جرت العادة بأن نقول إن الموسيقي الفرنسية بكل تجلياتها «أوبرا سيمفونيات وكونشرتات» تحتل مكانة ثانوية إلي جانب الموسيقي الألمانية والإيطالية وربما الروسية، وفي سلم التقييم الموسيقي الأوروبي.. رغم أن هذه الموسيقي تحمل أسماء لامعة قدمت أعمالا شهيرة احتلت مكانا مميزا في قلوبنا وفي ضميرنا الموسيقي. لا أريد أن أعدد أسماء هؤلاء الموسيقيين الفرنسيين الذين أبدعوا أعمالا خالدة مازلنا نترنم بها ونذكرها بكثير من الإجلال والتقدير، ماسنيه وديبوس ورافيل وبرليوز وسانسان ونيريه الذي رغم فرنسيته خلد الموسيقي الإسبانية برائعته «كارمن» وحتي شومان البولندي وليست المجري يعتبران فرنسا أكثر مما ينتميان إلي جنسية بلدهم الأصلي.. لأن الروح الفرنسية تسربت إلي موسيقاهم وأعلنت عن نفسها بوضوح نظرا لإقامتهم الطويلة في فرنسا واختيارها موطنا أصليا لإبداعهم وعبقريتهم. أما شارل جونو فهو موضوع حديثنا اليوم.. ونحن بصدد الحديث عن رائعته الأوبرالية «فاوست» التي قدمها لنا مسرح المتروبوليتان الأمريكي علي شاشة المسرح الصغير بالأوبرا من خلال بث مباشر لها في بنيورك. صفقة مع الشيطان فاوست المأخوذة عن عمل خالد لشاعر ألمانيا الكبير «جوتة» والتي تعتبر واحدة من أهم الأعمال الأدبية الأوروبية في تاريخ الأدب الألماني كله.. وتروي قصة الصفقة التي يعقدها الدكتور فاوست مع الشيطان مفستو فوليس لكي يهبه الشباب الأبدي بكل متعته ومباهجه.. مقابل صل دموب.. يدفع فيه فاوست «الذي وصل إلي درجة كبيرة من الاحباط» روحه.. والتي يقدمها هدية أبدية للشيطان متخليا ونابذا «الجنة الإلهية» اسطورة فاوست سبق أن قدمها الشاعر الإنجليزي الكبير «مارلو» في مسرحية أخاذة، ولكنها لم تصل في قوة تعبيرها وتأثيرها.. إلي المستوي الذي وصل إليه الشاعر الألماني الكبير، هذا النصر الأدبي المشرق إلي جانب نصر آخر «كتبه المؤلف الفرنسي ميشيل كاريه» كان هو الأساس الذي بني عليه شارل جونو أوبراه الشهيرة. الأوبرا تتألف من خمسة فصول تروي لنا عن طريق الفلاش باك.. مسيرة فاوست التراجيدية منذ أن عقد صفقته مع الشيطان إلي أن ينتهي الأمر به إلي فشل ذريع ترسم معالمه ضحيته الأولي الشابة التقية الطاهرة مرجريت التي أغواها فاوست ثم هجرها، والتي قاومت بشدة رغم حبها وولعها بفاوست إغراء الشيطان.. واستطاعت أن تلجأ إلي غفران الرب وأن تنجو بنفسها من الجحيم الأبدي الذي كان ينتظرها والذي سقط فاوست في لهيبه. سقوط فاوست الأوبرا تبدأ إذن وفاوست يستعرض حياته ويقرر الانتحار تكفيرا عن خطئه بحق السماء وحق نفسه وحق مرجريت الطاهرة التي دفعها حبها له إلي الخطيئة والجريمة والسجن.. لولا أن جاءها حبل السماء ومغفرتها في آخر لحظة ليرفعها إلي حنان الخلد. ومن خلال ديكور مبهر في كل تفاصيله تعود بنا الأوبرا إلي الوراء لنري مشهد سقوط فاوست في حبال الشيطان والوعود البراقة بالمجد والشهرة والشباب الدائم والحيوية الرائعة والقدرة علي تحقيق جميع الرغبات السوداء الكامنة في أعماق النفس. وتبدأ المرحلة الأولي من سقوط فاوست عندما يلمح مرجريت ابريئة التي جاءت لتودع شقيقها الوحيد قبل رحيله مع الكتيبة العسكرية التي ينتمي إليها.. وتركها وحيدة.. في حماية عاشق صغير يحبها بصمت ولا يجرؤ علي البوح بحرارة قلبه. ويبدأ فاوست محاولته بإغراء مرجريت بمساعدة الشيطان مفستو مستعملا كل وسائل الإغراء الممكنة المال والجواهر والكلمات البراقة والعواطف الخادعة والأمل بمستقبل سعيد مليء بالبهجة والسعادة.. وتستجيب المسكينة التي لا حول لها ولا قوة إلي هذا الإغراء المسيطر وتهب نفسها لفاوست الذي