جاء جورج بوش إلى بلادنا العربية فازداد سيل الدم الفلسطيني في غزة، وذهب بوش من بلادنا العربية واستمر سيل الدم في غزة .. شهداء بالعشرات وجرحى بالمئات وحصار وتجويع ومحاولات تركيع.. ولا أحد يتذكر من العرب الذين استقبلوا بوش أن غزةفلسطينية الجغرافيا، عربية الانتماء، مسلمة الدين، إنسانية الوجه من كل الوجوه .. ولا أحد في العالم يرفع صوته لوقف جريمة الإبادة ضد الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لهذا البرنامج الإسرائيلي الأميركي البشع منذ سنوات وسنوات. غزة ودماء أهلها ومعاناتهم الفظيعة المستمرة منذ أشهر تحت الحصار والنار.. كل ذلك لم يحرك يداً ولا إرادة ولا لساناً يقول للإسرائيليين القتلة الذين يتمتعون "بوضع استثنائي" في مجلس الأمن الدولي والمنظمات الدولية وفي ما يسمى المجتمع الدولي، ولدى الدول الدائمة العضوية والدول الصناعية الكبرى، ولدى عرب يلتقون بأولئك القتلة ويتشاورون معهم وكأن الدم الفلسطيني لا يعنيهم.. يقول لهم: توقفوا لكل شيء حد؟ ولا نفهم معنى أن يستشري القتل في غزة ويستشري الصمت العربي والدولي في كل مكان تجاه ذلك القتل .. ويتم الترحيب بمثل جورج W بوش الملوث اليد والقلب والعقل والضمير بدمنا، ويمثل الإفلاس الأخلاقي التام، ولا يحمل سوى الشر والحقد ضدنا.. لا نفهم معنى أن يستقبل في بلادنا وعلى بساط من دمنا؟ جاء بوش في بداية حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية وذهب بينما بساط من دم الغزاويين ممدود ويتسع .. وكنا دائماً وما زلنا ندفع دماً في حملات الانتخابات الأميركية والاسرائيلية .. واستنتجنا من تتالي الأحداث والوقائع أنه على من يريد كسب ثقة الناخبين من أولئك الأميركيين والاسرائيليين عليه أن يحصد مزيداً من أرواح العرب وأن يسيل دمهم ويزيد من معاناتهم وحصارهم واضطهادهم من دون رحمة .. جاء بوش وذهب ونزف الدم مستمر وشرور إدارته في منطقتنا سوف تستمر .. أراد في زيارته المشؤومة أن يشتري وطن الفلسطينيين بالدولارات فأعلن الفلسطينيون ومن معهم من العرب والمسلمين أن الأوطان لا تُباع وأن على بوش أن يتذكر بأن حق العودة مقدس وأنه جوهر قضية فلسطين التي يمهرها أبناؤها بالدم منذ عقود من الزمن .. وأراد بوش أن يستثير الأحقاد والخلافات بين عرب وعرب، وعرب ومسلمين وأن يؤجج ذلك، وأن يشيع الفوضى ويستثمر في فتنة مذهبية " سنية شيعية" طال شوقه إليها، وأن يستقطب "معتدلين" ضد "متطرفين" في بلادنا، وأن يشعل نار العداوة والبغضاء بين الجوار التاريخي والروحي.. أراد ولم ينجح.. وأراد وسقط بنظر الكثيرين حتى في الغرب المتعاطف معه وفي الولاياتالمتحدة الأميركية بلاده.. لقد أراد وأخطأ كعادته ومن ثم سقط فوق سقوطه وأفلس فوق إفلاسه المبين.. لأن العرب أدركوا بعد فواجع وكوارث كبيرة وكثيرة أنه لا مصلحة لهم في حرب جديدة بالوكالة عن الأميركي والاسرائيلي فيما بينهم أو بينهم وبين إيران، وتذكروا حربي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين وتكلفتهما ولم تغب عنهم تفاصيل حرب بوش الأخيرة المستمرة على العراق، ولا تهديده لهم جميعاً بمن فيهم المملكة العربية السعودية بقلب النظام لإشاعة ديمقراطيته السقيمة، وتقسيم بلادهم بسبب ما سماه "الإرهاب".. وتذكروا أنه لا مصلحة لهم في عداوة يقطف ثمارها بوش ويقدمها دعماً لحزبه الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة مغلفة بصفائح الدم العربي والمسلم، ولا مصلحة لهم في حمل عبء ما يريده الكيان الاسرائيلي في المنطقة من تدمير إيران بعد تدمير العراق خدمة لمشروعه العنصري الاستيطاني التوسعي الذي يستهدف الأرض والشعب والمقدسات، وليس عليهم أن يتحملوا عبء خدمة المصالح الأميركية