أوبرا "فتاة الغرب" الذي شاهدها جمهور القاهرة مؤخراً من خلال البث الحي من نيويورك لعروض أوبرا "المتروبوليتان" في المسرح الصغير تعد من العروض الهامة في هذا الحدث الفني "نقل الأوبرات عبر الشاشة" والذي بدوره يعد من أهم الأحداث الفنية في هذا الموسم ليس لأننا نشاهدها لأول مرة ولكن لأننا اكتشفنا من خلال البث المتقن مرحلة متقدمة من إبداعات المؤلف الإيطالي بوتشيني "1858 1924" وتعرفنا علي نواحي جمال من موسيقاه واستخدامات جديدة ناضجة متطورة عن أوبراه السابقة والتي هي اكثر انتشارا وعرضت علي مسرح الأوبرا المصرية واصبحت من رصيد فرقتنا القومية مثل "لايوهيم" و"تراندوت" و"توسكا" و"مدام بترفلاي" وعدم معرفتنا بهذا العمل ليس غريبا حيث إنها من الأعمال التي نادرا تقديمها علي مستوي العالم وليست مشهورة في أوروبا وربما السطور القادمة توضح اسباب ذلك. وفتاة الغرب تم انتاجها بتكليف من أوبرا المتروبوليتان لبوتشيني ليبدع عملا امريكيا في موضوعه واحداثه كما حدث عندنا عندما تم تكليف "فيروي" بتأليف أوبرا عايدة. ذات الاحداث والموضوع المصري. وهذا العمل مأخوذ من مسرحية امريكية بعنوان "فتاة الغرب الذهبي" والمسرحية من تأليف المؤلف الامريكي دافيد بلاسكو "1853 1931" وهو مؤلف مسرحية "بترفلاي" التي أخذ عنها بوتشيني أوبراه الشهيرة والتي تدور احداثها في اليابان ولكن البطل فيها كان ضابطا امريكيا و"بلاسكو"َ كاتب مسرحي من سان فرانسيسكو كتب اكثر من 100 مسرحية لبرودواي وكان حاضرا العرض الأول لهذا العمل بأوبرا المتروبوليتان في 10 ديسمبر عام 1910 والذي أيضا حضره بوتشيني وقاد الاوركسترا المايسترو الشهير توسكانيني "1867 1957" ولعب البطولة نجوم ذاك الزمان التينور أنريكو كاروزو "1873 1921" والسبرانو ايمي دستين "1878 1930" والتينور باسكوال أماتو "1878 1942" وقد كتب النص الشعري "ليبرتو" كل من "جيولفو جفين" و"لوزنجانين" وقد اعيد تقديم هذا العمل اكثر من مرة ودائما يؤديه كبار النجوم منهم "دومينجو" والمسرحية تم إعدادها لفيلم سينمائي حوالي 4 مرات كان آخرهم عام 1938 وأوبرا المتروبوليتان تقدمها هذا العام احتفالا بمرور مائة عام علي انتاجها وعرضها الأول. الأوبرا ايطالية الشكل وامريكية المضمون فهي انتاج ايطالي وناطقة باللغة الايطالية ويلعب بطولتها نجوم ايطاليون باستثناء البطلة الامريكية ويقودها مايسترو ايطالي وتتكون من 3 فصول وتدور الأحداث في منطقة مناجم الذهب بأحد جبال كاليفورنيا حيث هناك حانة تمتلكها الجميلة "ميني" التي تقوم بعدة أمور انسانية لعمال هذه المنطقة بالإضافة للترويح عنهم فهي حافظة لأسرارهم والمؤتمنة علي مدخراتهم من الذهب والمعلمة التي تقرأ لهم وتعلمهم والجميع يخطبون ودها منهم شريف المنطقة المسئول عن الأمن "جاك رانس" ولكن يظهر في الأفق اللص "راميرز" الذي يقدم نفسه باسم "ديك جونسون" والذي جاء ليسرق الذهب ولكن يقع في حب ميني فيقلع عن ذلك ويغيره الحب الذي تبادله اياه "ميني" وتدعوه إلي منزلها ولكن يأتي الشريف ليقبض عليه بعد ان عرف حقيقته ولكن تدافع عنه بالحيلة علي الشريف وفي الختام يمسك به العمال ويقررون شنقه بإيعاز وتشجيع من الشريف الذي تأكد من حب ميني له ولكنها تصل في الوقت المناسب وتخطب فيهم وتذكر كل منهم بما فعلته من أجلهم وتطمئنهم أن الذهب لم يسرق ويسمحون لها بالذهاب مع من تحب لتبدأ حياة جديدة مع جونسون. والعمل يقوم هنا علي 3 شخصيات رئيسية ميني "سبرانو" وجونسون "تينور" والشريف جاك "باريتون" وجميع الشخصيات بعد ذلك من الرجال باستثناء خادمتها الهندية "ميتزو سبرانو" والتي تظهر في مشهد واحد بالفصل الثاني والشخصية