قدم أحد أساتذة اللغة بجامعة أم القري السعودية رئيس مجمع اللغة العربية علي الشبكة العالمية الدكتور عبد العزيز الحربي اقتراحا بتغيير مقام إبراهيم من مكانه الحالي في الحرم المكي وإعادته إلي نهاية صحن المطاف. وعلل ذلك بحسب صحيفة مكة بأن وجود المقام في وسط صحن المطاف يسبب كثيرا من الزحام للطائفين الذين قدمهم الله سبحانه وتعالي في هذا المكان علي القائمين والعاكفين والركع السجود مشيرا إلي أنه لا يوجد أي نص شرعي لا يجيز نقل هذا المقام كما أنه في الأساس كان مكانه بجوار الكعبة المشرفة مما يعني أن هذا المكان ليس مكانه الصحيح. الأسئلة التي تفرض نفسها .. هل يجوز نقل مقام إبراهيم من مكانه وهل يوجد نص شرعي يمنع ذلك أو يجيزه وما النتائج المترتبة علي ذلك ؟. توجهنا بهذه الأسئلة لعلماء الأزهر وأجابوا عليها في هذه السطور : الدكتور طه حبيشي أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر يقول إن في الفقه الإسلامي مسائل يعززها الدليل .. وللدليل طرق وصيغ منها هذه المصلحة التي يسمونها بالمصالح المرسلة .. وفي الإسلام والفقه الإسلامي علي الخصوص مسائل لا تخضع للاجتهاد ومن بينها هذه المسائل التي تتصل بالحج والعمرة .. ففي الحج مسائل شرعية لا تخضع للعقل إلا بمقدار ما يستوعبها ولا تخضع لإقامة الدليل عليها إلا بمقدار أن نقول "خذوا عني مناسككم" والصحابة رضوان الله عليهم مصدر من مصادر التشريع فيما اتفق عليهم رأيهم. من أصل ذلك نقول إن مسائل الحج وقضاياه علي المحك هي من المسائل التعبدية لا يقال فيها بالرأي لأن الله عز وجل قد أراد أن نأتي إلي هذا المكان حاجين أو معتمرين غير خاضعين للعقل وإنما نخضع في كل ما نأتي به ما ندع لله عز وجل .. ومن أمثلة ذلك تقبيل الحجر الأسود واستلامه وقول عمر في ذلك "لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك فأنت حجر لا تضر ولا تنفع". ومن ذلك أيضا مقام إبراهيم .. فمقام إبراهيم موضوع في مكانه برأي عمر ولم يعترض الصحابة علي هذا المكان الذي وضعه فيه فأصبح منهم إجماعا والعلماء قد حددوا المسافة بين المقام وبين الحجر وسجلوها في كتبهم ولم يشأ أحد منهم أن يشير بنقل المقام من مكانه لأمرين لأنه ليس في هذا الزمان من نعتبره مصدرا من مصادر التشريع والأمر ليس قابلا للاجتهاد .. والثاني أن الله عز وجل قال "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي" ونحن نحتاج في تطبيق هذا النص إلي أن تكون هناك مساحة نستطيع فيها بجموعنا الغفيرة أن نصلي فيها بين المقام والكعبة وهو احتياج من احتياجاتنا. أضاف د. حبيشي ومع ذلك فلو أننا نظرنا إلي المسألة نظرة موضوعية لتبين لنا بما لا يدع مجالا للشك أن القضية مطروحة لمجرد الجدل فأنا لا أستطيع أن أقول إن مقام إبراهيم يشغل مساحة تعوق المطاف وتضايق المارة .. فالمساحة التي يمكن للمقام أن يشغلها دائرة قطرها لا يزيد عن المتر إلا قليلا عند القاعدة فما الداعي إذن لكي نطرح مثل هذه القضايا الجدلية في أيام الأمة تشرذمت فيها بما لا يحتاج إلي فتح أبواب جديدة للانقسام إلا أن يكون صاحب هذا الرأي يريد أن يقف علي منارة حتي يراه الناس وتلك مسألة طلب رضا الله أفضل منها ولنترك أعمال الحج بعيدة عن الجدل والمراء وإلا لأوقفنا الناس يوم عرفات علي جبل آخر لتخفيف الزحام والحفاظ علي الأنفس وإلا لاستجبنا لدعاة الرأي فيما يخص الأوقات