جلست وسط الزحام فى إحدى قاعات الجلسات بمحكمة الأسرة بمصر الجديدة، ترتدى عباءة سوداء لا تخلو من الرقع تكشف عن انحناءة خفيفة في أعلى ظهرها، وتنتعل حذاءً ممزقا، يفضح قدمين أرهقهما التنقل بين بيوت العباد، واحتلتهما التشققات من مسح الأرضيات ودرجات سلم البنايات الفاخرة، لتظفر فى نهاية سعيها اللاهث ببضعة جنيهات تعالج بها طفلها ذا العامين من حساسية صدره المزمنة التى زادت حياته صعوبة وألما بعد سجن أبيه 25 عاما لقتله صديقه، إنها "نعمة" صاحبة الثمانية والعشرين ربيعا والتى طرقت أبواب محكمة الأسرة طالبة نفقة لصغيرها. بوجه أشقاه الحزن وقلة الحيلة مبكرا وصوت منكسر، بدأت الزوجة العشرينية رواية تفاصيل حكايتها ل"صدى البلد": "تزوجت منذ أربع سنوات من ابن عمى، "أرزقى" على باب الله، أحببته وظننت أنه سيعوضنى عن سنوات الشقاء والحرمان التى عشتها منذ أن كنت فى الثالثة عشر من عمرى، وسيريح جسدى من عناء العمل فى المصانع والمحال التجارية، وسيصوننى ويكرمنى لأني لحمه ودمه قبل أن أكون حبيبته، لكن يبدو أنى كنت مخطئة، فلم يمر سوى أسبوعين على زواجنا حتى بدأت فى بيع قطع من "جهازى" الذى تجرعت المرار كى أشتريه وأستر به نفسى أمام العالمين، لأوفر نفقات البيت، طرقت أبواب الأقربين ومددت يدى إلى حماتى طالبة العون، ولم أتلق منها سوى سم الكلام والتوبيخ والإهانة، وفى النهاية اضطررت أن أخدم فى بيوت العباد، حتى انحنى ظهرى من مسح الأرضيات وانبرى جلدى من غسل الصحون، وكأنني كتب على الشقاء طوال حياتى. تترقرق الدموع فى عين الزوجة العشرينية وهي تلمس بأطراف أصابعها المرتعشة خصلات شعر الصغير وتسرد التغييرات التى قصمت زواجها: "مرت الشهور وحالنا ينحدرمن سيئ لأسوأ، تركنا بيتنا لأننا لم نعد قادرين على دفع الإيجار، وانتقلنا لآخر آيل للسقوط فى حى مشهور بتجارة المخدرات، غرق زوجى فى دوامات الإدمان بعدما تملك اليأس من قلبه وأغلقت أبواب الرزق فى وجهه، ولم يعد له سواها، باتت هي تسليته الوحيدة فى الحياة حتى احتلت جسده وحولته إلى هيكل عظمى مكسو بجلد أصفر، صحيح أنه كان يتعاطاها قبل الزواج وأنا كنت على علم بذلك لكن لم يكن الأمر بهذه الشراهة، حاولت كثيرا أن أخلصه من بين براثنها واشتريت له "مكواة" كى يتكسب من ورائها لكنه باعها واشترى بثمنها مخدرات، ويا ليته اكتفى بهذا بل قرر أن يخوض تجربة الاتجار بعدما أوهمه أصدقاء السوء بأنه سبيله للخلاص من فقره المدقع، وليوفر مال بضاعته باع أثاث البيت دون علمى، وتركه خاليا على عروشه إلا من سرير صغير، حينها رحلت وعدت إلى بيت أهلى حاملة طفلى المريض بحساسية مزمنة فى صدره، ولم أعلم بخبره إلا بعدما تم إلقاء القبض عليه بتهمة قتل صديقه". تعلق الزوجة البائسة ناظريها بوجه طفلها البرىء وهى تختتم حديثها: "عوقب زوجى بالسجن المشدد 25 عاما بعد اعترافه بخنق صديقه بملاءة السرير بعدما رفض إعطاءه نصيبه من غنيمة بيعهما للمخدرات فى أول عملية له وحاول قتله، حاولت بعدها أن أتحصل على ما تبقى لى فى الشقة لكن حماتى رفضت وصرخت فى وجهى قائلة: "أمال هصرف على سجن ابنى منين"، فخرجت أجر أذيال الخيبة، نصحنى البعض بأن أرفع دعوى نفقة صغير فى محكمة الأسرة وأكدوا لى أن بنك ناصر يتبنى أمر من هم فى مثل حالتى، ومنهم من شار على أن أطلب الطلاق كى أحصل على معاش للمطلقات، أنا تائهة لا أعرف ماذا أفعل فقد ضعف بصرى من الحزن وكان على أن أخضع لعملية جراحية حتى لا أفقده لكنى لا أملك مصروفاتها وابنى خاصم النوم عيونه من المرض، وإخوتى "على باب الله"، كل ما أتمناه هو معاش يكفينى شر العوز والخدمة فى بيوت العالمين فلم يعد جسدى يحتمل".