تكلمنا في المقالة السابقة عن حاجة البشر للإسلام وأنهم أشد ما يكونوا حاجة إليه بل حاجتهم إليه أعظم من حاجتهم إلى الطعام والماء والملبس والمسكن وتأت هذه المقالة لتؤكد هذا المعنى وتزيد عليه أمرا عظيما وهو تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى بتطبيق الشريعة وإقامة الدين فقد أجمعت الأمة الإسلامية، على وجوب إقامة الحاكم أو الخليفة شرعاً، والأدلة على ذلك كثيرة من النصوص الشرعية. فمن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم-: )ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته...الحديث(. رواه البخاري. وعمدة الأدلة بعد النصوص الشرعية في إثبات وجوب تنصيب الحاكم هو الإجماع، فهو دليل قاطع على ذلك منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم لأنهم عند وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بادروا إلى بيعة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- وتسليم النظر إليه في أمورهم وكذا كان الأمر في كل عصر بعد ذلك، كما أن نصب الحاكم ضروري لدفع أضرار الفوضى، ولتنفيذ كثير من الواجبات الشرعية التي لا يتولاها آحاد الأمة، ولن يتحقق العدل الكامل إلا بوجود حاكم للناس، وذلك لحملهم على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية، والدنيوية الراجعة إلى الأخروية أيضاً، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع – صلى الله عليه وسلم - في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. المهمة الأساسية للدولة المسلمة: إذا قامت الدولة الإسلامية، التي يمثلها حاكمها، فإنها تضطلع بالواجب الأساسي، والمهمة الأصيلة المنوطة بها، ألا وهي تطبيق شريعة الله تعالى، وإفراده بالعبودية والحكم، تحقيقا لمقتضى الخلافة في الأرض. إذ أن الله تعالى إنما استخلف الإنسان في الأرض، ليقيم فيها حكم الله - تعالى- وشريعته، فالله سبحانه وتعالى هو الحاكم والمشرع وحده، حيث يقول سبحانه في هذا الشأن: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف: 40). والسنة عند التحقيق راجعة إلى الكتاب الكريم. والدولة المسلمة هي الدولة التي تحقق العبودية لله – تعالى - بتطبيق شرعه وأحكامه في كل مجالات الحياة، وترجع الأمر كله لله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) الأعراف: 54. ولا تقوم هذه الدولة إلا بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله - تعالى- وفق ما قرره من شريعة مبينة محكمة إذ أن التشريع والحكم من أخص خصائص التوحيد فيجب أن يفرد بهما الله تعالى. وقد قضى الإسلام في مسألة الحكم، من الناحية القانونية، وقضى أنها لله -تعالى- وحده الذي لا يقوم هذا الكون، ولا تسير شئونه، إلا بالحكم بما أنزل الله، والذي له حق الحكم على الناس من غير مشارك ولا منازع، وهذا ما بينه القرآن الكريم، وبقوة من البيان لا يمكن أن يؤتى بمثلها لإثبات أمر ما فبالإضافة إلى الآيات السابقة يقول سبحانه: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ)الأعراف: 3. وقد عبر عن الانحراف عن حكم الله -تعالى- بأنه مروق من الدين، فقال سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) المائدة: 44. ومن ثم فإنه يتضح من هذا وضوحا تاما، أن الإسلام والإيمان إنما هو عبارة عن التسليم بالحكم بما أنزل الله من الناحية القانونية والإذعان له، وما الجحود بذلك إلا انحراف عن منهج الله ومروق من الدين كما ذكرنا. وظائف الحاكم في الإسلام: الحاكم المسلم يقوم بوظيفتين أساسيتين: الأولى: إقامة الدين الإسلامي وتنفيذ أحكامه الثانية: القيام بسياسة الدولة التي رسمها الإسلام على أننا نستطيع أن نكتفي بالقول بأن وظيفة الخليفة هي: إقامة الإسلام لأن الإسلام -كما علمنا- دين ودولة، فإقامة الإسلام هي إقامة للدين وقيام بشئون الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام. وقد جاءت الآيات القرآنية الكريمة تبين أن وظيفة الدولة الإسلامية -أو وظيفة ولى الأمر- هي أن تقيم المآثر والمكارم، التي يجب أن تتحلى بها الحياة البشرية، وتبث الخير، وتبذل جهد المستطاع في رقيها وتعميم ميراثها. وأن تستأصل وتنفي عن الأرض كل ما يبغضه