الذين قالوا ما الداعي لأن يكون الوقوف بعرفات في يوم واحد هو يوم التاسع من ذي الحجة .. ولماذا لا نوسع علي المسلمين لنحافظ علي أرواحهم فلنجعل وقفة عرفات حائرة في الشهر كله وهو شهر من ميقات الحج الزماني. إني أناشد كل عاقل أن يرفع عن الأمة العصا التي تلجئهم إلي الخلاف فقد امتلأنا خلافا حتي أصبح "إيهاب" الأمة - أي جلدها - لا يسع خلافا جديدا. نص قرآني محكم د. أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر : قال الله عز وجل "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي" وجه الدلالة من هذا النص القرآني المحكم أن الخطاب يتوجه للطائفين حول الكعبة أن يؤدوا صلاة ركعتي بنية ركعتي الطواف في مقام إبراهيم عليه السلام .. ولفظة "مصلي" في اللغة العربية تدل علي موضع الصلاة ففي قواعد العربية هي اسم مكان وقال الله تعالي "لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه" فوجه الدلالة من هذا النص أيضا أن معالم المناسك توقيفية مثل مواقيت الإحرام الزمانية والمكانية وأعلام الحرم وموضع الكعبة وموطن السعي بين الصفا والمروة وحدود عرفات ومني وقد دل الشارع الحكيم بقوله وفعله صلي الله عليه وسلم علي المواضيع والمواقف. وعليه فلا يجوز شرعا المساس بهذه المشاعر المقدسة لا بالتبديل ولا التغيير ولا المحو ولا الإزالة .. وللأسف هذه الفكرة وجدت منذ قرابة 40 سنة أو تزيد وتصدي لها مولانا الإمام الشعراوي رحمه الله ورفع توصية لأولي لأمر بالسعودية وقتها مدعمة بالحجج والبراهين وتمت الاستجابة بإبقاء مقام إبراهيم. قرينة قوية د. رأفت عثمان أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء يؤكد أن المسلمين توارثوا هذا الوضع ولم يوجد اعتراض من أحد في عصر الرسول بحسب ما نعلم فلو كان هناك شك في المكان لظهر علي ألسنة كثير من العلماء في كل العصور وهذا قرينة قوية علي أن مكان مقام سيدنا إبراهيم لا يجوز نقله. أشار إلي أن الشيخ الشعراوي رحمه الله عندما كان يعمل أستاذا بكلية الشريعة في مكةالمكرمة سمع عن اعتزام السلطات السعودية نقل مقام إبراهيم من مكانه إلي الوراء ليفسحوا المطاف وبالفعل تم تشييد المبني الجديد المقرر نقل المقام إليه وتحدد اليوم أيضا ولكن رأي الشعراوي أن ذلك مخالف للشريعة فأرسل برقية من خمس صفحات إلي الملك سعود رحمه الله وضح فيها الرأي الفقهي والتاريخي في هذه المسألة فاستجاب الملك أصدر قرارا بعدم نقل المقام ووضعه في قبة من الزجاج غير قابل للكسر كما اقترح الشيخ الشعراوي. أضاف د. عثمان أن واقعة السيل الشهيرة التي وقعت في عهد عمر دليل آخر علي عدم جواز نقله فعندما جرف سيل شديد حجر المقام من مكانه وذهب به بعيدا جاء عمر رضي الله عنه فزعا من المدينة وجمع أصحابه وسألهم : "أناشدكم أيكم يعرف موقع هذا المقام في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم؟" فقام رجل وقال : أنا يا عمر .. لقد أعددت لهذا الأمر عدته .. لذلك قست المسافة التي تحدد موضع المقام بالنسبة لما حوله .. واستخدم هذا الرجل الحبل في قياس المسافات وبالفعل أرسل عمر في طلب الحبل من بيت الرجل وتأكد من صدق كلامه وأعاد المقام إلي مكانه.. ولو كان بالإمكان نقل المقام لوضعه عمر في أي مكان يراه مناسبا ولكنه أراد أن يبقي الوضع كما هو عليه من عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم.