الخريف له مفهوم واحد.. وهو بداية النهاية.. نهاية العمر لكل الكائنات.. إنسان أو حيوان أو نبات.. وللخريف مشهد واحد نتذكره وهو سقوط أوراق الشجر مع نهاية فصل الصيف.. الفصل الأكثر سخونة في فصول العام الأربعة.. الفصل الذي ينال من أوراق الشجر فتموت وتتساقط هشة ومتأكلة. وبرغم هذه التشبيهات إلا أن هناك فارقاً كبيراً بين خريف الدنيا وخريف عمر الإنسان.. فخريف الدنيا هو مشهد تتبدل فيه الصورة من أطلال ومخلفات الصيف الحارق إلي صورة مشرقة مع دخول فصل الشتاء.. نخرج من بين أوراق متهالكة بلا رائحة أو لون أو فائدة إلي أيام أكثر إشراقاً.. تبدأ الحياة في البناء بعد الفناء.. عندما يأتي الخريف تشعر أن كل الأشياء بدأت تأخذ طريقها نحو التبديل والتغيير للأفضل.. وبالفعل تمر أيام الشتاء لنستقبل أيام الربيع.. أيام الصبا والجمال.. أيام الشباب والحيوية. أما خريف العمر.. فإنه إذا جاء فقد جاء ليكتب كلمة النهاية.. جاء ليأخذ ورقة بلا عودة.. تسقط الأوراق تباعاً فتصبح شجرة العمر عارية حتي تتآكل وتنتهي. وفي حياتنا وكلما مر بنا العمر وتخطينا مراحل الصبا والشباب نجد الأوراق تتساقط من حولنا.. نشعر جميعاً أن النهاية تقترب من الجميع.. هذا وإن كان جهلاً إلا أنه واقع نشعر به.. فنهاية أي شيء يجب أن ننتظرها مع بدايته.. فنحن عالق بأذهاننا أن الموت للكبار فقط.. وننساه حتي نجد من سبقونا أو من هم في أعمارنا يرحلون. ونشعر بالهم والخوف كلما مات عزيز أو غال.. وما أكثرهم.. نعم ما أكثرهم.. ففي الأيام الأخيرة فقط سقطت من بيننا ورقتان من أجل وأطيب الأوراق.. الأولي العزيز الغالي.. أنقي وأطيب وأجمل ما عرفت في حياتي "أحمد سعد" الذي كان ضلعاً ثالثاً في معظم صداقاتي.. خاصة "الكورة والملاعب" مع شقيقي طارق عبدالمطلب.. أو في "الأهرام" مع الزميل المحترم صلاح رشاد.. أو في "الأخبار" مع حبيبي إبراهيم المنيسي. ومنذ يومين سقطت الورقة الثانية.. ورقة الحبيب "جمال المكاوي".. الإنسان الذي أحبه كل من عرفه.. أحب أمانته ونزاهته وحمرة الخجل التي كانت تكسو وجهه دائماً.. رحل الزميلان في هدوء كما عاشا في هدوء.. وتركا لنا الحزن والحسرة والدمعة الحارقة في الجفون. وهكذا ننظر حولنا لنري شجرة العمر تبدو شبه عارية من كثرة تساقط أوراقها.. ننظر حولنا دون أن نتعلم أو نتذكر أننا في النهاية ورقة علي وشك الرحيل لبارئها.. ورقة ستقف بين يدي الله سبحانه وتعالي للحساب.. ورقة ستكتب عليها أعمالنا.. فهل يدرك كل منا ماذا يكتب؟!.. وهل سيشعر بالفخر مما كتب أم لا؟!.. لقد صدق القائل: فلا تكتب بكفك غير شيء.. يسرك في القيامة أن تراه. اللهم ارحمنا واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.