اعرف لجنتك الانتخابية ومقر التصويت فى المرحلة الثانية من انتخابات النواب    كلودين عون: «المرأة اللبنانية ما زالت محرومة من حقوقها»    وزير الأوقاف يهنئ دار الإفتاء المصرية بمرور 130 عامًا على تأسيسها    مصر تستحق صوتك.. انزل شارك في انتخابات مجلس النواب من أجل مستقبل أفضل لبلدنا (فيديو)    جامعة حلوان تنظم ندوة تخطيط ووضع برامج العمل    ننشر سعر اليورو اليوم الأحد 23 نوفمبر 2025 فى منتصف التعاملات أمام الجنيه    سعر كيلو الفراخ بالقليوبية الأحد 23/ 11 /2025.. البيضاء ب60 جنيها    انطلاق أعمال الدورة الثالثة للملتقى السنوي لمراكز الفكر في الدول العربية    11 شرطا للحصول على قرض مشروع «البتلو» من وزارة الزراعة    الهلال الأحمر الفلسطيني يعلن إصابة شاب برصاص قوات الاحتلال في رام الله    وزير الخارجية يؤكد تطلع مصر إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع كندا    اتهامات لأمريكا بإدارة عمليات سرية وخفية بفنزويلا للإطاحة بمادورو    نتنياهو: نرد على خروقات وقف إطلاق النار بشكل مستقل دون الاعتماد على أحد    القاهرة الإخبارية: الاحتلال ينفذ عمليات نسف وتفجير بمدرعات مفخخة شرق غزة    إطلاق قافلة زاد العزة ال78 إلى غزة بحمولة 220 ألف سلة غذائية و104 ألف قطعة ملابس    طاقم حكام صومالى لإدارة مباراة باور ديناموز وبيراميدز فى زامبيا    حسين لبيب يناشد رئيس الجمهورية بحل أزمة أرض السادس من أكتوبر    مواجهات مثيرة.. مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة    جامعة بنها تحصد 18 ميدالية في بطولة الجامعات لذوي الاحتياجات بالإسكندرية    جوزيه جوميز: كنا نستحق نقطة واحدة على الأقل أمام الهلال    تجديد حبس المتهم بالتحرش بطالبة في التجمع    حالة الطقس.. الأرصاد تكشف خرائط الأمطار المتوقعة: رعدية ببعض المناطق    تسهيلات لكبار السن وذوي الهمم.. التضامن توضح ضوابط حج الجمعيات    «غرق في بنها».. العثور على جثة شاب أمام قناطر زفتي    قرار هام من المحكمة في واقعة التعدي على أطفال داخل مدرسة خاصة بالسلام    الداخلية تضبط مرتكبى واقعة سرقة تانك سولار بعد انتشار المقطع على السوشيال    كيف ترخص السيارة بديلة التوك توك؟.. الجيزة توضح الإجراءات والدعم المتاح    نقابة المهن التمثيلية تنعى الإعلامية ميرفت سلامة    مصطفى كامل: محدش عالج الموسيقيين من جيبه والنقابة كانت منهوبة    أسامة الأزهري: الإفتاء تستند لتاريخ عريق ممتد من زمن النبوة وتواصل دورها مرجعًا لمصر وسائر الأقطار    إقبال من الجمهور الإيطالي والأوروبي على زيارة متحف الأكاديمية المصرية بروما    "أنا متبرع دائم".. جامعة قناة السويس تنظم حملة التبرع بالدم للعام ال15    غدا.. تمريض جامعة القاهرة الأهلية تنظم ندوة توعوية بعنوان "السكري والصحة:معا لمجتمع جامعي أفضل"    أول لقاح لسرطان الرئة فى العالم يدخل مرحلة التجارب السريرية . اعرف التفاصيل    هيئة الاستثمار: طرح فرص استثمارية عالمية في مدينة الجلالة والترويج لها ضمن الجولات الخارجية    اليوم.. الزمالك يبدأ رحلة استعادة الهيبة الأفريقية أمام زيسكو الزامبى فى الكونفدرالية    اتحاد الأثريين العرب يهدي