بالمجان.. وأدركوا هم والإيرانيون بوضوح تام، فيما أظن، أنهم أقرب إلى بعضهم بعضاً: "جغرافياً وتاريخياً ودينياً وثقافياً وتجارياً.. و.. إلخ".. من الولاياتالمتحدة الأميركية واليمين الصهيوني فيها لأي منهم، وأقرب إلى بعضهم بعضاً من الكيان الاسرائيلي الذي يستهدفهم جميعاً، ومن بوش التلمودي بامتياز الذي يسعِّر نار عدوانه وعدوان بلاده والغرب الذي يتناغم معه ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ضد العروبة والإسلام، تحت شعار "الحرب على الإرهاب". أفلس بوش سياسياً في جولته وهو المفلس أخلاقياً في تكوينه وطبيعته وبنيته.. وقدم للعالم صورة كئيبة بائسة عن بلاده وحزبه لم يقدمها أميركي من قبل، صورة عمقت الهوة بين تلك البلاد وبلدان كثيرة في العالم، وهذه خلاصة سياسة تعمَّدت بالشر فأنتجت الجريمة والدمار والكوارث التي سيذكرها جيداً أبناء العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان، ولن ينساها شرفاء العرب والمسلمين والعالم الذين تعنيهم الحقيقة والعدالة والحرية والعلاقات السليمة بين الشعوب والسلام في العالم. أفلس بوش الذي تعمَّد بالشر فأنتج في حياته البؤس وحياة الآخرين لسعيه الحثيث إشعال الفتن وتأجيج الصراعات، وشغل بلاده بإعلام كاذب ودعاية تنطلي على المغفلين، وظهر أمام شعبه والعالم مخذولاً معزولاً يختنق في شرنقة أوهامه التي سيخرج منها إلى الجحيم الذي ينتظره.. ولا يجوز أن نكتفي بقراءة ما في جولة الرئيس الأميركي من إفلاس بل ينبغي أن نذهب إلى أمر هام هذا وقت الإشارة إليه .. نذكر جميعاً أنه بعد أن شن حربه العدوانية على العراق بطلب من الكيان الاسرائيلي واحتل العراق بدأ توزيع التهم وقرر تغيير الجغرافية السياسية والسياسة الثقافية في المنطقة، وأرسل لبلدان كثيرة عربية منها السعودية رسائل عداء متوعداً على لسان اليمين الذي يحتضنه بتقسيم المملكة إلى ثلاث دول وبتغيير الملكية إلى ديمقراطية.. واليوم هو ضيف على الملكيات وصديق للسعودية التي لم تعد عدواً بنظره، وتآكل أو تهالك مشروعه "الديمقراطي" الذي لم يكن سوى سلعة سياسية أساء فيها للديمقراطية في العالم أجمع .. ألا يعد هذا انتصارا للسعودية على سياسة بوش وإفلاسا مركبا لبوش وسياساته وهزيمة لليمين الذي هو منه؟ إن هذا برسم التأمل. لقد أثبتت جولة بوش أن هذه المنطقة، منطقة الخليج العربي، بدأت تخرجها التجاربُ المرة التي مرت بها من جراء الشراكة الاستراتيجية مع الأميركيين، وعقلٌ ومسؤولية وبعد نظر لدى عقلاء المسؤولين فيها، من دائرة التوظيف الأميركي المباشر وغير المباشر لها في صراعات عقيمة تعود بالنفع على مؤججيها ومن يقف وراءها ولا يحصد الخائضون في جحيمها سوى الخسران والخذلان.. وأن كل انتصار لفريق من أبنائها على فريق هو هزيمة لهم جميعاً ونصر لأعدائهم عليهم.. لقد أفلس بوش فهل انكفأ المشروع الذي يحمله يا ترى؟ وهل انتهت استراتيجية أميركية واسرائيلية ومشاريع وبرامج في المنطقة؟ أقول: لا.. إن هذا التوجه مستمر سواء أوصل إلى الحكم في الولاياتالمتحدة الأميركية الديمقراطيون أم الجمهوريون، وسواء أبقي المجرم أولمرت أو جاء سواه إلى حكم الكيان الاسرائيلي.. سوف تختلف الوسائل والأساليب والأدوات ولن تتغير الأهداف.. وهذا يستدعي منا الحذر والاستعداد والإعداد لأن العدو يستهدفنا بكل الوسائل وفي كل الأوقات، كما يستدعي هذا الوضع منا الحوار لكي ننضج رؤى ونوحد مواقفنا وأهدافنا المشتركة، ونصل إلى علاقات واستراتيجيات وتحالفات تضع للتدخل الغربي في شؤوننا حداً وتنهي هيمنة مشينة على قرارنا وإرادتنا وسياساتنا ومصالحنا في بلداننا.. ولا يكون ذلك قطعاً بإقامة مزيد من القواعد العسكرية الأميركية أو الغربية في بعض الأقطار العربية التي أخذت تتسابق على " استضافة" قواعد أجنبية في أراضيها وعلى شراء أسلحة لا تستخدمها .. بل يكون في أن يتولى أهل المنطقة مسؤولية أمن منطقتهم بعيداً عن كل تدخل أو نفوذ أجنبي. فهل هذا ممكن يا ترى ونحن نشهد تفريخ المصالح الغربية والقواعد العسكرية في الكثير من بلداننا العربية والإسلامية .. ؟ لقد فشلت زيارة بوش في جوانب ونجحت في أخرى وعلينا ألا نطمئن بصورة نهائية لما فشل من جوانبها وأهدافها، فقد عودنا ساسة الغرب على أن يدخلوا إلى بيوتنا من أبواب خلفية، وعودنا بعض رجال السياسة العرب على قلب الانتصارات إلى هزائم .. وعلينا أن نتذكر أنه من مأمنه يؤتى الحذر. وفي هذا السياق من حقنا أن نتطلع إلى مبادرات عربية وإسلامية خلاقة، تتابع ما بُذِر في أرضنا وفي نفوسنا من بذور طيبة لمبادرات مبشرة تقرب المتباعدين، وتعزز المشترك، وتستنهض الآمال، وترص الصفوف، وتقارب التضامن بهدف إحيائه وتمتين عراه، وتحافظ على جوهر قضية فلسطين وحقوق أهلها وحياتهم، القضية التي تتعرض اليوم لأسوأ مساومات وضغوط وتسويات في أبأس الظروف والأوقات، وتحافظ على بعض المصالح العربية. ونتساءل في هذا السياق عن إمكانية: أن تقوم جامعة الدول العربية أو مجموعة من الدول العربية بمسعى ناجح لإنهاء الخلافات المقيتة بين الأشقاء الفلسطينيين في غزة ورام الله؟ أن ينتهي الوضع في لبنان إلى اتفاق ووئام على أرضية لبنان العربي الواحد المستقل السيد القوي المقاوِم.؟ أن يعقد لقاء ثلاثي بين مصر والسعودية وسوريا لتصفية ما علق بعلاقاتها من شوائب ليصبح الصف العربي أقرب إلى الوئام على أبواب قمة عربية في الشام تتخذ موقفاً موحداً من العدوان الصهيوني المستمر والحصار وسيل الدم في غزة والضفة الغربية والعراق والصومال، وتتفق على حلول مشرفة لنزاع المغرب والبوليزاريو حول الصحراء، وتعود للقيام بدور إيجابي في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية العربية.؟ أن يعقد لقاء قمة جديد في الرياض أو في طهران يعزز التعاون بين دول الخليج وإيران، وينهي مشكلة الجزر الإماراتية والخلافات الإيرانية العراقية، وينهي رسيس الفتنة المذهبية السنية الشيعية إلى الأبد، ويقيم صلات على أرضية من الثقة والاعتماد المتبادلين بين الأطراف المعنية بالأمن في منطقة الخليج والعراق، ويقول لبوش: نرفض تحريضك المقيت على حرب بين الأخوة والجوار وأبناء البيت الواحد والدين الواحد من العرب والمسلمين، نرفض حقدك وحربك الصليبية "المقدسة؟" علينا، رفض أن نكون وقود نار حرب اسرائيل وأتباعها وحماتها على العروبة والإسلام .. على ثقافتنا وهويتنا ومصالحنا.. نحن هنا قوة واحدة تتعلق بالحق والعدل والحرية وتسعى إلى الحكم الصالح الذي نعرفه أكثر مما تعرفه أنت، لنا هويتنا وخصوصياتنا التي نرفض العبث بها والتطاول عليها، ونمد أيدينا للتعاون والصداقة مع الدول والشعوب كلها وعلى رأسها الشعب الأميركي الذي يستحق رؤساء لا يشنون الحروب العدوانية، ولا ينهبون الشعوب ولا يثيرون الأحقاد ليستثمروا الخلافات، ولا يدعون إلى الحروب، ولا يمارسون الإرهاب تحت مسمى: الحرب على الإرهاب"، ولا يعرضون على شعوب تتعلق بالحرية وتقرير المصير أن تبيع أوطانها بالدولارات .. رؤساء يتمتعون بالمسؤولية الأخلاقية والقدرة على ممارسة السياسة بحس أخلاقي وإنساني وحضاري رفيع. فهل يوقظنا الدم المستباح، ونافخ الحقد، ونافث السم.. لكي نواجه الوقائع والحقائق والتحديات والواجبات؟ وهل ما نتطلع إليه أكبر من الهمم العربية والإسلامية القعساء التي نثق بقدراتها وبوجودها تحت ركام التخاذل العربي والإسلامي الطاغي إلى حد الإحباط حتى لا نقول اليأس؟.. لا أظن ذلك أبداً.. لا أظن ذلك أبداً.