السفيرة سكوبى: التحدى الأكبر لصناع السياسة فى واشنطون قبل اغتيال السادات هو الحاجة إلى مكافأة القادة المصريين لعقدهم سلاما مع إسرائيل - نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 وخروج الشاه من معادلة القوة بالشرق الوسط أدى لترك منطقة الخليج الفارسى دون حليف قوى لأمريكا - المعونات العسكرية الأمريكية التى بلغت 1,5 مليار دولار سنويا واستمرت لمدة 30 عامًا دفعت مبارك للحفاظ على معاهدة السلام وتقديم خدمات خاصة فى "الحرب على الإرهاب" - إدارة بوش استخدمت التعذيب للحصول على اعترافات من المحتجزين على ذمة أحداث 2001.. والمشتبه فيهم يرسلون لمصر لانتزاع الاعترافات منه متحت وطأة التعذيب الوحشى - سياسة المخلوع اعتمدت على شراء ولاء من خلال المحسوبية التى اختص بها أصحاب الرتب العالية الذين تحول كثير منهم إلى رأسماليين وأصحاب مشاريع يملكون قطاعات كبيرة فى الاقتصاد المصرى دون حسيب أو رقيب - الجارديان: مبارك ليس له صديق يوُدعه أسراره أو مستشار يمكنه التحدث نيابة عنه بعد أن حظر على مستشاريه الرئيسيين العمل خارج نطاق سلطاتهم المحددة بأسلوب صارم - بوش هاتف مبارك.. وأبلغه أن الولاياتالمتحدة على استعداد لإعفاء مصر من ديونها مقابل تأييد وزراء الخارجة العرب ومشاركة مصر مع الأمريكان فى ضرب العراق خلال حرب الخليج - من المفارقات الصارخة مطالبة أمريكا بالإصلاحات السياسية وتخفيف الضغوط على المعارضة.. تم تطرح منظومة سيئة السمعة لتسليم المعتقلين "rendition plan" إلى السلطات المصرية لتعذيبهم بمعرفتها - "مرحبا بك فى مصر، يا جنرال بتريوس. آمل أن تكون زيارتك هذه هى الأولى فى مسيرة نظامية من الحوار والتشاور مع القادة المصريين الذين ينظرون إلى الشراكة المصرية/الأمريكية الأمنية على أنها حجر الزاوية فى العلاقات الثنائية، توفر لك هذه الزيارة الفرصة لتقييم حالة شراكتنا العسكرية ولتحديد الفرص الجديدة". السفيرة مارجريت سكوبى، 21 ديسمبر 2008 كان التحدى الملح الذى يواجه صناع السياسة فى واشنطون، حتى قبل اغتيال السادات يوم 6 أكتوبر 1981، هو الحاجة إلى مكافأة القادة المصريين لعقدهم سلاما مع "إسرائيل"، ثم أوضح اغتيال المتطرفين للسادات أنه بغير الإمكان للاستجابة الجادة أن تنتظر أطول من ذلك، كانت الإجابة واضحة هى تزويد مصر بمصدر موثوق للأسلحة، خاصة بعد قطعها الروابط العسكرية مع الاتحاد السوفيتى. كانت إدارة كارتر قد بدأت بالفعل فى وضع أسس علاقة دائمة مع مصر من خلال مبيعات أسلحة حديثة لها بشروط ائتمانية مُيسرة. منذ ثورة 1952، كانت العلاقات المصرية قد تعثرت بسبب محاولة العثور على وسيلة لإرضاء احتياجات مصر دونما المساس بالتزامات أمريكا بالحفاظ على أمن "إسرائيل"، ثم بعد فشل جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأمريكى فى الخمسينيات فى إقناع ناصر بقبول الشروط الأمريكية الملازمة للمعونة الأمريكية، بدأت مشاحنات أمريكية/مصرية بدت وأنه ليس ثمة حل لها. بعد ذلك، أوجد السادات هذا الحل بأن اضطلع بمهمة عقد سلام مع "إسرائيل"، يبدو أنه وبأسلوب شبه فورى تدخلت عوامل أخرى فى تلك الأوضاع، أدى قيام الثورة الإيرانية عام 1979 وإخراج الشاه من معادلة القوة بالشرق الأوسط إلى ترك منطقة الخليج الفارسى دونما حليف قوى لأمريكا فى الجهة المقابلة للسعودية مباشرة، ثم حدثت أزمة الرهائن التى بدت إدارة كارتر، وأنها لا تعرف حلا لها، ثم توج تلك المشكل التدخل السوفيتى فى أفغانستان فى 25 ديسمبر 1979، الذى أدى بالرئيس كارتر لأن يعلن أن قرار موسكو ذاك كان "يمثل أخطر تهديد للسلام منذ الحرب العالمية الثانية". ثم كانت دعوته لزيارة الاتفاقات الدفاعية وتكوين قوة انتشار سريعة من أجل حماية المصالح الأمريكية بالمنطقة، بمثابة دافع ملح، أكد احتياج أمريكا لإقامة موقع قوى آخر لها بالشرق الأوسط يتضمن مصر خاصة. بُعيد ذلك، اندلعت الحرب الإيرانية العراقية التى لم تتوقف حتى 1988 حينما قبلت الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، وكانت تلك الحرب قد تكلفت 150 مليار دولار، وقتل فيها ما يربو على مليون شخص فى صراع لم يكن يماثله سوى الصراع بين تلك الجيوش الجرارة التى كانت تقاتل بعضها عبر الأراضى المشاع بأوروبا فى الحرب العالمية الأولى. بالتقابل بدت العلاقات مع مصر فى ظل حسنى مبارك، رئيسها الجديد، أكثر سهولة بكثير، ففى مقابل المعنويات العسكرية التى بلغت قيمتها الكلية 1,5 مليار دولار سنويا (واستمرت على مدى العقود الثلاثة التالية)، وكانت تأتى فى المرتبة الثانية بعد تلك التى تُمنح لإسرائيل، كان على مبارك الحفاظ على معاهدة السلام التى كان السادات قد وقعها عام 1979، وأن يوفر للولايات المتحدة بعض الميزات الأخرى القيمة مثل الإبقاء على صلاته بياسر عرفات، وتقديم خدمات خاصة فى "الحرب على الإرهاب"، الأمر الذى مكّن جورج دبليو. بوش من تحاشى المساءلة حول استخدام التعذيب للحصول على اعترافات من المحتجزين على ذمة أحداث 11/9/2001، وعما زُعم أنه مؤامرات تحاك ضد المواطنين الأمريكيين وممتلكاتهم، حيث كان المشتبه فيهم يرسلون إلى مصر ويخضعون للتعذيب هناك لانتزاع الاعترافات منهم. أيضا، وطول حكم مبارك، كان الجيشان المصرى/الأمريكى يقومان بمناورات تدريبية مشتركة تسمى "النجم الساطع"، التى كانت تبلغ ذروتها حينما يقوم المارينز الأمريكيون بمناورة للهجوم على الشاطئ، والإنزال بالقرب من الإسكندرية. علاوة على ذلك. وفر التصنيع المشترك (الأمريكى/المصرى) لدبدبات أبرامز الأمريكية وغيرها من العتاد الحربى مزايا للصناعات المصرية المحلية المفضلة لدى مبارك. استخدمت واشنطن العبارات الطنانة مثل "العمليات المشتركة " لوصف تلك الأنشطة، وكانت تستخدم كى تغطى مدى واسعا من التعاملات المصرية/الأمريكية طوال حكم مبارك، الذى كان يدرك تماما قيمته بالنسبة لواشنطن منذ رئاسة ريجان وحتى باراك أوباما. حدث فى مناسبات عديدة، خاصة تلك التى كان الأمريكيون يخاطبونه بشأن قمع الحريات السياسية والمدنية، إن كان مبارك أو مساعدوه يعمدون إلى تذكير سفراء الولاياتالمتحدةبالقاهرة بالخدمات التى تؤديها مصر، التى كان مبارك يسميها "التعويضات التى لا يمكن المساس بها"، التى تدين بها الولاياتالمتحدة له، أى الطائرات