درع «الريادة» لحمدي السطوحي    كمال أبو رية يكشف حقيقة خلافه مع حمادة هلال.. ويعلق: "السوشيال ميديا بتكبر الموضوع"    اليوم بدء امتحانات شهر نوفمبر لسنوات النقل.. وتأجيلها في محافظات انتخابات المرحلة الثانية لمجلس النواب    موعد مباراة ريال مدريد أمام إلتشي في الدوري الإسباني.. والقنوات الناقلة    المشاط تلتقي مجتمع الأعمال والمؤسسات المالية اليابانية للترويج للإصلاحات الاقتصادية    وزارة الصحة: إصابات الأنفلونزا تمثل النسبة الأعلى من الإصابات هذا الموسم بواقع 66%    المخرجة المغربية مريم توزانى: «زنقة مالقا» تجربة شخصية بطلتها جدتى    «هنيدي والفخراني» الأبرز.. نجوم خارج منافسة رمضان 2026    "عيد الميلاد النووي".. حين قدّم الرئيس هديته إلى الوطن    «سويلم» يتابع منظومة الري والصرف بالفيوم.. ويوجه بإعداد خطة صيانة    الوجه الخفى للملكية    بدء فعاليات التدريب المشترك «ميدوزا- 14» بجمهورية مصر العربية    وزارة الصحة: معظم حالات البرد والأنفلونزا ناتجة عن عدوى فيروسية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 23-11-2025 في محافظة قنا    وزير الري: أي سدود إثيوبية جديدة بحوض النيل ستقابل بتصرف مختلف    مواقيت الصلاة فى أسيوط اليوم الاحد 23112025    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 23 نوفمبر    استطلاع: تراجع رضا الألمان عن أداء حكومتهم إلى أدنى مستوى    جولة نارية في الدوري الإيطالي.. عودة نابولي وتعثر يوفنتوس    مفتي الجمهورية: خدمة الحاج عبادة وتنافسا في الخير    دولة التلاوة.. أصوات من الجنة    خلاف حاد على الهواء بين ضيوف "خط أحمر" بسبب مشاركة المرأة في مصروف البيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقصدى البوح لا الشكوى

هذه الرواية أحدث إبداعات الروائي الكبير محمد جبريل. وهي عن تجربة حياتية قاسية عاشها المبدع في العامين الأخيرين بعد أن أجري عملية جراحية في عموده الفقري.
الرواية أقرب إلي السيرة الذاتية فضلا عن الجانب التسجيلي.
وهي في مجموعها تعكس ما عاناه المبدع الكبير من أحوال واوجاع العلاج الطبي في بلادنا وذلك بعد أن أقعد المرض الكاتب الكبير وأفقده القدره علي الحركة إلي حد كبير ووسط الآلام المبرحة أبدع هذه الرواية.
الحلقة الأولي
أفقت كأني صحوت من النوم. تناهي رفع الأذان من مسجد قريب. عرفت أني صحوت في الفجر. اطمأننت في البداية إلي استقاظي في حجرة نومي. ثم أدركت بالتلفت أن البنج يملي تأثيراته. من حولي رجال وفتيات وسدات تتعدد أزياؤهم. عرفت فيما بعد أن لون الزي يحدد طبيعة العمل. ثمة الطبيب والمساعد والممرض. لكل زيه الذي يشابه في تصميمه بقية الأزياء. الاختلاف في اللون.
نغزني ألم مفاجئ. فصرخت.
قال صوت لم أتبين صاحبه:
تحمل!
أعدت النظر إلي ما حولي. اصطدمت عيناي بأسرة وستائر ومناضد وطاولات عليها أدوية. أنا في مستشفي إذن. دخلت المستشفي. أعددت نفسي لإجراء عملية. العملية أجريت في قاعة صغيرة. رأيتها قبل أن يغيبني البنج. الموضع الذي أنا فيه يختلف بالستائر المشمع. المتقاطعة. والأصوات المتلاغطة من ورائها بالتعليمات والشكوي والتأوهات والأنين والبكاء والصراخ وعبارات المواساة.
