أوبرا "فاوست" التي تم عرضها مؤخرا علي المسرح الصغير ضمن عروض البث المباشر من المتروبوليتان تعد من الاحداث الفنية الهامة في الوسط الموسيقي ليس لأننا نشاهدها لأول مرة في مصر فقط ولكن لأنها تخرج بنا من المدرسة الايطالية التي تدور في فلكها فرقتنا القومية منذ أمد طويل إلي الأوبرا الفرنسية بتعبيراتها المميزة. أوبرا "فاوست" من ابداعات المؤلف الفرنسي شارل جونو 1818- 1893 عرضت لأول مرة في باريس عام 1859 أما علاقتها بالمتروبوليتان بدأ عام 1883 حيث كانت هي أوبرا افتتاح هذا المسرح العريق ومنذ هذا التاريخ وحتي 2008 عرضت أكثر من 730 مرة. فاوست اسطورة من القرن السادس عشر تحكي عن الإنسان الذي تحالف مع الشيطان وقد أصبحت مادة درامية خصبة استلهمها الكثير من الأدباء في ابداعاتهم الذين تناولوها بمعظم تفاصيلها وباضافات حتمتها الضرورة الدرامية والموسيقار جونو اختار منها قصة حب حليف الشيطان فاوست للشابة البريئة مارجريت واعتمد في هذا علي نص اوبرالي "ليبرتو" كتبه كل من باربيه وكارييه مستلهم من مسرحية ""فاوست ومارجريت" لكاريه ومن الجزء الأول من "فاوست" لجوتة.. أوبرا جونو قصتها بسيطة تدور في خمسة فصول قائمة علي الصراع بين الخير والشر وتحكي عن فاوست العجوز الذي يشعر بالندم علي حياته البائسة وأيامه التي ضاعت دون أن يتمتع بلذات الحياة ويظهر له الشيطان "ميفيستوفيليس" ويعقد معه صفقة بموجبها يعيد له شبابه ويساعده علي المتعة المحرمة في مقابل ان يكون خادما له في الآخرة ثم تظهر الفتاة القروية البريئة مارجريت التي يستعد اخاها "فالنتين" للسفر للحرب ولكنه قلق علي اخته التي سوف يتركها بمفردها ولكن الشاب "سيبيل" الذي يحبها يطمئنه انه سوف يرعاها ويسافر الأخ ويغوي فاوست مارجريت بمساعدة الشيطان وتقع في الخطيئة ولكنها تطلب المغفرة وتقبل منها وتصعد روحها إلي الجنة بينما يكون مصير فاوست الجحيم ليظل خادما هناك للشيطان وفقا لعقده معه. فلسفة مخرج تدور احداث الأوبرا في القرن السادس عشر بالمانيا هذا النص الاصلي ولكن في العرض الذي شاهدناه والذي نحن بصدده الآن نجد المخرج "ديس ماك أناف" ومنتج العرض يقدمها من خلال رؤية خاصة حيث جعل الاحداث تدور في بدايات القرن العشرين وجعل "فاوست" احد العلماء الذي ينتمي إلي المعمل الذي صنع القنبلة الذرية وفرض علينا طوال العرض ملابس العلماء في المعمل هذا بدون ضرورة درامية ودون توظيف ذلك لصالح احداث هذه الأوبرا التي تعد من عيون التراث العالمي واغانيها وموسيقاها من جواهر هذا التراث واكثره شهرة فمثلا نجد الستار يفتح علي مسرح تم تقسيمه إلي ثلاثة اقسام وعلي الجانبين سلالم معدنية قبيحة الشكل استخدمها المخرج مرارا وتكرارا في خروج ودخول عدد من ابطال العرض والمجاميع الكورالية احيانا وهذا التقسيم الثلاثي للمسرح جعل حركة الممثلين محدودة جدا وأفقد هذا العمل أهم ميزاته حيث به مشاهد راقصة جماعية ومعارك ومشاجرات ومبارزات بالسيوف كل هذا يتم في ثلث المسرح فقط مما جعله يختزل الحركة بأسلوب اخرج في بعض الأحيان الحدث عن سياقه وجعل المتفرج مشتتا مثل مشهد آرية "العجل الذهبي" الذي من المفروض ان يغريهم الشيطان بالدوران والرقص من حوله في رمزية تاريخية وفي المقدمة وفي النهاية اظهر مجموعة من المشوهين لم يتضح هل يقصد ضحايا هيروشيما أم الشياطين. كذلك كان هناك استخدام غير مبرر للدمي كما في "أغنية الجنود" التي يؤديها الكورال في الفصل الرابع حين ظهرت دمية كبيرة وايضا في الفصل الثاني عندما استسلمت مارجريت