المقاتلة وغيرها من المعتاد التى كانت تضمن له سلامة جيشه وولاءه له. سارت استجابات مبارك لموجة الإرهاب تلك، تمديد العمل بقانون الطوارئ والاعتقالات والمحاكمات السرية، واستخدام التعذيب على نطاق واسع، سارت فى معية سياساته الاقتصادية التى أدت إلى شعور مزيد من المصريين بحالة من اليأس وإلى زيادة التطرف وأعداد المتطرفين. كان حكمه يعتمد على ولاء الجيش الذى اشتراه -ليس فقط من خلال السلاح الذى كان يحصل عليه من الولاياتالمتحدة- بل أيضا من خلال المحسوبية التى اختص بها ذوى الرتب العالية، الذين تحول كثير منهم إلى رأسماليين وأصحاب مشاريع يملكون قطاعات كبيرة فى الاقتصاد المصرى. كان الضباط بعد التقاعد يتلقون منحا خاصة، مثل عقود ملكية لمساحات كبيرة من أراضى البناء، التى يقيمون عليها مشاريع إسكان باهظة الثمن أو مدنا سياحية، أو كانوا يمنحون أراضى يستغلونها فى إنتاج محاصيل زراعية وسلع تجارية أخرى مثل زيت الزيتون. وعلى حين أن بعض رجال الأعمال كانوا أعضاء فى مختلف الوزارات فى عهد مبارك، إلا أن الجيش كان يمارس السلطات على مختلف العقود، فإما أن تُمنح أو تُمنع. وفى ظل أوضاع كهذه.. اكتسبت الصناعات التى قامت سمة شبه إقطاعية وكادت الطبقة الوسطى تختفى ومعها الحراك الاجتماعى. لم يكن هذا النظام يستمر دونما المعونة العسكرية من الولاياتالمتحدة، ولا يعنى هذا أن الأمريكيين تعمدوا دعم التنمية غير المتوازنة بمصر، بل إنهم لم يستطيعوا التوفيق بين الأهداف المتعارضة والجمع بينها بأية وسيلة أخرى. فى برقية أرسلتها إلى واشنطن يوم 19 مايو 2009 أوجزت سفيرة الولاياتالمتحدة مارجريت سكوبى حوالى ثلاثة عقود من سياسات مبارك الداخلية والخارجية. وقد جاء نص الرسالة فى تسريبات ويكيليكس، ثم أعيد نشرها بصحيفة الجارديان فى عدد 9 ديسمبر 2010، التى -حسب قولها- لن تكون حرة أو نزيهة، وأنه ينوى البقاء فى السلطة حتى وفاته. أضافت أن مبارك ليس له صديق حميم يوُدعه أسراره أو مستشار يمكنه التحدث نيابة عنه، وقد حظر على مستشاريه الرئيسيين العمل خارج نطاق سلطاتهم المحددة بأسلوب صارم. "يعمل المشير طنطاوى على أن تبدو القوات المسلحة على درجة معقولة من اليقظة، فيما يكسب ود الضباط بالمنح والامتيازات التى يتلقونها، ولا يبدو أن مبارك يهتم بأن تلك القوات غير مُعدة لمواجهة التهديدات الخارجية للقرن الحادى والعشرين. يعمل كل من عمر سليمان وحبيب العادلى على كبح جماح مصادر الأخطار الداخلية، كل من خلال مجال اختصاصه، فيما لا يقلق مبارك بشأن التكتيكات المستخدمة لتحقيق هذا الهدف. يتدخل جمال مبارك ومعه حفنة من ]رجال الأعمال[ والوزراء فى الشئون الاقتصادية والتجارية، لكن الأرجح أن مبارك سيقاوم تطبيق المزيد من] الإصلاحات[ الاقتصادية إذ رأى أنها ستخلق الضرر بالنظام والاستقرار العام". ثم جاء فى تلك البرقية -التى أرسلت من سفارة الولاياتالمتحدةبالقاهرة إلى إدارة أوباما الجديدة- وصف للحالة البائسة التى وصلت إليها مصر فى سنوات حكم مبارك، إذ ذكرت أنه وعلى الرغم من أن مصر ما زالت قوة اقتصادية إقليمية مهمة إلا أن "المشاكل" التى يعانيها