يهجرها بعد ذلك تاركا إياها تحمل بذرة خطيئتها.. أمام قرية قاسية تتجاهلها وتحكم عليها. وعندما يعود الأخ من الحرب يفاجأ بما حصل لكن «مفستو» يدفع فاوست إلي مواجهته ثم إلي مبارزته وقتله، مما يسبب لمرجريت لوثة.. تؤدي بها بعد ولادتها الجنين إلي قتله في حوض ماء، وتودع مرجريت السجن ويحاصر «مفستو» هذه الروح القاهرة ويدفع فاوست إلي إغرائها مرة أخري بتسليم روحها إلي الشيطان كما ينقذها من ورطتها ومن السجن الذي ينتظرها لكن مرجريت ترفض بإباء وشمم وتتحول إلي السماء طالبة النجدة، وتهرع الملائكة إلي الوقوف إلي جانبها بعد أن شعرت بحقيقة توبتها.. وترتفع مرجريت إلي السماء من خلال أرواح نورانية تقودها إلي أعلي. الجحيم بينما يعلن مفستو فشله.. وتتخلي عن فاوست الذي أصبحت روحه ملكا للشيطان وانتشرت أمام وجهه أبواب السماء.. ولم يستطع حب مارجريت ولا ندمه أن يفعلا شيئا لمنعه من السقوط في نيران الجحيم. فاوست.. هي الصراع الأزلي بين الخير والشر.. بين الشيطان والرب.. والذي كان محورا لأعمال أدبية كثيرة ميزت الفكر الأوروبي خلال قرون عدة. فاوست كما قدمتها أوبرا المتروبوليتان كانت إخراج مخرج أمريكا «داس ماك اناف» تخصص في إخراج المسرحيات الموسيقية في برودوبواب وجاءت فاوست لتكون أول تعاون جدي له مع دار الأوبرا ومن خلال هذا العمل الشديد العمق والأهمية. جاء إخراج ماك أناف لفاوست خليطا بين الإبهار البصري الذي اعتاد عليه في مسرحياته الموسيقية.. خصوصا في المشاهد الجماعية «مشهد رحيل الجنود وعودتهم من الحرب ومشهد الرقص في الحانة» وبعد التركيز علي الحس الدرامي الإبداعي والتركيز علي أداء المغنين المبهر: الروسية مارينا بوبلافسكابا أعطت دور مارجريت بعدا إنسانيا وروحيا وجماليا لا حد له.. وجاءت تعبيراتها الصوتية وكأنها ترنيمات ملائكية لا حد لجمالها وعذوبتها سواء في مشاهد العاطفة أو في مشاهد الثورة أو مشاهد الشجن والندم. كما جاء أداؤها المسرحي مبهرا.. خصوصا أنه نابع من مغنية وليست ممثلة.. ومع ذلك استطاعت أن تلبس الدور وكأنها خلقت لتمثل كما لتغني. الألماني يوناسي كوفمان يمتلك الوسامة الخارقة والصوت القوي المعبر والأداء الرصين لتجسيده للشخصية التي تعتبر من أهم شخصيات الأدب الأوروبي في القرن الثامن عشر، بينما يحلق «رنيه بابي» في دور مفستو ويذكرنا بأدائه العبقري الذي شاهدناه في «بوريس جرونوف» الموسم الماضي.. ويجعلنا نشعر أن ما من مغن غيره قادر علي أن يتقمص هذه الشخصية النارية وأن يجعلنا نحس بها وأن يتركها تتغلغل في نفوسنا وتجعلنا نطرح علي أنفسنا أكثر من سؤال. المعني الفلسفي المخرج إذن اعتمد بشكل رئيسي علي أداء أبطاله الثلاثة وأدخلهم في عالم مسرحي مصنوع بدقة تثير الإعجاب والدهشة مستغلا السلالم التي تحيط بالمسرح ومستغلا حركة المجاميع وخلق أجواء الإغراء التي ساعدت علي سقوط مرجريت لمشهد إخلاء المسرح بالورود الحمراء.. أو مشهد إغراء الجواهر الذي نفذه بعبقرية ساعدته في ذلك إضاءة خلابة وتحريك جسدي شديد الإثارة. لقد جمع داس ماك اناف بين داخلية الأوبرا وبين استعراضية المسرحيات الموسيقية الأمريكية، ولم تتجل لحظة واحدة عن التأكيد علي المعني الفلسفي والديني لهذا النص المدهش، وعلي التركيز الذكي علي المقاطع الموسيقية الشهيرة التي وضعها شارل جونو والتي مازالت ترن أصداؤها بآذان عشاق الموسيقي.. منذ أن قدمت للمرة الأولي قبل عديد من السنين وحتي وقتنا هذا. «فاوست» جونو ليست انتصارا للموسيقي الفرنسية بقدر ما هي انتصار للإبداع الموسيقي والأدبي والجمالي الذي تجمع في عمل واحد من الصعب نسيانه.