كنت صغيراً علي الإدراك. لكنني لم أنس المشهد الذي كان يتكرر كثيراً أمامي في أوقات مختلفة من الليل والنهار. ساعات في أول الليل وساعات في آخره. ساعات في الصباح الباكر وساعات في وسط النهار. سيارة مصفحة تشبه سيارات نقل الأموال أكبر حجماً نسبياً. يجلس علي طرفها رجل يحمل سيخاً حديدياً طويلاً في نهايته كلاب علي هيئة دائرية. يفتح ويغلق بواسطة شيء يتحكم فيه بيده. كانت السيارة تمر. كنت أعرفها جيداً. وفي لمح البصر يمتد الكلاب أو السيخ الحديدي ذي الخطاف. وتفتح مقدمته الدائرية وتغلق علي رأس كلب ينبح. ثم يطير الكلب في الهواء ليستقر في باطن السيارة. وبعدها بقليل يتكرر المشهد. كلب آخر يصاب بالخرس حين يلتقطه الكلاب من رقبته. وكلب بعد كلب لا تجد في المنطقة نباحاً. الآن نحن نصحو وننام علي نباح الكلاب. لدرجة أني أصلي الفجر داعياً الله في سجودي أن يسكت الكلاب لكي أتمكن من الدعاء في خشوع. الآن لا ينقطع النباح ليل نهار. لدرجة أنه أصبح ظاهرة تنتشر بالشوارع والحواري مثل المطبات تماماً. ولا فرق بين منطقة وأخري. النباح موجود في المناطق الراقية والشعبية معاً. مثل الزبالة تماماً. ولأنني من منطقة شعبية عريقة. من شبرا. كنت أحياناً أحسد أصحاب المناطق الراقية حين ندرس الجغرافيا.. علمونا الحقد الطبقي في المدارس منذ الصغر. علمونا أن نري من هم أفضل منا أو أحسن حالاً بعين الحسد. علمونا أن المناطق الراقية راقية في كل شيء. في نظافة شوارعها وفي تناسق بيوتها وفي اهتمام الحي برش طرقها وأرصفتها كل صباح. وفي الهدوء الذي يخيِّم عليها رغم كثرة السيارات ورغم حفيف الأشجار الذي لا ينقطع لا صيفاً ولا شتاء. حيث النسيم العليل وحيث الهواء الرطب. الآن لا فرق بيننا وبينهم. هم يعيشون وسط الزبالة والنباح مثلنا تماماً. هم يعيشون وسط عوادم السيارات والهواء الملوث بكل أنواع الملوثات والأمراض والأوبئة وغياب الخُضرة. لم تعد تري سيارة الكلاب الضالة ولم تعد تري سيارة رش المياه ولم تعد تري رجال الحي يحفون الأشجار ويرسمونها وكأنهم يرسمون لوحة جمالية. لم تعد تري سوي القُبح في كل شيء. نحن وأصحاب المناطق الراقية سواء بسواء. لم تعد هناك منطقة راقية وأخري شعبية. المناطق كلها قذرة حقيرة. المناطق كلها في حالة يُرثي لها. وقد غاب الجمال في كل شيء ولذلك تصيبني الدهشة حين نلوم الناس علي اعتيادهم القبح والقذارة في كل شيء. في طرقهم وأرصفتهم. في شوارعهم وبيوتهم. وحتي في سلوكياتهم وتصرفاتهم. يا ليتها بقيت المناطق الراقية علي حالها وياليتنا بقينا علي حالنا أيضاً نتعلم الحقد الطبقي ضدهم في حصة الجغرافيا. ويا ليت مصر بقيت علي حالها. فحالها الآن لا يسر. ولا أمل في أن يتغير هذا الحال إلي الأحسن. طالما ظلت الحكومة لا علاقة لها بالشعب.