غالبية المصريين "تسبب لهم الإحباط"، مما يعتبر وصفًا غير دقيق يُقلل من خطورة الحال التى وصلت إليها الأوضاع، كما تكشف الجملة التى تلت فى التقرير: منذ ثلاثين عامًا، كان إجمالى الدخل القومى يناظر مثيله فى كوريا الجنوبية، أما الآن فهو يناظر إجمالى الدخل القومى فى إندونيسيا، عام 2008 عادت مرة أخرى ولأول مرة منذ عام 1977، أعمال الشغب للمطالبة بالخبز". كانت الإصلاحات السياسية قد توقفت، بل تراجعت، فيما مضت الحكومة تستخدم الأساليب القمعية ضد الأفراد والجماعات والتنظيمات، وبالمثل توقف الإصلاح الاقتصادى، إذ إنه -وكما ذكرت برقية السفارة الأمريكية- فإن النمو الكبير لمعدلات مجمل الناتج المحلى الذى كانت السنوات الأخيرة قد شهدته لم يساعد على تخفيف وطأة الفقر عن الطبقات الدنيا: "نجم عن حجم التضخم الكبير ومعه تأثير الكساد العالمى زيادة الفقر المدقع، وفقدان الوظائف، وتنامى عجز الموازنة، وتراجع نمو مجمل الناتج المحلى ليصل إلى 3.5% فى عام 2009، أى نصف معدل العام السابق". علّق أحد المراقبين بالقول إن هذا كله كان متنبأ به من أول يوم تولى فيه مبارك. لم تكن لديه أية رؤية للمستقبل مقارنة بزخم طموحات ناصر الاقتصادية بالنسبة لمصر، أو بإجراءات السادات الجريئة؛ لم يكن ثمة "مشروع قومى مصرى" له سمة الاستقلال. منذ السنوات الأخيرة للثمانينيات وطوال التسعينيات، بدأت مصر تشعر بمغبات "الإصلاحات الاقتصادية" المفروضة دوليًّا، التى جعلت البلاد مكانًا مستقرًّا للاستثمارات الأجنبية، ولم تفعل شيئاً لتخفيف وطأة معاناة الشعب. فى هذا الصدد يقول طارق عثمان -فى كتابه "لحظة التغيير"- إن أفضل خيار خطر لمبارك كان هو "السلام الأمريكى" لفترة ما بعد الحرب الباردة.. الذى اقتضى أن يترسخ الأمن الأشمل على أساس الضمانات الأمريكية والاندماج الاقتصادى الإقليمى. ونظير ذلك، تكافئ مصر بزيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وبمكان قيادى النظام المنبثق واستمرار الدعم الدولى، وسيقاس مدى نجاحها فى هذا الجهد بدولارات الاستثمارات، والتفويض التجارى، واستمرار النظام بدلاً من أى إصلاح أو إحياء داخلى حقيقى، أو تحقيق أهداف إسترتيجية بعيدة المدى، أو أى حس بالتحقق التاريخى". حينما بدأ غزو العراق للكويت طلب الملك فهد من الأردن التدخل لدى صدام كى يقصر تقدم قواته على المناطق المتنازع عليها، فقط ليصبح بالإمكان حل الخلاف سلميًّا. شعر الملك حسين أن عليه لقاء صدام شخصيًّا، لكنه قرر أن التحدث مع مبارك أولا، من أجل إمكان توحيد جهود البلاد الثلاثة والتنسيق بينها. كان لجوء صدام للقوة قد أزعج مبارك؛ لأن صدامًا كان قد وعده بعدم اتخاذ أية خطوة فى هذا الاتجاه قبل أن يلتقى وجهًا لوجه مع مسئولى الكويت، فى مؤتمر كان من المقرر عقده بالجامعة العربية. كان رد فعل مبارك فى البداية هو البحث عن طريقة للتوسط فى النزاع -أى التوصل إلى حل عربى- وهو ما كان البيت الأبيض يخشاه تحديدًا. فى تلك الأثناء، هاتف حسين الرئيس بوش، فيما كان الملك الأردنى فى طريقه إلى الإسكندرية وأبلغه بوش أنه كان يحاول الوصول إليهم، وأنه كان فى غاية