يعرض عبدالحميد السحار لطفولة النبي صلي الله عليه وسلم. ونشأته. من خلال قراءات متعمقة. ومناقشات موضوعية لتباين الآراء. ومحاولة نفض ما ينبو عن الحقيقة التاريخية. ويقترب من الخرافة والاسطورة. أو يعاني دس الإسرائيليات. إنها الحيرة نفسها التي واجهها كل من سبقه من الانبياء. يرتمي - وحيداً - في أحضان الكون. يتهلل بفرح روحي. وينطلق حراً طليقاً من سجن جسده. ليهيم فوق السحاب. بل ويسمو إلي ما فوق السماء. يرده الألم إلي ذاته. يتيح له معاناة الوحدة علي حقيقتها. يجد في الوحدة ملاذاً آمناً يمكنه من أن يكشف عمق حياته الباطنية. وأن يظل - لفترات طويلة - منطوياً داخل شرنقة صمته. يتأمل ويتدبر ويفكر. يتصل بالملكوت الأعلي. تأهباً - دون أن يعرف - لذلك اليوم الذي يواجه فيه الدنيا كلها ليبلغ رسالات ربه. رأي أمه تموت أمام عينيه. ورأي جده يموت كذلك. وانشغل الميلاد والموت. وبما بعد الموت. تيقن أن الإنسان يولد وحيداً. ويموت وحيداً. وليس لأحد أن يعيش عوضاً عنه. أو أن يموت عوضاً عنه. هذه حقيقة. ولكن: ماذا بعد الموت؟ هل خلق الإنسان عبثاً؟ تناوشته الأسئلة في انشغاله بالمعاني التي تحيره. ظل محمد علي صلة مباشرة بالعالم. يحاول ببصيرته النفاذة أن يغوص في عمق الأشياء ليكتشف ما بها. وألحت عليه الرغبة في أن يصبح - ذات يوم - شعاعاً يضيء أفئدة أهله في مكة. هؤلاء الذين أحبهم. فهو لا يتقبل الواقع الذي يحيون في إسار عاداته وتقاليده وخرافاته. وما ينبض به من ظلم وجشع وغياب للعدل. لم تكن الصورة واضحة في نفسه - كما يقول الكاتب - بل كانت لاتزال إحساسات غامضة وأمنيات لم تتبلور بعد في تصميم ذاته. إنها بذرة صالحة غرست في أغواره. وقبس من نور النور أضاء ظلام وجدانه. وهو حريص علي أن يتعهد تلك البذرة. وعلي أن يفتح كل نوافذ باطنه. لتسطع جوانحه بالنور. ويفيض علي الكون من حوله. كان مفتوح العين والوجدان والعقل. يرقب تصرفات الناس. يفكر ويتدبر ويتأمل ويحلل دوافع النفوس. لم يكن يقيس الأفعال بالعرف والتقاليد وموروثات قومه. وإنما كان يزن كل فعل بما يجب أن يكون. نفسه متعطشة لأن تهيم في العالم كي تروي ظمأها إلي المعرفة. وتزيد كنوز عواطفها ثراء. واتسعت تأملاته وعلت. تتجاوز الحاضر. بل وتتجاوز العالم المحدود الذي يتحرك من حوله. ليسمو إلي ما فوق الواقع. إلي ما وراء الطبيعة. إلي روح الروح. داخلته رغبة في النزوع إلي الحقيقة الخالدة. يرتفع إلي ما وراء التجربة البشرية الناقصة. يتصل بالخير الأسمي. يقف منه موقف العبد من المعبود. أهمل ما كان يشغل كهنة قومه وسحرتهم من المتاجرة بالمشاعر الروحية للناس. وتمني أن ينفذ إلي جوهر الحقيقة. ويغوص في أعماق السر الإلهي. بدا له الجوهر الأسمي في كل ما تراه عيناه. وما يتناهي إلي سمعه من أصداء الحياة في الوجود. وأحس بنشوة تنبعث من صميم إحساسه بمن ليس دونه منتهي. ولا وراءه مرمي. وخر ساجداً. مهللاً بالفرح لعظمته. وإن ظلت روحه في سجود دائم لا تعرف قياماً. ملأه السرور لأنه عرف الخير المطلق. والعدالة المطلقة. والحق المطلق. وينهي عبدالحميد السحار هذا الموقف التأملي بالقول: إن الوجود شيء أكثر مما نراه ونحسه ونلمسه ونشمه ونتذوقه أو يتخيله العقل. إنه الطبيعة وما وراء الطبيعة. إنه الكون وروح الكون. إنه العالم والله. وإن قلب الحقيقة إرادة اله. وإن محمداً ليحس أن الله يهبه قلباً جديداً ناصعاً. كلما هام في ملكوته وفكر فيه. للكلام بقية