ليس بالأمر المستغرب أن نري العالم الإسلامي – الذي يشكل سكانه خُمس سكان العالم – قد أصبح مسرحا مباحا للصراعات المحلية والعالمية، ومطمعا للقوى الكبرى، وأصبح المسلمون في عالم اليوم أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام .. وأصبح أعداء الأمة الإسلامية يتحكمون في مصيرها، ويقررون وحدهم في غيبة المسلمين أو حتى في حضورهم ما يشاءون، في أخص خصوصيات هذه الأمة للأسف الشديد... وفي خضم هذه الأوضاع المزرية التي يعيشها عالمنا الإسلامي( نحتاج لإعادة صياغة البديهيات، أو ما يجهله أو يغفله البعض)؛ لأننا نجد هناك اتجاها قويا لتعليق كل أخطائنا وعيوبنا وتخلفنا على شماعة الآخرين دون أن نلتفت لنقد ومحاسبة أنفسنا، والتعرف بطريقة موضوعية على مواطن الخلل لدينا !! * والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام: ما هو السبيل لإنقاذ الأمة الإسلامية من وهنها وتخلفها ؟ - والإجابة تكمن في الإجابة على سؤال آخر: كيف تحققت الحضارة العظيمة والعزة والرفعة والتمكين لهذه الأمة من قبل؟ تحققت بقوة الإيمان الحق، وقوة التشبُث بتحكيم شرع الله في كل مناحي حياة المسلمين الأوائل، وقوة الإيمان بضرورة نشر هذه الدعوة الإصلاحية للعالم أجمع بكل الوسائل العادلة الرحيمة الممكنة.. أما نحن: فقد غُيبت عقولنا، واختزلنا الإسلام في مجرد أداء الشعائر المعروفة !! وأصبح اهتمامنا مفرط بالشكليات بعيداً عن جوهر الدين ومقاصده؛ * إذن لابد من إعادة تعليم وتدريس جوهر هذا الدين ومقاصده الشاملة في المدارس، وللكبار أيضاً؛ لنصل أمتنا بماضيها العريق، فإننا في حاجة إلى العودة إلى التواصل مع أصول ومقومات حضارتنا الإسلامية، والعودة لتحكيم شرع الله والتشبث بشموليته، فشرع الله لا يتجزأ، ولا يمكن أن نفصل الدين عن السياسة وحياة الناس، فالله سبحانه وتعالى أمرنا باختيار الراعي الصالح للأمة، وتقويمه إن حاد عن الصواب، والحق يحتاج إلى قوة عادلة تحميه،[ إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ] وهذا أثر ثابت عن عثمان، وعمر- رضي الله عنهما- ومعناه يُمنع بالسلطان باقتراف المحارم، أكثر ما يمنع بالقرآن؛ لأن بعض الناس ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن، ونهي القرآن، بل يقدم على المحارم ولا يبالي، لكن متى علم أن هناك عقوبة من القانون ومن الحاكم، ارتدع! وخاف من العقوبة؛ إذن علينا بالتشبث بشمولية سفينة النجاة؛ حتى يتم لنا التمكين في الأرض، ونفرض احترامنا على الآخرين، والإسلام جعل شرط التمكين في الأرض لمن يحكم بشرع الله الحكيم، واقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون الأمن الحقيقي والسعادة الحقيقية والحياة الطيبة لمن اتبعوا وحيه وحكَّمُوا شرعه, قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [ طه: 123 124]. * وشرع الله هو الروشتة العلاجية لكل مشاكل هذه البشرية الحائرة، وهو الشريعة الهادية لكل زمان ومكان؛ فإذا قام به المجتمع فإنه يحقق الأمن والسلام والطمأنينة، فيُقضى بواسطة أدائه على جميع ألوان العدوان والاضطهاد والاستغلال، ويتحقق العدل، وتحفظ كرامة الإنسان وحريته، ويتم الحفاظ على سلامة الأرواح والأعراض والأموال، ويُقضى من خلال تطبيقه على جميع ألوان الاعتداء؛ فيعيش الناس آمنين مطمئنين... فالإسلام يعمل على تنمية الشعور بالمسئولية من قبل الجميع، فتسعى العامة إلى إيصال عدول الفقهاء إلي موقعهم الريادي، ويسعى الفقهاء إلى تطبيق حكم الله في الأرض طبقًا لقواعد الشريعة، والعمل على زوال الفوارق بين الحكام والمحكومين، والتآزر من أجل الأهداف الواحدة، ويقوم الحكام بمنع المنحرفين من الوصول إلى المراكز الحساسة في السلطة السياسية. * ومن الأمثلة الرائعة التي رواها الماوردي: أن السلطان بمدينة دمشق طلب محتسبًا، فذكروا له رجلا من أهل العلم فأمر بإحضاره؛ فلما حضر بين يديه قال: إني وليتك أمر الحسبة على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: إن كان الأمر كذلك فقم عن هذه الأريكة، وارفع هذا المسند؛ فإنهما حري، واخلع هذا الخاتم؛ فإنه ذهب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ )، قال: فنهض السلطان من مكانه، وأمر برفع المسند، وخلع الخاتم من إصبعه، وقال: ضممت إليك النظر في أمور الشرطة؛ فما رأى الناس محتسبًا أَهْيَبَ منه... * فالإسلام الحق: دين لا يعرف المحسوبية ولا الوساطة ولا المجاملة لأحد ولا النفاق، دين يُعطي الحقوق بالعدل للأحمر والأسود: أنه يقضي على جميع ألوان الانحراف والفساد، وإشاعة الأخلاق الحسنة في العلاقات الاجتماعية لتقوم على قواعد وأسس الشريعة، حيث الصدق والوفاء، والتراحم والتناصح، وأداء الأمانة، والرفق والإحسان، والانطلاق لإسعاد المجتمع، دين يمنع الظلم والاستبداد ويُعطي الحقوق للحر والعبد، ويعطي للأجير حقه قبل أن يجف عرقه، دين من فرائضه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه.. وحدد الإسلام الموقف من المنكر بتغييره باليد أو باللسان أو بالقلب؛ بحسب الظروف المواتية، ومصلحة المسلمين الآنية والمستقبلية، وضرورة اختيار الوقت المناسب للتغير.