المحورية هي "ميني" والذي اري ان بوتشيني تأثر في ألحانه لها بكل مؤثرات عصره من تعبيرية شديدة ومن تنازل عن اسلوب الأريات الفردية ذات القفلة الساخنة التي تستوجب التصفيق بعدها بل جاء خطا دراميا واحدا التركيز فيه علي التوزيع الأوركسترالي والموسيقي الدرامية التي استفاد فيها من "فاجنر" واسلوبه فالمتفرجون تحبس أنفاسهم تقديرا للحدث الدرامي الذي جاء في جو يذكرنا بأفلام "الكاوبوي" وجاءت جميع الأغاني "الأريات" في داخل النسيج الموسيقي المتكامل والدرامي كوحدة كاملة وبوتشيني هنا رسم شخصية رائعة لميني من الناحية الموسيقية والتي أدت جملا صعبة الأداء فهي تصل إلي أعلي النوتة كما في مشهد عتابها لجونسون وترتد إلي النوت المنخفضة حيث تعطف عليه وتضحك وتبكي مع الموسيقي أمر بديع لا يقدر عليه إلا مغنية بارعة ذات تاريخ في الغناء واعتقد ان هذا أحد الاسباب وراء عدم انتشار أغاني "آريات" هذا العمل لأنه لا تجرؤ مغنية علي إدراجه في حفلاتها الغنائية "جالا كونسرت" حيث يجمع بين الغنائية والدرامية وهذا نادرا ما يتم جمعه في صوت واحد كما أن العمل ايضا باهظ التكاليف في انتاجه حيث يحتاج إلي نجوم عالميين وبنظرة لتاريخه نجده لم يؤده إلا النجوم الكبار.. ونجمة هذا العمل الامريكية "ديبوراه فويت" لها تاريخ طويل خاصة انها من الاصوات "الفاجنرية" أي تؤدي اعمال" فاجنر" التي لها اسلوب خاص وتدريب مختلف ومساحة صوتية واسعة واعتقد ان هذا أفادها جدا في هذا الأداء حيث ان دورها تمثيلي يحتاج إلي حركة مسرحية وتعبير شديد بالوجه وأيضا بالصوت انها شخصية درامية ثرية رسمت باحكام فهي امرأة تمسك البندقية وتركب الحصان وتلعب الورق وتدافع عن نفسها ضد الرجال وايضا رومانسية تجيد التعبير عن الحب وتخرج من العمل ولا تستطيع ان تنسي مشهدها الختامي مع العمال اثناء استعدادهم لشنق حبيبها جونسون حيث تدخل حاملة البندقية تتحدث بقوة وشموخ وعدوانية ثم يتحول غناؤها إلي استعطاف وطلب الرحمة وبعدها إلي الفرحة بالاستجابة لطلبها واشاعة الحب علي الجميع.. مهارة خالصة في الاداء وعبقرية في الابداع من بوتشيني الذي استطاع ان يمزج الأصوات بالموسيقي ويجعل الجميع يعبرون عن الحدث.. ولا ننسي التنفيذ الموسيقي والتفسير المتميز للمايسترو الايطالي "نيكولا لويزوتي" المدير الحالي لأوبرا سان فرانسيسكو وصاحب الخبرة الكبيرة لقد استطاع ان يوضح لنا كل مواطن الجمال الذي قصدها المؤلف مجموعة آلات الوتريات واستخدامها الجيد مع آلة الهارب في المشهد الرومانسي وسقوط الثلج في الفصل الثاني بين ميني وجونسون وآلات النفخ النحاسية واتحادها مع الآلات الوترية الغليظة في التعبير عن المأساة في مشهد الشنق الأخير وسكوت الموسيقي تماما والاعتماد علي آهات منخفضة من الكورال في رقصة البولكا في الفصل الأول وآلات الإيقاع المتنوعة في المشاهد الراقصة وايضا في الوصول للذروة الدرامية. أما التينور "مارتشيللو جيورداني" فهو ذو صوت براق يحافظ علي مخارج الألفاظ ويشدو بتعبيرية جميلة ذات تلوين جيد وايضا الباريتون "لوتشيو جاللو" الذي بصوته وايضا بتمثيله جعل المتفرج لا يتعاطف معه لموقفه السييء من البطل.. أما بقية الأصوات حتي الثانوية تستحق التحية وتمتاز بدقة شديدة في الأداء. ومن ناحية الإخراج استطاع كل من مصمم الديكور والملابس مايكل سكوت ومصمم الإضاءة جيل ديكسلر أن يجعلونا نعيش في الغرب الأمريكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. يقول النقاد إن بوتشيني تأثر في العمل بدون تقليد بتعبيرية ديبوس وإيقاعية شتراوس فإنني أضيف لهم ودرامية فاجنر... وحقا ما قاله بوتشيني عن هذه الأوبرا : "أنها أحسن ما أبدعت".