لفاوست ويضحك الشيطان وهناك من المفروض ان يغلق الستار في هذه اللحظة الدرامية والتي سوف تترتب عليها باقي الأحداث ولكننا فوجئنا بدمية سوداء ضخمة ذات رأس علي شكل جمجمة تقتحم المسرح بدون مبرر وبها ضاعت علي المشاهد فرصة الاستمتاع بموسيقي ومشهد غاية في التعبيرية والابداع.. رموز غير واضحة وفلسفة اقحمت علي العمل يتحمل مسئوليتها ليس المخرج وحده وإنما مصممو الديكور والازياء والاضاءة. مايسترو متميز بقدر فشل الاخراج واختلافنا في الرؤية معه إلا ان الموسيقي كان فيها العوض حيث كان المايسترو الشاب "بانيك نيزيت سيجوين" متميزا واضفي الروح الفرنسية علي العمل حيث كان متفهما له وقدم المواقف التعبيرية بعمق وحساسية واستطاع ان يحقق التوازن بين الاصوات البشرية الواقفة علي المسرح وبين الموسيقي الآلية في الحفرة وامتاز اداء الأوركسترا بحيوية شديدة ومن حيث الغناء كان بطل هذا العرض بلا منازع الباص تينور "رينيه بابي" الذي ادي دور الشيطان حيث جاء اداؤه مقنعا واستطاع ان يجمع بين التلوين الدرامي في الغناء والتمثيل واجاد في تقمص هذه الشخصية الثرية التي تجمع سلوكيات متناقضة فنجده شريرا مخيفا مرة وفي احيان اخري كوميديا ومرات مرح ويرقص كما في آريته الشهيرة "العجل الذهبي" وهو ايضا لديه ملكات صوتية كبيرة تجعل الاستماع إليه متعة للمشاهد وعلي فكرة هو لعب هذا الدور مرات كثيرة واشتهر به.. اما السبرانو الروسية مارينا بوبلافسكايا والتي أدت دور مارجريت كان شكلها جميلا وهذا من متطلبات الدور كما ان اداءها التمثيلي رائع ولكن صوتها ليس علي مستوي هذه الأوبرا فصوتها ليس براقا وليس قويا واتضح هذا في الآريات التي تجمعها بالشيطان أو فاسوت وايضا في آرية "الجواهر" في الفصل الثالث والتي تعد من اشهر آريات السبرانو كانت ضعيفة.. عامة هي حاولت الاجتهاد ولكن الدور كان اكبر من امكانية صوتها.. أما التينور الألماني "يوناس كاوقمان" والذي لعب دور "فاوست" فصوته قوي ولكنه ليس به الغنائية التي تميز هذا الدور وقد ادي بعض اغنياته بشكل طيب ولكنه اخفق في الأغنية الشهيرة "تحية إلي ملاكي" والتي تعد اختبارا للتينور حيث يؤدي فيها نوتة عالية جدا ثم يبدأ في الخفوت التدريجي علي نفس النغمة وهذا يحتاج مهارة وتدريبا وللأسف هو لم يتمكن من الحفاظ علي القيمة الزمنية الاصلية لهذه النغمة العالية فقام بالانتقاص من وقت غناء هذه النغمة وادي الخفوت التدريجي بشكل سريع جدا فأفقد هذه الأغنية التعبيرية والغنائية التي تتميز بهما لكن لا ننكر مستواه في التمثيل جيد جدا. هناك ملاحظة ان هذه الاغنية يؤديها التينور بمصاحبة آلة كمان منفردة حيث ينتهي الغناء ويكمل عازف الامتداد النغمي في عزف منفرد والصدمة هنا ان العزف جاء سيئا جدا. من الأصوات المميزة ايضا الباريتون روسيل براون الذي لعب دور فالنتين شقيق مارجريت صوته قوي ودرامي واداؤه التمثيلي عال جدا ومتميز وقد اتضح ذلك في مشهد موته بعد مبارزته مع فاوست حيث عبر بصوته وتمثيله ببراعة عن مزيج من المشاعر المتناقضة فهو غاضب من اخته ويلعنها وفي نفس الوقت يحبها. أما الميتزو سبرانو "ميشيل لوسير" والتي لعبت دور "سبيل" الذي يحب مارجريت وهي هنا لعبت دور رجل وهذا كان مستخدما في هذا الزمان حيث النساء يؤدين ادوار الرجال ويطلق علي هذه النوعية من الادوار "دور السروال" ودائما يعبر به المؤلف عن الشباب حديثي السن وقد كانت "ميشيل لوسير" بارعة وماهرة مع جمال فطري للصوت الذي جمع بين الاداء الدرامي والاتقان التعبيري والغنائية.