تورم القدمين رافق ما سماه الأطباء عرق النسا. لا أعرف أي العارضين تأثر بالآخر. أم أنهما نتيجة حالة مرضية واحدة؟ كانت أمي تحذرني من تناول الطعام وأنا واقف: الأكل ينزل رجليك. أتذكر التحذير. وأنا انظر إلي ساقي اللتين تعانيان الامتلاء. أو الانتفاخ. حين يطول جلوسي أو وقفتي نصيحة الأطباء أن أرفع ساقي دوما في أثناء الجلوس أو النوم. كيف أقف إذن؟ وكيف أجلس لأكتب؟ أعرف أنها ظاهرة ترتبط بتقدم السن شخصها الأطباء بأنها بتأثير جاذبية الأرض يظل الجسد يقاومها. حتي تتخاذل الساقان في النهاية. فيحدث الانتفاخ. وهو أمر مؤكد لمن يمضون معظم يومهم جلوسا علي المكتب. أجد في هذه الظاهرة بداية لتخاذل الجسد كله أمام جاذبية الأرض حتي تخضعه في النهاية. يموت. دواء "دفلون" لا يوقف التأثيرات السلبية. لا يفلح في ترميم ما تصدع بالفعل. إنه مجرد أمل للمريض الذي يطلب دواء لكل مرض. حتي لو كان الشفاء صعبا أو مستحيلا. وهو ما يحدث في الأفلام العربية عندما يفلح الطبيب الأجنبي -بجراحة دقيقة- في علاج الحالة المستعصية التي قاست البطلة الفاتنة ويلاتها. كي لا ينصرف الجمهور عن المشاهدة فيواجه الفيلم فشلا مؤكدا. أو يضطر المنتج إلي تقديم نسخة ثانية من "المتوحشة". تظل فيها سعاد حسني علي قيد الحياة. بدلا من النسخة الأولي التي حاولت الحفاظ علي نص جان أنوي "المتوحشة". تذكرت بالضرورة شاكر المغربي بطل روايتي "النظر إلي اسفل" كانت القدم - قدم المرأة بخاصة- هواه ومعبوده: بدا لي الأمر غاية في البساطة اكشف لها السر الذي يمور في أعماقي فتبدي تفهمها تبدأ الرحلة التي تأخرت بأعوام عمري كلها لم يعد خاطرا يفد ويذوي. شملني تماما. امتد إلي المجهول. عالم حافل بالأعاجيب ما عداه طريق إلي. وثرثرات. وهوامش.. ق.. د...م. حتي الحروف تهب التأثيرات التي اتنبه لها. أصحو. التفت بتلقائية. اكتم الصخب في داخلي حتي لو كانت الكلمة في جملة. لا تعبر عن المعني. وتبعد عنه يلفني التنبه. لحظات تقتطع نفسها. كأنها الزوال الممتد. كأني لست أنا. وكأن الآخرين ليسوا هم تغيب النواهي والمحظورات. وأفتش عن المعني الذي يشتغلني قد يكون هو. أو قريبا منه. أبذل جهدا كي لا يفطن أحد. أسلم نفسي إلي الدوامة التي لا تعنيها الدهشة. تختلط الرؤي والأحلام والتصورات. تبدو الملامح باهتة. أو كالظلال قد يغيب المعني في الكلمات. يبدو منفصلا عنها. ومنفصلة عنه. يهدأ التنبه. وتتجه النظرات إلي حيث كانت. وإن ظل الخيال في انطلاقاته التي لا يحدها قيد. أجوس في عالمي بالنظر إلي الجسد. طوله أو قصره. ميله إلي البدانة أو ضموره. الأصابع مقصوصة أو مهملة أخمن الصورة إذا غيبها الحذاء. في الموضوع الذي تحدده لنفسها داخله. * * * لجأت -حين عادت الأعراض- إلي أدوية. أشار بها الدكتور المعتز بالله. ثم ترددت باستمرار الحالة علي أطباء نصح أحدهم أن أجري أشعة رنين. اشفقت من التمدد فيها يشبه التابوت. وتعاطيت ما أعرفه. وما لا أعرفه. من المسكنات. تكفي نصيحة لأتصل بالصيدلية. أطلب ما أشار به الصديق صاحب النصيحة. تكررت الأسئلة. لكنها اتفقت في العني: أين أشعر بالألم؟ ومتي تزداد شدته؟ تعددت الأوقات التي داهمني فيها الإحساس بالألم. ألم قاس. ممض. يجبر الساقين علي إبطاء الخطوات. يدفع التأوه إلي حلقي. قد تلامس سخونة الدمع وجهي. أتساند علي من يرافقني. أو علي ما أصادفه. أذكر العناء في قطع المسافة من باب مطار دبي إلي باب الخروج الداخلي. دقائق غمرني فيها الألم. غالبت الرغبة في العقود. رغبة مسيطرة. باطشة. تسلبني الحيلة في المقاومة. كأنها تجذب جسدي إلي اسفل. طال تساندي علي زينب. حتي لم أعد أقوي علي الحركة. استغاثت بمقعد خال. أمام كاونتر شركة طيران تأملت في جلستي التفاتاتها في المكان. كأنها تبحث عن اليد التي تعينني علي مواصلة السير. لمح رجل أمن ما أعانيه. وتعانيه زينب بالمشاركة والتعاطف. دعا عربة صغيرة. ذكرتني بالتكتك في شوارع القاهرة لا استثناء. فقد رأيتها في الشوارع الرئيسية! أقلتنا إلي القاعة المؤدية للمدخل الخارجي. أمام باب الخروج تماما. كان ما بعد الفجر أصعب الأوقات. تشتد الآلام. تنغز كل جسدي. أبدل موضع النوم. علي الظهر. علي الجانب الأيمن. علي الجانب الأيسر. أتذكر الطريقة التي كنت أفضلها قبل أن تصادقني الآلام: أتمدد علي صدري. وأضع ساعدي تحت الوسادة. لكن التأثيرات تظل قائمة. ازحف إلي الكنبة في الصالة. أتوهم الراحة في غياب المرتبة. دقائق. ثم تعلو صرخات العظام. تعددت نصائح الأصدقاء بممارسة اليوجا. والتدليك. واستعمال الكريمات المناسبة. وثمة من اختصر الطريق فنصح بتعاطي مسكنات الألم. مثل اسيتامينوفين. أو إيبوبروفين. أو نابروكسين وتحدث صديق عن تلاشي الألم بحقن في الظهر. الآلام القاسية تدفعني إلي رفض التحذيرات من اختلاط المسكنات. وتواليها. لكل منها تأثيره في الجسد. وفي المعدة بخاصة يتناوح ما يصعب وصفه داخلي. لا يشغلني إلا إسكات ما أعانيه. وإن حرصت علي كتمه. لا أبوح به حتي للقريبين. دخت مع الأطباء. اعتدت ميكانيكية فعل ابتلاع الأدوية. دون أن يهدأ الألم لجأت إلي كل ما يخفف الألم: المراهم. الكريمات الطبية. خلطات الأعشاب حتي الوصفات التي أشار بها الأصدقاء. حاولت أن أفيد منها. أجاد البحث من يعرف الفرق بين أنواع العطارة. ويحسن الاختيار. وإن عرفت متأخرا أن فيتامين د في إجماع الأطباء هو الدعامة الأهم لعافية العظام. أذكر أن طبيبين من عشرة أطباء حرصا علي تفحص مواضع الألم. وتسجيل ملاحظات أتاحت لهما وصف الدواء المناسب كانت كل الأدوية في الحقيقة مسكنات لا تلغي المشكلة. أطيل التحديق في عيني الطبيب. أحدس ما يخفيه أو نسيه يقلقني أنه ربما يكذب. لم يصارحني بخطورة الحالة. قال لي صديقي الطبيب فؤاد البدري إنه يقرأ الأمراض التي تسكن جسد مريضه. في عينيه. بمجرد أن يدخل حجرة الكشف. وصارحني صديقي المبدع الطبيب محمد المخزنجي أن علم الفراسة الذي درسه في روسيا. يتيح له قراءة الشخص. حالته العضوية والنفسية. لحظة دخوله عليه! ثمة من لخص الحالة بمجرد تمسيد موضع الألم: هذه حالة تيبس.. تيبس؟! أقلقتني العبارة. ما معني أن يكون الظهر متيبسا؟ كيف أعيش حياتي بظهر متيبس؟ حاولت تناسي التشخيص المقلق. وأنا أبحث عن إجابة مقنعة في عيادة طبيب آخر. صار ترددي علي الأطباء مثيرا للقلق. ومثيرا للخوف أحيانا ثانية. ومثيرا لليأس أحيانا أخري. تبدلت الأدوية التي أتناولها ما بين أقراص وحقن. تعددت مسمياتها. فغاب معظمها عن ذاكرتي. أذكر: flash, sulfax, voltaren50, claritine, lyrica, sirdalud, thiotex, Arythrex, myofen, cal-c-vita, arthrofast, becozyme, solupred cobal, spasmodigestin, brexin, cymbalta, feldene, cymbatex neurimax. تهديء الألم وقتا. تلطفه. لكنه يعود كما كان. أو أقوي مما كان. ظلت الآلام إحساسا ثابتا أعانيه. وتكرر سقوطي في الصعود علي السلالم. وفي الحمام. أو حتي داخل الشقة ثم لاحظت في قدمي ما سافر حسني مبارك إلي ألمانيا لعلاجه. وهو فقدان القدرة علي تحريك قدمي اليمني. أرفعها وانزلها. "تهبد" في الأرض. أقلقني الأمر. وأحرجني. وقعت -بلا سبب أذكره- علي باب "الجمهورية". درجتان زلتا قدمي فسقطت فوقها. صار أصعب اللحظات في عبوري المسافة بين باب المبني الخارجي