الخط التسووي في الساحة الفلسطينية، وثانيهما طرح انضمام حماس والجهاد لمنظمة التحرير على قاعدة المحاصصة، دون شطب قرارات المجالس الوطنية المعترفة بالعدو الصهيوني والعملية التسووية، ودون العودة عن تعديلات الميثاق الوطني الفلسطيني. 3) التمسك بخيار المقاومة، و"تركيز" المقاومة في الأراضي المحتلة عام 67، "إلى جانب العمل السياسي والتفاوضي والديبلوماسي"... إي إلى جانب لقاءات عباس مع أولمرت مثلاً؟ أم إلى جانب المفاوضات السرية بين السلطة والكيان الصهيوني؟ أم مع تكريس الاعتراف بما "أنجزه" العمل السياسي والتفاوضي والديبلوماسي ل"الممثل الشرعي الوحيد"، كاتفاقية أوسلو مثلاً؟ مرة أخرى، الحديث عن "تركيز" المقاومة في الأراضي المحتلة عام 67 هو زبدة الفكرة، مع العلم أن المقاومة لم تعرف باعتبارها مقاومة عسكرية هنا أبداً، بل هناك حديث عن توسيع المشاركة الجماهيرية بالمقاومة. عبارة "تركيز" لا تنفي المقاومة في أماكن أخرى من فلسطين غير ال67، وهنا الفهلوة على أنصار التحرير مجدداً، ولكن تركيز المقاومة، دون ذكر العسكرية حتى، في ال67 ينسجم في النهاية مع خط الاعتراف بالكيان، والمطالبة بدولة في حدود ال67. 4) توحيد الخطاب السياسي الفلسطيني على أساس برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني والشرعية العربية (أي مبادرة السلام العربية) وقرارات الشرعية الدولية "المنصفة لشعبنا" (حركة فهلوة أخرى هدفها إقناعنا بما يسمى الشرعية الدولية لولا بعض الهنات الهينات). والحديث عن توحيد الخطاب في ظل انقسام بين نهجين، أحدهما مقاوم والأخر تسووي، لا يمكن أن يعني تبني السلطة لنهج المقاومة مثلاً!! 5) "حماية وتعزيز السلطة الفلسطينية باعتبارها نواة الدولة القادمة"... لا تعليق! وكأن سلطة تستمد مشروعيتها من اتفاقية أوسلو تستحق أن تعامل إلا كامتداد للكيان الصهيوني. 6) البند السادس من الوثيقة يتحدث عن تشكيل حكومة وحدة وطنية... البند السابع يشير إلى أن إدارة المفاوضات من صلاحية م.ت.ف ورئيس السلطة الفلسطينية... البند الثامن يطالب بتحرير الأسرى... البند التاسع يتناول قضية اللاجئين ويدعو ل"مؤتمر شعبي تمثيلي للاجئين" (وهي دعوة غريبة بالنسبة لمن يعتبر م.ت.ف الممثل الشرعي الوحيد لفلسطينيي الشتات أيضاً، خاصة أن المؤسسات الدولية هي التي طرحت ضرورة وجود هيئة مستقلة للاجئين لتعبر عنهم، وكأن هناك حل للجوء غير التحرير مثلاً!!). 7) المادة العاشرة تدعو لتوحيد العمل المقاوم في جبهة موحدة وتحت مرجعية سياسية واحدة، هي بالضرورة المرجعية التسووية المذكورة أعلاه... والباقي معظمه حشو ونقاط ثانوية مشتقة مما سبق.