القلق من غزو صدام للكويت، وأنه قد أصدر تصريحًا رسميًّا بهذا المعنى، وكان بوش قد قال فى تعليقاته بالبيت الأبيض "هذا لن يستمر.. هذا لن يستمر.. ذلك العدوان ضد الكويت". فى حديثه للملك حسين قال بوش "لقد تحدى صدام الولاياتالمتحدة"، وإنه على استعداد "لقبول التحدى"، ثم أبدى تعجبه لعدم "إدانة البلاد العربية عدوان العراق أو تقديم المساعدة للكويت". ثم أضاف "ستتصرف الولاياتالمتحدة بمفردها، سواء تعاونت معها البلاد الأخرى أم لا"، آنذاك، طلب منه الملك حسين منح البلاد العربية ثمانى وأربعين ساعة على الأقل. وكان مبارك قد اقترح لقاء قمة مصغر بمدينة جدة، لكن بوش اشترط انسحاب العراق من الكويت وإعادة حكومتها الشرعية، وأصر حسين على أنه ينبغى مناقشة تلك المسائل بالقمة المقترحة بدلاً من جعلها متطلبات سابقة على القمة. حينما وصل حسين إلى بغداد وجد صدامًا منفتحًا على فكرة القمة لكن دون شروط مسبقة، وبشرط ألا يصدر وزراء الخارجة العرب الذين كانوا مجتمعين بالقاهرة إدانة للعراق.. شعر الملك حسين بالارتياح، وهو ينقل هذه الرسالة للملك فهد ومبارك. بيد أنه -وقبل عودته لعاصمته- كانت الحكومة المصرية قد أصدرت بيانًا يدين الغزو، وأعلنت أن وزراء الخارجية العرب قد اقترحوا أيضًا إدانة العراق. ماذا كان قد حدث فى تلك الأثناء؟ أوضح مبارك للملك حسين أنه كان يتعرض "لضغوط شديدة"، وقال إنه كان قد تحدث أيضًا مع الملك فهد الذى عبر عن غضبه الشديد، من ثم فقد تراجع عن اتفاقه السابق الخاص بعقد لقاء قمة، وإنه يطالب العراق بالانسحاب الفورى من الكويت، وبإعادة الأسرة الحاكمة الكويتية إلى الحكم. ما لم يعرفه الملك حسين هو أن بوش كان قد تحدث طويلا مع مبارك على الهاتف، وأبلغه فى أثناء ذلك الحديث أن الولاياتالمتحدة على استعداد لإعفاء مصر من ديونها. كتب بوش فى مذكراته يقول "إن حصار العراق سينجم عنه مصاعب اقتصادية حادة لمصر، وإذا لم تعوضها الولاياتالمتحدة فقد تحدث مشاكل سياسية خطيرة فى ذلك البلد. وأضاف أنه يعلم أن الكونجرس لن يوافق بسهولة على إعفاء مصر من ديونها، لكنه كان فى حاجة إلى دعم مصر، إن مبارك عنصر حاسم فى عملية السلام بالشرق الأوسط برمتها، وفى تكوين التحالف العسكرى". وفّر انسحاب مبارك من أى ارتباط بمبادرة حسين وقتًا كان بوش فى أمس الحاجة إليه لإرسال ديك تشينى، وزير الدفاع للحصول على موافقة الملك فهد لوضع قوات أمريكا فى بلده، واقتنع الملك جزئيًّا، بسبب الاستخبارات المشبوهة التى قدّمها تشينى عن احتمال قيام العراق بغزو السعودية، بعد أن تفرغ من عملية الكويت. وقت زيارة تشينى، كان أسامة بن لادن موجودًا بالسعودية، وأبلغ الملك أن باستطاعته تشكيل جيش لتحرير الكويت دونما اللجوء إلى القوات الأمريكية. حينما رُفض طلبه، اندفع غاضبًا مغادرًا القصر الملكى وأعلن أنهم ستأتيهم أنباء منه مرة أخرى. لم يكن بن لادن يسعى فقط لقيادة جيش إسلامى يحارب به صدام حسين المرتد، بل كان يهدف أيضا إلى قطع الروابط بين السعودية والولاياتالمتحدة التى يرجع تاريخها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حينما حصل فرانلكين دى. روزفلت للكفار على مواطئ قدم فى "أرض الحرمين الشريفين المقدسة"، وعلى الرغم من أصناع السياسة الأمريكيين كانوا يعلمون جيدا خطورة تجاهل المشاعر الدينية، إلا أنهم لم يكن بإمكانهم استبعاد الشرق الأوسط واعتباره منطقة خارج نطاق المصالح الأمريكية، وخاصة مع أهمية النفط للاقتصاد العالمى، من أجل مراعاة مشاعر بن لادن ورفاقه. من ثم طلب بوش من مصر إرسال قوة رمزية للمشاركة فى حرب "عاصفة الصحراء" للتأكد من أن الهجوم على جيش صدام حسين له غلاف رقيق من الدعم العسكرى العربى. فى تلك الأثناء كانت مصر قد غدت فى التسعينيات هدفا رئيسيا للمتطرفين بهدى من الظواهرى وغيره من القيادات الجهادية، وعلاوة على محاولة اغتيال مبارك فى أديس بابا عام 1995، ثم تنفيذ أكثر من خمسين هجوما على مسئولين حكوميين بمصر فى السنوات السابقة لهجمات 11/9، وقد ذكر ستيفن جراى فى كتابه "طائرة الشبح: القصة الحقيقية لبرنامج السى آى إيه للتعذيب"، أنه قد تم التعاطى مع المشتبه فيهم بأساليب من "القمع الوحشى" بإشراف من عمر سليمان مدير المخابرات العامة الذى كان قد عينه مبارك فى ذلك المنصب عام 1993، وكان قد تلقى تدريبه فى الاتحاد السوفيتى، ثم أصبح الرجل الذى تلجأ إليه السى اى إيه فى مصر لأكثر من عقد من الزمان. يبدو أن المفارقات الصارخة مطالبة أمريكا بإحداث تقدم فى الإصلاحات السياسية وتخفيف الضغوط على معارضيه السياسيين، فى ضوء خطة السى أى إيه سيئة السمعة لتسليم المعتقلين "rendition plan" إلى السلطات المصرية لتعذيبهم بمعرفتها، وهى الخطة التى كانت قد وُضعت فى منتصف التسعينيات ثم تم تنفيذها بتعاون وثيق مع مصر لأكثر من عقد من الزمان. كان هذا يقتضى نقل الإرهابيين المشتبه فيهم بأسلوب غير قانونى إلى بلاد أخرى ومنها مصر، حيث يخضعون للتعذيب الوحشى لانتزاع الاعترافات منهم، وهى ممارسات غير مسموح بها فى الولاياتالمتحدة. كان مايكل شوير -رئيس وحدة بن لادن فى السى آى إيه- هو من وضع هذه الخطة حسب اعترافه فى عام 1995. فى شهادة له أمام الكونجرس عام 2007، قال إن السى أى إيه كانت قد حذرت الرئيس كلينتون ومجلس الأمن القومى من أن وزارة الخارجية كان لا بد لها من أن تُعرف البلاد التى سيتم تسليم "المقاتلين الموقوفين" إليها لتعذيبهم على أنها بلاد تنتهك حقوق الإنسان، من ثم تساءل كلينتون وفريقه عما إن بإمكان السى أى إيه أن تجعل كل "بلد متلق" للمساجين "يضمن معاملة هؤلاء المعتقلين وفقا للقوانين الخاصة به"، ورأى شوير فى هذا حلا مثاليا، وصاح قائلا "ليس ثمة مشكلة فى هذا"، ثم أضاف فى شهادته تلك القول بأنه علم أن "المستر كلينتون والمستر ساندى برجر، مستشار الأمن القومى، والمستر ريتشارد كلارك مستشار البيت الأبيض فى شئون مكافحة الإرهاب فى إدارتى كلينتون وبوش قد قالوا إنهم منذ 11/9 قد أصروا على أنه ينبغى على جميع البلاد التى يُسلم إليها المعتقلون أن تعاملهم وفقا لمعايير الولاياتالمتحدة القانونية، لكن هذه كذبة، بحسب ما أتذكره احتلت مصر مكان المركز فى تلك العملية. كتب ستيفن جراى يقول "ظلت مصر مركزية فى عملية التعذيب"، ويستشهد بروبرت