لم أكن اتعمد التأوه. علا بعفوية لم أقدر علي منعها. طبعي أن أكتم الألم. ربما اقتحم جسدي وانا أتهيأ للنوم بما يثير احتمالات قاسية. أكتم ألمي. وأهمس بالشهادتين. وأسلم نفسي للنوم. لا تشغلني التصورات. وما إذا كنت سأصحو كالأيام السابقة.
لموليير رواية شهيرة اسمها "مريض الوهم" عن ذلك الذي يدفعه الوهم إلي تصور المرض! لعلي أهمل المرض نفسه. وإن تشغلني أعراضه. وأنتظره قد يستمر المرض. وقد أموت. وقد أتعافي. لا أعرف ما بداخل جسدي. لا عرض. ولا ألم يشي بمرض لم يعلن عن نفسه.
العادة أننا نعالج أمراضنا التي لا نعرف خطورتها بالمسكنات والمضادات الحيوية. نجد في صمت الألما ما يغني عن التردد علي الطبيب. أو المستشفي. لا توقف العلاج إلا بعد أن تتفاقم الأعراض. وتسوء الحالة. يلجأ الطبيب إلي دفتر الروشتات. يسوده بأسماء أدوية. أو ينصح بإجراء عملية.
لا أذكر من التقط هذه الصورة. يدي تضع فوهة "البخاخة" داخل فمي. تقليلا لتأثير الحساسية في صدري.
كنت استمع إلي لفظ "حساسية" فأتصور من يوصف به أنه ذلك الذي تضايقه أحيانا تصرفات الناس. فتغضبه. أو تثيره. وقد يلجأ إلي البعد عن الشر. ويغني له.
شخص صديق ما أعانيه من العطس والزكام والكحة والنهجان لأقل مجهود بأنه حساسية.
وكدت أن ألوذ بالمثل "الباب إللي يجيلك منه الريح سده واستريح". لولا أني قرأت لصديقي الروائي إدوار الخراط مقالاته عن الحساسية الجديدة. فأدركت أن الحساسية أنواع. منها ما يتصل بالمرض العضوي. ومنها ما يتصل بالإبداع. وأسلمت نفسي لحيرة لا أدري أي الحساسيتين أعاني. زاد من حيرتي أن كم الأدوية التي وصفها المجربون. بداية من الصيدلي. وانتهاء بعم شاهين البواب. مرورا بكل الأصدقاء والزملاء. لم يحقق ما ارجوه لباب الحساسية اللعينة من إغلاق محكم. فهي تسكت أياما. وتعود شهورا. ترهقني أعراضها. وتميتني الأدوية التي أتعاطها لعلاج ما أعانيه.
أثرت الحساسية علي معظم جسدي. أصابت ما لم يخطر علي بالي من أعضاء الجسد.
أذكر قول طبيب العيون لي في إشفاق واضح:
حتي رموش عينيك تعاني الحساسية!
حرمتني الحساسية من النوم في القطارات والطائرات. وفي أي مكان يوجد فيه ناس.
اعتمدت كتمة النفس إلي حد الاختناق. ربما صحوت منتفضا علي يدين تحيطان بعنقي. تضغطان فينقذني الاستيقاظ من توقف الأنفاس.
الشخير هو أسخف ما أعانيه. هو المرادف للنوم عندي. أنا أنام. فأنا أشخر. لا ذنب للناس في الأمر. أحرص فلا أسلم نفسي للنوم. حتي لا يسلم النوم نفسه للشخير. أتذكر ضيق ركاب القطار أو الطائرة لتعالي شخير أحد الركاب. غلبه النوم. والشخير بالتالي!
لا أحب أن أكون في وضع ذلك الرجل!
حين اضطررت لزيارة الدكتور حسن السيد سليمان وأنا مواطن مصري. لا أتردد علي الطبيب. كما تعلم. إلا في لحظات الوقوف بين الحياة والموت شخص الحالة بأنها حساسية.