الله، من الفواحش والمنكرات، وتطهرها من شوائبها وأدناسها، وأن تقيم الصلاة وتأخذ الزكاة، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تسوس أمور الناس في حدود ما أنزل الله -تعالى-. وقد أجمل أحد الباحثين هذه الوظائف التي نصت عليها الآية القرآنية الكريمة وهي قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران: 104 . فقال: أول ما يفرضه هذا الإرشاد الإلهي على المجتمع الإسلامي هو إقامة هيئة تضطلع بأداء وظائف ثلاث: الوظيفة الأولى: هي الدعوة إلى الخير، والدعوة إلى الخير إذا قامت بها الهيئة ذات السلطان في المجتمع فليس معناها مجرد الدعوة، بل العمل الإيجابي على تحقيق مقتضيات الخير للمجتمع. إذن فالدولة الإسلامية لن تكون إلا دولة خيرة، دولة شعارها تحقيق فلاح المجتمع الإنساني في كل آفاقه. والوظيفة الثانية: هي الأمر بالمعروف، والمعروف هو كل الأصول الكلية التي فرضها الله تعالى لصالح المجتمع الإسلامي، وكل ما يبنى عليها ويتفرع منها. والوظيفة الثالثة: هي النهى عن المنكر، والمنكر هو كل ما نهت عنه النصوص والأصول الكلية، وكل ما يقاس عليها في إلحاق الضرر بالمجتمع. وليس هذا حصراً لكل وظائف الدولة، وإنما هو بيان إجمالي لها، لأن الدولة تقوم بكثير من الواجبات والوظائف الايجابية والسلبية. يقول المودودي رحمه الله: "إن الدولة التي يريدها الإسلام ليس لها غاية سلبية فقط، بل لها غاية إيجابية أيضاً، أي أنها ليس من مقاصدها المنع من عدوان الناس بعضهم على بعض، وحفظ حرية الناس، والدفاع عن الدولة فحسب، بل الحق أن هدفها الأسمى هو نظام العدالة الاجتماعية الصالح الذي جاء به كتاب الله، وغايتها في ذلك النهى عن جميع المنكرات التي ندد بها الله تعالى بها في آياته، واجتثاث شجرة الشر من جذورها، وترويج الخير المرضي عند الله تعالى، المبين في كتابه. ففي تحقيق هذا الغرض تستعمل القوة السياسية تارة، ويستفاد من منابر الدعوة والتبليغ العام تارة أخرى، ويستخدم لذلك وسائل التربية والتعليم طوراً، ويستعمل لذلك الرأي العام، والنفوذ الاجتماعي طوراً آخر، كما تقتضيه الظروف والأحوال. فمن الظاهر أنه لا يمكن لمثل هذا النوع من الدولة أن تحدد دائرة عملها، لأنها شاملة محيطة بالحياة الإنسانية بأسرها، وتطبع كل فرع من فروع الحياة الإنسانية بطابع نظريتها الخلقية الخاصة وبرنامجها الإصلاحي الخاص، فليس لأحد أن يقوم في وجهها ويستثني أمراً من أموره قائلاً: إن هذا أمر شخصي خاص لكي لا تتعرض له الدولة". وبالجملة: "فإن الدولة الإسلامية تحيط بالحياة الإنسانية، وبكل فرع من فروع الحضارة، وفق نظريتها الخلقية وبرنامجها الإصلاحي". ويقول أيضاً: "ليست المهمة الحقيقية التي تتولاها الدولة الإسلامية في الأرض، هي أن تعمل على إقامة الأمن والدفاع عن حدود البلاد، أو رفع مستوى معيشة الأهالي – فحسب - فما هذا هو الغرض الأقصى والغاية العليا من وراء قيام الدولة الإسلامية، فإن الميزة التي تميزها عن سائر الدول غير المسلمة، هي أن تعمل على ترقية الحسنات التي يريد الإسلام أن يحلي بها الإنسانية، وتستنفذ جهودها في استئصال السيئات التي يريد الإسلام أن يطهر منها الإنسانية". فالدولة الإسلامية لا تقتصر وظائفها على الوظيفة التقليدية، وهي حفظ الأمن الداخلي والخارجي، وإقامة مرفق العدالة، ولا على التدخل أو الإشراف على الحياة الاقتصادية، ولكنها تتجاوز ذلك إلى التدخل لتنسيق الحريات الفردية في مجال الأخلاق بغية تأمين حياة خلقية أرقى، وفسح المجال لنمو الحياة الخلقية والروحية في الاتجاهات الخلقية السامية، وبذلك يدخل العنصر الأخلاقي في جملة العناصر التي تكون الدولة وأهدافها. وليس هناك ما يحد من اختصاصات الدولة ووظائفها، إذ أنها تقوم بعمل يؤدي إلى جلب المصالح ودفع المضار، وإلى إقامة القسط في حقوق الله وحقوق العباد، ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله، ومن أجل ذلك تمارس الدولة أو ولاة الأمور عددا من الأعمال، يمكن توزيعها في عدة ولايات، كولاية الحرب والقضاء والمال وغيرها، وهذا التوزيع والاختصاصات راجع إلى عرف الناس وليس له حد في الشرع وللحديث بقية إن شاء الله تعالى. – كلية الشريعة والقانون – جامعة الأزهر