الإسطوانات المدمجة التي أذاعها الصحفي عبد الرحيم علي في برنامجه "الصندوق الأسود"، الذي تم بثه عبر قناة "القاهرة والناس" لا ريب أنها قد أحدثت ردود فعل متباينة. فهناك من اعتبر أن تسجيل المكالمات يعد انتهاكًا للحياة الخاصة المصونة بأحكام القانون والدستور؛ لأنه تم بغير إذن مسبق من جهة الاختصاص، وبغير إذن من صاحبها، وإذاعتها في بث مباشر بغير إذن من صاحبها يعد انتهاكًا إضافيا إلى جانب انتهاك التسجيل. إلى جانب ذلك يعد بث تلك التسجيلات في هذا التوقيت تشويهًا متعمدًا لرموز ثورة يناير من شباب حركة 6 إبريل لمصلحة ثورة يونيو، والمتهمة من جانب أبناء الحركة، ومن غيرهم بأنها مدعومة من فلول الحزب الوطني الديمقراطي. ومن ناحية أخرى هناك من يرى أن هذه التسجيلات لا تمثل انتهاكًا للحياة الخاصة طالما أنها لم تتناول أمورا خاصة، بل إنها تناولت أمورًا عامة صادرة عن أشخاص اكتسبوا صفة الشخصيات العامة، طالما أنهم قد انخرطوا في العمل الثوري وهو عمل عام. وأن إذاعة هذه الإسطوانات يعد ضرورة وطنية طالما أنها قد مست أمورا تتعلق بإحدى القلاع السيادية في الدولة، وهي مباحث أمن الدولة، وانتهاك خصوصية أعمالها التي تتسم بالسرية بطبيعتها، وتسريبها إلى جهات أجنبية مقابل تقاضي مبالغ نقدية، والمساس بهيبة تلك الجهة وانتهاك خصوصيتها يعد انتهاكًا لحق أصيل للمجتمع المصري والدولة المصرية في الحفاظ على مؤسساته العامة التي تم بناؤها والإنفاق عليها وعلى العاملين بها من الضرائب التي يدفعها المواطن المصري من قوت يومه وغده، ووجودها بعافيتها يعد مرفأ الأمان والسلامة لهذا المجتمع. وفي إطار الموازنة بين الخاص والعام، تقدم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، ويُضحّي بالجزء في مواجهة الكل؛ لذا يرى هذا الفريق أنه لا جريمة في التنصت على هذه المكالمات أو تسجيلها أو إذاعتها. وبعيدًا عما ذهب إليه هذا الفريق أو ذاك، وحتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الأمر لا بد أن نبادر بالتساؤل: هل يعد تسجيل المكالمات الهاتفية على الهاتف النقال جريمة؟. وماذا لو تم بث هذه المكالمات عبر الشبكة العنكبوتية أو الإذاعة المسموعة أو المرئية خاصة إذا تضمنت ألفاظًا خادشة للحياء.. إلخ؟ وهل تعد المكالمة الهاتفية المسجلة خلسة بطريق التنصت دليلًا قانونيا يعتد به أمام المحاكم يحتج به في مواجهة المتحدث، حتى ولو انطوت المكالمة على اعتراف بواقعة ما أو الإقرار بوقوعها؟. القاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وبالتالي فإن حرية الرأي وحرية المراسلات بأنواعها، وكذا حرية المحادثات مكفولة. والاعتداء على هذه الحريات جريمة تستوجب إنزال العقاب بمقترفها، ولما كانت المحادثات الهاتفية من الحريات الشخصية فإنه لا يجوز لأي شخص الاعتداء عليها بالتنصت أو التسجيل. وهذا الحظر يسري على الأفراد العاديين، وعلى السلطة التنفيذية في الدولة إلا أن هذا الحظر غير مطلق؛ لأن إطلاقه