قلت:
أذكر أني تعاطيت كل ما يخطر علي البال من أدوية ووصفات شعبية.
قال:
لكل دواء دواء..
استعدت بيني وبين نفسي بيت الشعر:
لكل داء دواء يستطب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها.
أعدت تناول ما أشار به الدكتور حسن من أدوية. فلم يحدث التحسن الذي أرجوه.
قال لي الطبيب في زيارتي الثالثة. وأنا أستند علي كتف زوجتي:
لابد إذن من إجراء مزرعة حساسية لعلاج الحالة بصورة جذرية!
غرس الدكتور طريف سلام في ذراعي أكثر من حقنة. في كل منها ما لا أعرفه من أشياء ملونة. وانتظر نتيجة كل حقنة. ثم هتف بمقولة أرشميدس: وجدتها!
أكد الطبيب أن تراب الموكيت هو السبب. وأجري خلطة بين التراب وعدة محاليل. فلما أبديت خوفي قال في ثقة:
ومن السموم الناقعات دواء!
ما فعلته السموم الناقعات أنها باعدت بين مواعيد تضخم اللحمية في أنفي اذهب إلي صديقي الدكتور فؤاد البدري فينتزع اللحمية من الأنف في لحظات عذاب مؤلمة. وهمست ذات مرة : ليه أنا يارب!.
قال الطبيب الذي يذكرني بالدكتور إسماعيل بطل قنديل يحيي حقي من حيث إيمانه المطلق بالعلم. وإيمانه النسبي بالسحر وتوقعات المنجمين:
لا تقل ليه أنا.. أنت لا تعرف ما يعانيه مرضي آخرون!
ولأن فؤاد البدري صديقي. فقد كان يرفض أن يأخذ أجراً عن العمليات المتوالية التي ينتزع فيها لحم أنفي!
بادرت في خطوة حاسمة إلي نزع موكيت الشقة.
نسيت أن أصارحك بأني مصري خليجي. أي عائد من رحلة عمل في الخليج. بين ما تأثرت به من الحياة هناك رغم أنها لا تتفق مع احتضان المقطم لقاهرتنا الجميلة بغلالاته الترابية! فرش شقتي بالموكيت.
نزعت الموكيت. فبدأ الباركيه ناصعا بمربعاته ومثلثاته وتقاطعاته وتشابكاته. وذهبت حساسية الأنف إلي حيث ألقت.
وحين أبديت تخوفي بعد أعوام من زوال حساسية الأنف أن تكون قد عادت إي موضع آخر في جسدي. هو الصدر. قال الدكتور هشام قاسم إن تخميني في محله. وإني بالفعل مصاب بحساسية الصدر. ونصح بأدوية امتد تأثيرها ما يقرب من الشهرين. ثم تكررت الأعراض. وتكررت الأدوية. فنصح الطبيب بالكورتيزون. وذهبت الأعراض فعلا بعد يومين من تعاطي الدواء!
لما كرر الطبيب نصيحته اليائسه في مرة تالية. أعلنت تخوفي من أعراض الكورتيزون السلبية.
قال بلهجة تجمع بين الإشفاق والتعاطف:
لا حل إلا الكورتيزون.
أسلمت ردفي صاغرا لحقتني كورتيزون. وانتظرت زوال الحساسية بعد يومين. كما في المرة السابقة. لكن كل شيء ظل علي حاله.
عرفت أن مسببات الحساسية كثيرة. منها أنواع من الأطعمة والعطور والعوادم والأتربة والفطريات الهوائية وحبوب اللقاح والمبيدات الحشرية والسجاجيد والموكيت والرطوبة العالية وحشرة الفراش والحيوانات المنزلية وغيرها.
لم يعد إلا وصل النتائج بمسبباتها. فأجري التحليل الذي يدل علي أصل الداء. حتي أبرا منه. واستعيد ما استعاره الدكتور طريف من نهج البردة: ومن السموم الناقعات دواء!
***
لعلي أتجاوز كل تلك المسببات. وارجع توطن الحساسية صدري وصدر ابنتي أمل وابني وليد فيما بعد إلي وراثة عن أبي.