بائير، وكان مسئولا بالسى آى إيه بها فى أثناء فترة "التسليم"، الذى قال "إذا سلّمت معتقلا للأردن تحصل على استجواب أفضل، أما إذا أرسلته إلى مصر على سبيل المثال، فالأرجح أنك لن تشاهده مرة أخرى". بينت البرقيات التى أُرسلت من القاهرة ثم تم تسريبها فيما بعد لويكيليكس أن الولاياتالمتحدة كانت تعلم أن عمر سليمان كان الرجل الذى يعهد إليه مبارك بالتعاطى مع تلك الحالات، على الرغم من أن تلك المصادر لم تناقش دوره المحدد فى عمليات التعذيب. قيل إن سليمان لم يكن يتردد فى الاشتراك فى استجواب المعتقلين، بل يُزعم أنه، فى إحدى المرات، حاول إنهاك أحد المعتقلين بأن جعله يشاهد رجلا يُقتل برفسة كاراتيه مميتة. كتبت دانا برست، مراسلة الواشنطون بوست والمحققة الصحفية مقالا شهيرا أثار غضب شوير وغيره من مسئولى عمليات "التسليم"، قالت فيه إن البلدان التى تتسلم المعتقلين لتعذيبهم هى بلدان موقعة على اتفاقية الأمم المتحدة ضد التعذيب وغيره من المعاملات القاسية اللاإنسانية، أو العقوبات، وعلى الرغم من أن ذلك "يُسمح للمستجوبين من عملاء السى إيه فى المواقع الأجنبية باستخدام أساليب استجواب مفرطة فى قسوتها توافق عليها السى آى إيه، وتحظرها مواثيق الأمم المتحدة وقانون الولاياتالمتحدة العسكرى، ومن بينها "الإغراق فى المياه"، حيث يعتقد المعتقل أنه على وشك الغرق". كان من المعتاد لجميع صناع السياسة الأمريكيين لدى زيارتهم لمصر تحديد مواعيد اللقاء عمر سليمان لمعرفه آرائه فى الشئون الدولية، مثل الأثر الضار لإيران على سياسات الشرق الأوسط، أو مدى تعاون مصر لعزل حماس وأضاعفها، وكانت حماس التى تعتبرها الولاياتالمتحدة تنظيما إرهابيا، قد فازت فى انتخابات عام 2006 التشريعية، واعتبر هذا اختبارًا لمزاعم الرئيس جورج دبليو. بوش. غير أن نشر الديمقراطية فى الشرق الأوسط كان هو الهدف الأساسى من الحرب على العراق، لم يكن ثمة شك فى أن عمر سليمان هو الرجل المفتاح بعد مبارك الذى يتعين لقاؤه فى مصر، على الرغم من أنه بدا فى السنوات الأخيرة لحكم مبارك وأنه قد أزيح جانبا لإفساح الطريق أمام جمال مبارك ليرث منصب أبيه، وكان هذا الوضع قد أثار كثيرا من التكهنات بشأن مستقبل الاستقرار فى مصر (يظل الدور الذى لعبه هذا التنافس فيما حدث بميدان التحرير، وخاصة رصاصة الرحمة التى أطلقها الجيش على نظام مبارك مثار تساؤلات). على أيه حال فإن المعتقلات التى كانت تُؤى آلاف المصريين طوال التسعينيات -ومن بينهم حوالى مائة معتقل سلمتهم السى آى إيه للسلطات المصرية لاستجوابهم وتعذيبهم بعد أحداث 11/9- من أسباب توتر الحياة السياسية فى مصر وفسادها، وحينما كانت البرقيات الأمريكية تناقش الوضع من خلال الأساليب الدبلوماسية الملتوية، كان كل ما يمكنها قوله هو صعوبة الحفاظ على توازنات السياسة الأمريكي. على سبيل المثال كتبت السفيرة سكوبى بعيد تولى أوباما الرئاسة تقول "لا يكاد مبارك الآن يتظاهر بأنه يتخذ أية خطوات لإحداث تغيير ديمقراطى ويظل أحد التحديات القائمة حاليا بالنسبة لنا هو إحداث توازن بين مصالحنا الأمنية وبين الجهود لتعزيز الديموقراطية".