كان مفترضاً أن أكتب هذا الأسبوع مقالتي الرابعة في موضوع "صناعة البهمية البشرية"، الذي يتناول قضية العدوانية البشرية، انطلاقاً من جريمَتَي "كترمايا" وما توضّحه هاتان الجريمتان من إجرام مُناظِر ومحتمَل بملابسات حياتنا الراهنة، وعلى أساس اجتهاد يوظّف بعض معطيات علم النفس في استكشاف شأن خطير كظاهرة العدوانية التي صارت دموية وجنونية في واقعنا المُمْعِن في التدهور. لكنني وجدت أمامي رسالة من شجرة، نعم شجرة، لم أستطع إرجاء نقل محتواها المُدهش، أو الذي أظنّه مدهشاً؛ فأخَّرتُ بهيمية البشر، وقدَّمتُ حديث الشجر! هي شجرة حقيقية تقع على بعد خطوات من بيتي، وفي الطريق الذي يمرّ به أولادي وأولاد الناس إلى مدارسهم في هذا الشارع؛ لهذا لفتت نظري بشدة، ومكثت مرعوباً من علامات خطورة تلوح حول منبت أكبر فروعها؛ فثمّة حلقة من مظاهر التسوّس وعلامات النخر السطحية تحيط بهذا المنبت، وتوحي بأنه قائم على فراغ ومُنذر بالسقوط برغم أنه لم يمت تماماً وظلّ يورق قليلاً، وريقات ناحلة الخضرة تتناثر حول امتداده الثقيل والمُتشعِّب. وكنت أوصى أولادي بعدم المرور تحت هذه الشجرة، ولا الوقوف في ظلها، كما أوصيتهم بنقل تحذيري إلى أصحابهم وزملائهم. وظلّت هذه الشجرة بفرعها المُعلَّق المُنذر بالسقوط، تستدعي إلى خاطري كلما رأيتها في طريقي ذكرى النهاية العبثية لشاعرتنا الكبيرة الجميلة "ملك عبد العزيز"، التي سحقتها شجرة من أشجار حي "المنيل" العتيقة منخورة الجذور؛ بينما كانت تقف تحتها في انتظار سيارة تاكسي تقلها من بيتها إلى وسط البلد. مأساة تكاد تكون رمزية في تراجيديتها ذات الإيحاءات والظلال، وكنت مرعوباً من تكرارها قرب مسكني. فجأة، وكأن كل مقدمات التهالك السابقة لم تكن تكفي لتوقُّع ما حدث، وجدت فرع الشجرة الكبير وقد هوى مقصوفاً من منبته، ومطروحاً على الأرض في مساحة كبيرة حتى كاد أن يغلق الشارع، والحمد لله لم تترتب على سقوطه إصابات بشرية؛ لأنه سقط في الليل، ولم تتجاوز خسائر سقوطه غير سحق مقدمة سيارة جديدة لأحد سكان العمارة المقابلة، اعتاد أن يبيتها بحذاء الرصيف تحت الشجرة. وكان أكثر ما لفت الأنظار في الحادثة هو الفجوة العميقة من النخر التي كان يتعلق فوقها الفرع الكبير الثقيل الذي هوى. فجوة فغرت قلب الجذع بما يشبه مغارة ذات جيوب عميقة، وكانت تختبئ في أغوارها أطياف من القوارض والحشرات وطيور الظلام، عشٌ للبوم بفتحة تداريها ثنية الفرع العليا كان يشغل أحد جيوب هذه المغارة، وكان البوم أول من انطلق من مكمنه بعد انقصاف الفرع وانكشاف المستور، بعد ذلك استمرّت الفجوة تلفظ خباياها من جرذان لم تنقطع مشاهدتها حتى اليوم الثالث بعد وقوع الحادث، كما خرج ثعبان يقطع بوجود غيره، ولم ينقطع نزوح طوابير من حشرات دقيقة قاتمة لم تكف عن الخروج من جوف الحفرة وكأنها تأتي من نفق مظلم طويل غامض وبلا نهاية! هالني أن الفرع الكبير الثقيل المعتلّ الذي هوى، كان ستاراً أخفى تحت إبطه كل هذه الرزايا والبلايا من طيور وحيوانات وحشرات الظلام، مغارة حقيقية لكائنات الليل و"نخْوَرة" الحياة رأيت فيها مُعادلاً موضوعياً لما نحن فيه، وكان سقوط هذا الفرع بمثابة كشف فادح عن هول الخراب المستخبِّي، والذي هو لا بد أفظع مما نتصور ومما تتبيّنه الأبصار أو تدركه المخيّلات. وكتبت منذ عامين عن هذه الشجرة في جريدة الدستور مقالاً عنوانه "شجرة البؤس"، وكأنني أرى في بؤسها بؤس وطن بحاله. كان ما تبقى منها بعد أن هوى الفرع الميت المتظاهر بالحياة، يعمِّق الإحساس ببؤسها فعلياً؛ فقد تعرّت من مظهرها الوهمي السابق، والموحي بضخامتها ورسوخها، وصار ما تبقى منها يصدم بالضآلة والهوان؛ مجرد جذع مائل من فرط ما تحمَّل ثقل الفرع الذي هوى، جذع بكتف مقطوعة منخورة، وكتفه الأخرى بقِيَت تحمل فرعاً وحيداً ضئيلاً متوقف النمو ناحل الأغصان، وريقاته الدقيقة قليلة وتوشك أن تكون صفراء، وزهوره شاحبة وفاترة وقليلة وهشَّة؛ بينما ينبغي أن تكون في موسمها نارية الحمرة، كبيرة ووفيرة كما في أى شجرة "بوانسيانا" في عز الصيف! نسيت "شجرة البؤس" هذه طويلاً، ربما لاعتياد منظرها القميء، وربما لأن تساقط الأوراق عن مثيلاتها من أشجار "بوانسيانا" مجاورة خلال فصول الخريف ثم الشتاء جعلها غير ملفتة كونها صارت هيكلاً جافاً بين هياكل أشجار عارية في صفّها على الرصيف. ولم أنتبه لجديدها مع بدايات الربيع التي يورق فيها هذا النوع من الأشجار، أوراق دقيقة خضراء كنقاط منمنمة حول خطوط ريشات كبيرة. لكنني مع تقدّم الصيف بهرني منظر شجرة وارفة، سخيّة الخضرة الزاهية، ونارية الزهور الحمراء الكبيرة الغزيرة الهفهافة، شجرة خيمية حقيقية تتسع مظلتها الخضراء المكللة بالحمرة فتفرش بساطاً واسعاً من الظلّ تحتها، ولعل هذا الظلّ هو الذي جعلني أنتبه إليها وأرفع بصري لأتأمل نضارتها وفتوّتها مذهولاً وغير مصدق أن تكون هي نفسها الشجرة التي كانت والتي أسميتها "شجرة البؤس"؟ لم أصدق أبداً أنها هي، وتصورت أن سكان العمارة الضخمة الفاخرة التي تقع الشجرة في الرصيف المحاذى لها، أو حتى مسئولي السفارة المواجهة لها عبر الشارع، هؤلاء أو أولئك، تصورت أن يكونوا تعاونوا في شراء شجرة مكتملة النضج غرسوها بمكان الشجرة البائسة بعد اقتلاعها، سألت بعض سكان العمارة من اتحاد الملاك الذين لا يغيب عنهم شيء كهذا، وسألت حرس السفارة وبعض موظفيها، وأكدوا جميعاً أنها الشجرة نفسها، الشجرة التي كتبتُ عنها مُسقطاً بؤسها على بؤسنا. وفي ومضة اليقين الجديد، فسّرت ما حدث لاستعادة الشجرة عافيتها ونضارتها؛ فقبل سقوط الفرع القديم الثقيل شبه الميت وتغلغل نخر السوس تحت منبته، كان "النسغ" في أنابيب اللُبّ الصاعدة (النسغ: هو السائل الغذائيٌّ الذي يجرى في نُسُج النّبات لتَغْذيته)، وبفعل ضغط جدران الفجوة المنخورة على هذه الأنابيب، كان "النسغ" مزنوقاً ومخنوقاً، ويتسرب بالكاد ليحافظ على بقايا حياة الفرع المُعتل، ويمنح الفرع السليم الآخر قليلاً جداً من عصارة الحياة التي بالكاد تكفيه لمواصلة حياة هي أقرب إلى الموت. لكن بعد انقصاف الفرع الميت، وانكشاف الفجوة وتطهيرها بالنور والهواء، بدأت الفجوة تمتلئ رويداً رويداً بنسيجٍ حيٍّ جديد، استعادت معه أنابيب "النسغ" مرونتها وطلاقتها، واندفع "النسغ" صاعداً في دفقٍ سخيٍّ سعيد، يُنمي الفرع الوحيد الباقي، ويُغْني أغصانه؛ فتورق بخضرة زاهية كثيفة، وتتألق قممها بحمرة حارة لزهور كبيرة مفرحة. ببساطة، ووضوح، وبعد أن كادت الروح تبلغ الحلقوم من ثقل وإجرام ما نعيشه على يد حفنة من المنتفعين الشرهين عميان البصيرة ومتبلدي الشعور، وزمرة من المتشبثين بالسلطة تزويراً وقهراً وغيلة حتى رمقهم الأخير وخراب البلاد الأبدي، أقول: ها هي رسالة تبلغنا أن لا حياة ولا نضارة إلا بسقوط أعباء فروع الموات الثقال، واختفاء مغارات الظلم والظلمة. وهي رسالة بليغة وإن تكن بلا كلام، رسالة تنطوي على حنان رباني ومواساة من الخالق لخلقه المُتعَبين والحائرين ها هنا، رسالة أمل تؤكد أن النضارة يمكن أن تعود شرط أن تتخلص الحياة مما ينهكها ويثقل عليها ويُخربها ويدمرها ويُحيل قلبها إلى مغارات لكائنات النخر وغارات الليل ومناشير أسنان القوارض المسمومة. وهكذا وطننا الذي يتملكنا فيه اليأس من الحاضر والخوف من المستقبل؛ فهناك أمل في ازدهاره، ورجاء في استعادة خضرته وجماله وتوهج إبداع أبنائه، هناك أمل في عودة ظله الحاني ليتّسع لجميع ساكنيه بالعدل والحق والعلم والعقل والحرية الصادقة؛ لكن بشرط، والشرط واضح أيضاً كما تقول رسالة الشجرة: أن يختفي من حياتنا تسلّط ونفوذ وجهالة ومحسوبية وتزوير ولا شرعية وجمود هذه المنظومة الفاشلة، التي طال أمد إدارتها السيئة للأمور في بلادنا ولا تزال تطمع في المزيد؛ فباتت خطراً مؤكداً على الأرض والنهر والبحر والهواء والناس والمستقبل؛ بل حتى على نفسها وعلى أبنائها وأحفادها ومنتفعيها وتابعيها. وهي خطر لا شك فيه، إن استمرت، على الفرصة الأخيرة للإنقاذ والنجاة. ما أتعس بؤس اليأس، وما أبهج تحليق الرجاء! عن الشروق بتاريخ 27 مايو 2010