رويت لك عن السنوات الطويلة. المتصلة. التي كان أبي يعاني فيها تأثيرات الربو. لا يستطيع النوم علي السرير مثل بقية البشر. فهو يكتفي بالجلوس علي كرسي. ويسند كوعه إلي كرسي آخر أمامه "أشرت إلي تلك الجلسة القاسية في أكثر من قصة لي" تفاجئه الأزمة. فنحاول تحريك الهواء أمامه. يلوح لنا عند اقترابه من البيت. نهبط إليه بكرسي عند الباب الخارجي. نجعل المسافة بين الباب وشقتنا في الطابق الثالث محطات. يسترد أنفاسه في كل بسطة. ربما اشتدت الأزمة. فأعدوا إلي صيدلية جاليتي بشارع فرنسا. أو صيدلية الإسعاف بالمنشية. أعود بمسعف يعالج الأزمة بأدرينالين أو افيدرين. وهما ما اذكره من أدوية لعلاج حساسية الصدر آنذاك.
تطور العلاج. وأنواع الأدوية. لكن الحساسية علي حالها في صدور المرضي. بل إن معدلاتها كما تقول الإحصاءات العالمية زادت بصورة لافته.
***
أتابع البرامج الحية في القنوات الفضائية. أطالع الملاحق التي تتخلل إعلاناتها مواد طبية. التقط النصائح والتوجيهات والخبرات والإشارات إلي الأعراض التي ينبغي التنبه لها.
أعرف أن حدقة العين عندما يتقدم العمر تبدأ في التصلب. بحيث تصعب الرؤية السليمة. ويحتاج المرء إلي استخدام نظارة. النغزة الصغيرة في منتصف الصدر. تعيد ما قرأته عن أعراض الذبحة الصدرية. اطمئن نفسي بما قاله لي الدكتور جلال السعيد. أعراض أمراض القلب من الظهر أكثر من الصدر. تطول مدة الزكام. أحدس أن الأمر لا يقتصر علي العطس والرشح. لكنه بدايات مرض يعطي نذره. أشعر بوجع في جنبي. أجده نذيرا بمتاعب في الكلي. قد تؤدي إلي فشل كلوي. أشعر بحرقان في البول. أعرف أن البروستاتا هي المرض الذي يفرضه السن المتقدم.. ألاحظ أن السائر بجواري يزداد نهجانه كلما استغرقنا السير. أعرف أنه يعاني حساسية صدرية. أو مرضاً في القلب.. أراقب تطورات الألم. ما يبدو ألماً.. أعرف أن المرء قد يتمني الموت نهاية للألم الذي يسري في جسده.
لا أحب الألم. لا أحب حتي مشهد الحقنة وإبرتها تغوص في اللحم. أغمض العينين. أو ابتعد بنظراتي إلي الناحية المقابلة. يستوي الزمر إن حدثت "شكة" الحقنة في جسدي. أم في جسد شخص آخر.
المشهد في ذاته يؤلمني.
النصيحة التي تتكرر في زياراتنا لكل طبيب هي الابتعاد عن النشويات والدهون والحلوي. واستعمال زيت الذرة بدلاً من السمن البلدي. والإقلاع عن التدخين. والامتناع عن أكل اللحوم ا لحمراء. والإكثار من أكل الخضراوات والفاكهة. وممارسة الرياضة ولو المشي بانتظام.
* * *
لا أذكر متي. ولا كيف. حدث ما حدث للمرة الأولي. ولا إن كان قد حدث. واستمر. دون أن أدري.
ينبغي أن أعترف أني أهملت بوادر الأمراض حتي اكتسبت عافية. واستقرت في جسدي. ليست مرضاً واحداً. ولكن مجموعة أمراض. ألجأ إلي الطبيب فيما زاد ألمه. أهمله إن استحثني صراخ مرض آخر. أو أحاول مداواته. وهكذا.. تكسرت النصال علي النصال كما تقول القصيدة. أفكر في "الشيك أب" الفحص الشامل للجسد. أخشي أن يبلغني الطبيب بأن الجالس أمامه طيف شخص سبق موته. أو يحدد لي بصراحة قاسية عدد الأيام المتبقية لي في هذه الدنيا!
