ربما تبتسم وتظنني أمزح إذا قلت لك إن "طبق الرنجة". التي نستهلك أطناناً منها في شم النسيم. وفي غير شم النسيم. سيكون أحد أهم الأطباق علي مائدة المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي لإنهاء عضوية بريطانيا في الاتحاد. بحلول عام 2019. السياسة لم تعد تلك القضايا المعقدة التي اعتدنا عليها في الماضي.. صراعات حدود وحروب.. أسلحة نووية وأجهزة استخباراتية.. ومؤامرات ومغامرات.. السياسة أصبحت تمس أدق تفاصيل واحتياجات المواطن العادي في حياته اليومية.. لقد وصلت إلي طبق الرنجة. انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي يقدم لنا نموذجاً مثالياً وواقعياً في نفس الوقت لذلك.. يسمونه.. "طلاقا".. وما أدراك ما الطلاق حين يتمسك كل من الطرفين بكل حقوقه ويصر علي أن تتضمن التسوية كل المتعلقات والتفاصيل. وقد أصبح ملف الرنجة خاصة. والسمك عامة. من أعقد الملفات التي يستعد لها المفاوضون البريطانيون والأوروبيون للوصول إلي تسوية لها. لدرجة أن صحيفة "فينانشيال تايمز" البريطانية أفردت لهذا الملف ثلثي صفحة كاملة في عددها الصادر أول أمس الأربعاء. تفاصيل الموضوع تقول إن بحر الشمال الذي تطل عليه بريطانيا ودول شمال أوروبا. هو أحد أكبر المناطق المائية التي تعيش فيها أسماك الرنجة في العالم. وأن الرنجة تتكاثر في مياه الدانمارك وهولندا بهذا البحر.. وعندما تكبر قليلاً أن تهاجر إلي المياه البريطانية لتستقر فيها نسبة 88% من مجموع أسماك الرنجة الموجودة في بحر الشمال. لكن اتفاقية أوروبية وقعت عام 1983. نصت علي تقسيم ما يتم اصطياده من أسماك الرنجة طوال العام بين دول الاتحاد الأوروبي كافة بما فيها بريطانيا. ولم تخصص الاتفاقية حصة من هذه الأسماك تتناسب مع نسبة ما يعيش في مياهها منها. بل ميزت دولتي التكاثر.. الدانمارك وهولندا وخصصت للأولي 17% من حصيلة الصيد. وللثانية 17.5%. الآن. وبريطانيا تستعد للانفصال. فإنها تطالب بإعادة التفاوض علي هذه الاتفاقية. وإعادة تقسيم حصص الرنجة علي أسس جديدة. بينما رفضت أوروبا هذا الطلب. اتحادات الصيادين البريطانيين تضغط علي الحكومة من أجل التمسك بمطلبها في المفاوضات. ويحلمون بأن يحققوا أكبر مكاسب من الانفصال. وقد تبين من استطلاع رأي للصيادين تم إجراؤه قبل الاستفتاء علي الانفصال في بريطانيا. أن 92% من الصيادين أيدوا الانفصال. وقد نجحت هذه الاتحادات في إقناع نظيراتها في فرنسا وألمانيا وإسبانيا والسويد. بمشاركتها في المطالبة بإعادة توزيع حصص أسماك الرنجة المنتجة من بحر الشمال بصورة أكثر عدلاً. وهذا يقوي موقف الحكومة البريطانية في المفاوضات. ويقولون إن المفاوضات قد تشهد عملية مقايضة بين الطرفين ستتم صياغتها في معادلة تقول: "السمك مقابل الطيران".. أي أن تحصل بريطانيا علي حصة أكبر من أسماك بحر الشمال مقابل أن تسمح باستمرار خطوط الطيران الأوروبية إليها كما كانت قبل الانفصال. وتملك بريطانيا ورقة ضغط إضافية.. إذ انها تسمح لصيادي دول الاتحاد الأوروبي بالصيد في مياهها والاقتراب من شواطئها. وتستعد لإلغاء هذا الحق إذا لم يتم تعديل الحصص لصالحها. أرأيت كيف تجري أمور السياسة في عالم اليوم.