قد يفضي إلى مفاسد مطلقة ناجمة عن الحرية المطلقة للمحادثات الهاتفية، ولذا تدخل المشرع بوضع ضمانة للأمر بالتسجيل، فجعل القاضي وحده دون النيابة العامة هو الذي يصدر الإذن للجهة المختصة وهي النيابة العامة بتسجيل المحادثات الهاتفية بنفسها أو بانتداب من تختاره من مأموري الضبط القضائي المختصين، ولا يُمنح هذا الإذن إلا عندما نكون بصدد جريمة تقوم الدلائل المؤكدة على ارتكاب المتهم لها فيتم التسجيل لضبطهان ويكون الإذن محدد المدة ب 30 يومًا قابلة للتجديد. وإذا تم التسجيل دون إذن قضائي وكان مضمون المكالمة المسجلة يشكل جريمة فإن هذا التسجيل لا يعتد به قانونا، ولا ينتج أي أثر قانوني أمام المحكمة، ويُعرّض من قام به إلى المساءلة القانونية إلا في حالة أن يكون التسجيل برضا المجني عليه، فإذا رضي زالت السرية، ولم يعد هناك حق للمعتدى عليه، ويُعد رضاؤه التسجيل في اجتماع على مرآى ومسمع من الحضور، كما يعد رضاء قبول المجني عليه أن تكون مكالماته مسجلة من جانب شركة الاتصالات. والحالة التي نحن بصددها حالة فريدة من نوعها، فالدكتور عبد الرحيم علي ينفي أن يكون قد حصل على هذه التسجيلات من أي جهة أمنية، وأنه وجدها موضوعة في علبة كرتونية ملقاة أمام باب مكتبه، فلا هو قام بالتسجيل، ولا يعرف الجهة التي سجلت، ولا سعى للحصول على هذه التسجيلات، وقانون الصحافة يعفيه من الإفصاح عن مصدره. بالإضافة إلى أن تاريخ هذه التسجيلات يرجع إلى عام 2011م، أي أنها تمت في ظل حالة الطوارئ التي كانت مفروضة على البلاد في حينه، وحالة الطوارئ هي حالة استثنائية تتعطل فيها أحكام القوانين العادية وتسري أحكام قانون الطوارئ، وقانون الطوارئ يبيح التنصت والتسجيل للمكالمات الهاتفية دون إذن قضائي. ومن ناحية أخرى ربما تكون شركة الاتصالات قد حصلت من المشتركين على موافقة بتسجيل المكالمات سواء من خلال الأوراق الثبوتية أو من خلال رسالة قصيرة تم إرسالها بمعرفتها، ومن هنا فلا محل لاعتبار ما تم جريمة بحال بحسب المعطيات المتاحة. والغريب أن هذا الأمر قد أحدث انشقاقًا داخل المجتمع بين من أجاز ومن لم يجز نشر أو عدم نشر هذه التسريبات، وكلا الفريقين قد تقدما ببلاغات للنائب العام بصدد هذا الأمر، ونشطاء حركة 6 إبريل لم ينكروا مضامين ما ورد بالتسجيلات على صفحتهم الرسمية، وبرروا ما قاموا به من هدم وتخريب لجهاز أمن الدولة بأنه كان مطلبًا شعبيا. ولا ريب أن هناك جوانب في الأمر تفصح عن عدم النضج السياسي والفكري لدى نشطاء هذه الحركة، وهذا أمر طبيعي. غير الطبيعي أن تكون حركتهم قد قامت بما قامت به بفعل تحريض وتمويل وتدريب من جهات أجنبية لا تضمر الخير لمصر؛ لأنه لا شفاعة في خيانة الوطن، فالوطنية والثورة ليست مصدرًا للاسترزاق الحرام المغموس في منقوع بئر الخيانة، والثورة التي هي غرض نبيل لا يُتوسل إليها إلا بوسائل نبيلة. فنبل الغاية لا يبرر وضاعة وحطة وحقارة الوسيلة وإلا أصبحت الأعمال النبيلة رخصة للخيانة.