أبدو صحيح البدن. لكن المرض قد يكون حيث لا أعرف. وحيث لا يعرف الأطباء.. ثمة ملوك ورؤساء دول تجري لهم فحوص دورية. ربما كل صباح. لكن المرض يعلن فجأة عن وجوده.. أحدس في أي ألم. في أي عارض. مرضاً يعلن عن نفسه. نوبة قلبية. أو جلطة. أو فشل كبدي. أو فشل كلوي.
هل أذكرك بجمال عبدالناصر والملك حسين وهواري بومدين وهوجو شافيز وجورج السادس وعشرات غيرهم؟
يشير الراحل حلمي سالم إلي أنه لم يكتب قصيدة كاملة تتعلق من بابها برثاء أمل دنقل. لأن خوفه من السرطان الذي انتشر في الهواء. والذي أخذ منه مجموعة من أعز الناس. جعله يجفل من رثاء دنقل. حتي لا يكون في مواجهة مباشرة مع السرطان.. وكما نعلم. فقد مات حلمي سالم متأثراً بالسرطان.
* * *
مشكلتي مع العمود الفقري تعود إلي سنوات طويلة.. ترتبط البداية. ثم الاستمرار بالآلام المصاحبة لجلستي إلي الآلة الكاتبة. أمام الأوراق البيضاء. حتي أسودها بما أكتبه. أنقر عليها ربما إلي ساعات الصباح. أغلق النافذة إشفاقاً علي آذان الجيران من صوت الآلة. لا عبارة شكوي. فالكل يدرك طبيعة عملي. لكنه الشعور الذي أعانيه سمة حالة مرضية! من أن أكون في موضع الذي أزعجه!
ملاحظة عابرة. أشارت بها زوجتي إلي بداية المشكلة: هل يدرك أصحاب "الوطن" فداحة الثمن الذي دفعته؟
الوطن هي الجريدة التي أصدرتها بجهد فردي في البداية ثم بالاعتماد علي قلة من الأصدقاء. كانوا يقتطعون من أوقات وظائفهم الحكومية في مسقط. ليسهموا في إعداد مواد الجريدة.. أقف علي الطاولة يوم صدور العدد كل أسبوع من التاسعة صباح الأحد إلي الثانية عشرة ظهر الاثنين.. يلاحظ صديقي وزميلي حسين مرسي. عندما يأتي ليصحبني إلي مقر الجريدة في سوق الخضار بمسقط. أني لا أستطيع الوقوف. يداري الضحك في تحول جسدي وأنا أتهيأ للوقوف إلي الرقم ستة. أضع راحتي خلف ظهري. أحاول "الفلفصة" حتي أستطيع فرد قامتي.
نسيت من أيامها لعبة الجمباز. قدرتي علي ملامسة رأسي بأطراف أصابعي. منافس حقيقي للرجل الكاوتشوك رماح.. اعتدت الجلوس لساعات طويلة. أقرأ. أكتب. أراجع. لا تشغلني الأعراض التي تهمس بالشكوي.. ربما لجأت إلي مسكن مما تتيحه الصيدليات.. تأملت تشبيه صديقي منحمد بهنسي بأن جسدي مثل البطارية التي يفترض أن يطول عمرها بضع سنوات. لكن صاحبها يختصر العمر بإساءة الاستخدام إلي بضعة أشهر.. أعجبني تشبيه بهنسي. وإن لم أتدبر معانيه.
لجأت إلي ما يسميه العلماء القوة الثانية. أصمت عن الحركة والكلام. أكتفي بالشرود. والتقاط الأنفاس. خمس دقائق أو نحوها. أقرب إلي رياضة اليوجا. ثم أعود إلي ما كنت فيه.
تواصلت اللعبة القاتلة. القاتل هو أنا. والمقتول هو جسدي المسكين!
ثم علت الهمسات في ظهري. تحولت إلي صراخ. نتيجة الألم في فقرات العمود الفقري. وفي الساق. أولاني صديقي الطبيب المعتز بالله الفقي رعاية مكثفة. حتي استطعت القياممن المرض الذي سمي "عرق النسا".
* * *
أهملت نصائح ابني وليد بأن ألجأ إلي الكمبيوتر.. تعددت مسمياته في البداية. حتي استقرت علي تسمية "الحاسوب" في لغة الحافظين للفصحي. و"الكمبيوتر" لمن يستخدمون التسمية الغربية. وهي التسمية التي أطلقها العالم الصناعي علي اختراعه. مثلما اخترع التليفزيون والفيديو والإنترنت والمحمول وتسميات أخري كثيرة.
ليس من حقي أن أختار اسماً مغايراً للاسم الذي تلقيت به الاختراع. فهو من حق صاحبه.. ولعلي أذكرك بالأسماء والمسميات التي نقلها الآخرون عن العرب أيام كانت لهم حضارة متقدمة.
تجاهلت نصائح وليد زمناً. وظللت علي تجاهي حتي عندما تحولت النصائح إلي تحريض. وتحذير من ألا أخاطب العالم بلغته. ولا أحسن استخدام أدواته.
كطبيعة الأمور. تحولت فيما بعد إلي تلميذ. يبسط لي وليد عمل الكمبيوتر. تعرفت إلي المسميات والخصائص حتي شعرت أني أستطيع أن أستبدل الكمبيوتر بالآلة الكاتبة. عالم سحري لم يخطر في بالي. ولا تصورته. الكتابة بخط جميل ما أسوأ خطي! الحفظ. القص. اللصق. التقديم. التأخير. وغيرها من استخدامات الكمبيوتر. تيقنت أن اختراع الجهاز من أجلي.. كنت أنقل ما أكتب علي الآلة الكاتبة. أخطئ. أو أرفض شكل الصفحة. فأبدأ من الأول. تأخذ المسودات هيئة الصفوف المتراصة. المتلاصقة. أضيف إليها. وليس العكس.. تحولت الملفات الكثيرة إلي ملفين أو ثلاثة. وبدأت في طبع ما أري اكتماله. واتهمني الأصدقاء والنقاد دون أن يعرفوا السبب أني غزير الإنتاج!
المهم أن الجلسة لم تتبدل. أظل جالساً بالساعات. تخرج زينب في الصباح. وتعود قبل المغرب. تراني في جلستي أمام الكمبيوتر. أنقل ما كتبته. أو أكتب مباشرة. أو أراجع معلومات الإنترنت. أو أرد علي رسائل الأصدقاء.. أشعر حين أهم بالتحرك داخل البيت بآلام في أسفل الظهر. وفي الساقين. اعتبرت ما يحدث أعراضاً طارئة. ولم أبدل جلستي بيدي الورق والقلم علي طاولة السفرة. أو أمام الكمبيوتر علي المكتب.
ذات عصر. أذكره جيداً. كنت في محطة سيدي جابر. أنتظر قطار القاهرة. أحسست بما يشبه النيران تتصاعد في ساقي اليمني. تجذبني الساق إلي أسفل. فأوشك علي القعود. تحاملت علي نفسي. حتي ودعت صديقي الدكتور محمد زكريا عناني والروائي منير عتيبة. وصعدت إلي القطار.
ظل الألم علي حاله بعد أن وصلت القاهرة. تعاطيت ما نصحني به الأصدقاء من مسكنات. لكن الآلام ظلت علي صراخها.
نصحني صديقي أنس الفقي رئيس هيئة قصور الثقافة آنذاك. ثم وزير الإعلام فيها بعد أن أعرض نفسي علي شقيقه الطبيب المعتز بالله الفقي. طلب أشعة. وأجري فحصاً دقيقاً.ثم كتب روشتات. كادت لكثرتها تعيد قرحة المعدة. لولا أنه أوقف النزف بدواء جديد.
* * *
الحلقة الثانية السبت القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.