وباب المصعد. ثم المسافة بين باب المصعد وباب مكتبي أحاذر أن تلامس قدمي اليمني الأرض. تتبعها القدم اليسري. لكن القدم الأولي تهبط علي الأرض كمطرقة أرفعها بصعوبة. يتكرر الأمر في الخطوة التالية. يؤلمني الشعور بأن الأعين تترصد خطواتي. تلحظ الارتباك والتعثر وعدم القدرة علي المشي. عشت المأزق دون أن أفصح عنه. لم أتبين البواعث وما إذا كانت طارئة. وضعت ملاحظة الدكتور حاتم رضوان -صديقي. وعضو ندوتي في المساء- حدا فاصلا بين ما سبق وما لحق وهو ما سأرويه لك: التقط حاتم رضوان إشارتي لما أعانيه: - هل قلت إن قدمك تخبط الأرض؟ أومأت برأسي موافقا. أدار اصبعه يستحثني علي الفعل. رفعت ساقي اليمني. هبطت بها. أحدثت قدمي ما يشبه الارتطام. هتف: - هذه حالة سقوط قدم. لابد من عملية. ما القدم الساقطة؟ صدمني التعبير. لم أكن أعترف قد استمعت إليه من قبل عدت إلي الانترنت موسوعة زماننا قرأت ما كتب عن القدم الساقطة Drop Foot إنها عدم قدرة المريض علي تحريك أصابع قدمه والجزء الأمامي من القدم. بتأثير توقف الأعصاب المحركة عن العمل. لضغط الديسك أو الغضروف في اسفل الظهر علي الأعصاب. * * * حدثتك في روايتي التسجيلية "الحياة ثانية" عن آلام الاثني عشر التي كانت تحدث في بطني فعل السكاكين. اقتصر علاجي لها علي المسكنات. والانكفاء علي الامي. حتي أعلنت القرحة عن تمرد صاخب وأنا أقود سيارتي أول الطريق المفضي إلي سكة المناصرة. الدم الذي تقيأته أصابني بدوار تمنيت أن أترك السيارة إلي أقرب كرسي أمضيت بتأثير التمرد الصاخب ستة عشر يوما في مستشفي عين شمس التخصصي "افتتح في 1984" بعد جراحة عاجلة أجراها الدكتور رضا عبدالتواب عالم. مفرداته: الأطباء والممرضات وغرفة العمليات والأدوية والمنظار والتحاليل والأشعة والكرسي المتحرك ودفء الصداقات. أصعب ما عانيته تداخل تأثيرات عملية الشبكية في عيني وضرورة متابعة الدكتور حازم ياسين لعملية المياه البيضاء. وعدم قدرتي علي الحركة. لم أعد أقوي علي السير. انتقل من غرفة النوم إلي الصالة باحتضان زينب. أضع ذراعي حول عنقها. تعود بخطوات بطيئة. أجرجر قدمي خلفها. نسلي أنفسنا بالدندنة. توت.. توت!! كانت الآلام التي اعتدت عليها كل صباح. أقسي من أن أحتملها. ليست مجرد آلام موجعة. لكنها تتصاعد داخلي بالغثيان. يمتزج طحن العظام بالرغبة في القيء. استعدت الفترة التي كنت أعاني فيها صرخات قرحة الإثني عشر. مصدر الصراخ- هذه المرة- يشمل الجسد كله. لا استطيع أن أحدد موضع الألم ربما أضاف إلي متاعب معدتي أني لا أمضع الطعام. أضعه في فمي لابتلعه. لا تؤدي الأسنان وظيفتها في الطحن. تمنيت -أحيانا- أن أفقد الوعي. أو أموت. حين ضاق الحال. اصغيت لوصفات الطب الشعبي. تعددت مفردات الأعشاب والطب النبوي. لكن زينب نصحتني أن أهمل ما استمعت إليه. ذكرتني بدجال نشرت "المساء" تحقيقات عن قدرته علي علاج كل الأمراض. حتي المستعصية تحديته بلحمية في أنفي تولدت من الحساسية. صرخت من الآلام القاسية التي أحدثتها قطرات وضعها في فتحتي الأنف. طمأنني بأن الألم مدخل للعلاج. ووعد خيرا. أحدثت القطرات في أنفي ما أفقدها الشم. واستغثت بالدكتور فؤاد البدري. فطن -بمجرد الفحص الظاهري- إلي أن الدجال حاول إزالة اللحمية بقطرات ماء نار. وحسب تصوري. فإن الدجال خاف من أوذوا بعلاجه. فذهب إلي حيث ألقت. أحيانا. كنت أقنع نفسي بأن المرض خفت صوته. أو تلاشي. وأن كل شيء علي ما يرام. لكن الألم يتصاعد هادئا. خفيفا. كأنه صدي صوت بعيد. ثم يعلو الألم شيئا فشيئا. يعيدني إلي ما أعانيه. إلي المرض. وتأثيره. ومضاعفاته. واحتمالاته القاسية.