تعرض النوبيون لأربع هجرات متتالية. خلفت وراءها جروحاً غائرة ولم يفلح الزمن في علاجها حتي الآن كما لم يستطع الكثير من النوبيين نسيان بلادهم القديمة مسقط رأسهم واحتضنت ذكريات طفولتهم وريعان شبابهم ومازالت قلوبهم معلقة ببلاد الذهب حتي بعد غرقها تحت مياه بحيرة ناصر نتيجة إنشاء السد العالي وخزان أسوان. شباب النوبة يرغبون في العودة للبلاد القديمة ايضاً رغم انهم لم يروها ولكنهم نسجوا بخيالهم قصصاً جميلة حول روعة النوبة عبر حكايات وقصص الآباء والأجداد والتي يصفها البعض بأنها "الفردوس الأرضي" لدرجة انه لا يكاد يخلو بيت نوبي حالياً في مركز نصر النوبة من صورة أو رسم للقري القديمة. يحكي وحيد محمد يونس الباحث في الشئون النوبية قصة "تهجير النوبيين" والتي يصفها بأنها "نكبة النوبيين" كما جاء علي لسان النحاس باشا رئيس وزراء مصر في حقبة الثلاثينيات ويقول أن فكرة انشاء خزان أسوان أو سد أسوان جاءت لكي تقي مصر من شر غوائل الفيضانات المدمرة التي تدمر جروف وجسور النيل بطول وادي النيل والدلتا حيث تم إجراء الدراسات لهذا الخزان جنوبأسوان في منطقة الشلال الأول واعتمد الخديو توفيق مشروع إنشاء خزان أسوان بعد إجراء الدراسات المساحية والجيولوجية في عام 1890 ولكن عقب وفاته في 1982 وتقلد الخديو عباس حلمي خديوية البلاد شرع في تدبير الأموال والمهندسين والفنيين الايطاليين وكذلك التنسيق مع البنوك الايطالية التي سوف تمول المشروع وتطلب الامر يبدأ العمل في انشاء خط السكة الحديد من جرجا إلي أسوان وصولا إلي الشلال مرورا بقرية الجزيرة التي يوجد فيها ورش السكة الحديد والورش الفنية لمهندسي خزان أسوان والتي مازالت باقية حتي اليوم بجوار دار رعاية البنين في كورنيش النيل بأسوان حاليا. اضاف إنه بمجرد الانتهاء من مد خط السكة الحديد إلي منطقة الشلال في عام 1898 شرع الخديو عباس حلمي في وضع حجر الأساس وتنفيذ خزان أسوان في هذه المنطقة التي كانت تعج بغابات النخيل والسواقي والشواديف والسكان واضطر الأهالي المتواجدين في منطقة العمل في النزوح شمال موقع العمل والإقامة في مناطق الكرور وغرب سهيل وغرب أسوان في أولي الهجرات القسرية التي واجههت النوبيين وذلك بدون ان يحصلوا علي أي تعويضات أو مساعدات من الدولة وقتها وذلك علي الرغم من أن الخديو عباس حلمي حرص علي انشاء فندق كتراكت في ذلك الوقت علي مستوي أوروبي لاستقبال الضيوف الذين سيشهدون افتتاح خزان أسوان بدون أن يهتم بمساعدة المتضررين من انشاء الخزان. اضاف الباحث النوبي ان النكبة الثانية التي تعرض لها النوبيون كانت عند التعلية الأولي لخزان أسوان في عام 1912 بعد أن أ صبحت السعة التخزينية للخزان 5 مليارات متر مكعبا حيث اضطر سكان 6 قري جديدة إلي الهجرة عقب غرق المنازل وهي قري: السبوع. والمالكي. وكروسكو. وشاتورما. والريقة. وسنقاري. ووقتها ثارت الجمعيات الاثرية في أوروبا مرة ثانية عقب غرق معبد فيله بالكامل علاوة علي غرق عشرات المعابد الصغيرة التي كانت علي النيل تحت مياه التخزين لذلك قررت الحكومة وقتها طمأنه هذه الجمعيات ووعدت بعدم غلق بوابات الخزان بالكامل لتفادي غرق معبد فيله وسبق ذلك صدور مرسوم من الخديو في عامي 1905 و 1906 بمنح تعويضات عن نزع الأراضي التي ستغمر تحت مياه الخزان ولكن لم يطبق هذا المرسوم بسبب عدم اجراء حصر لهذه الأراضي. واشار إلي ان حكومة الوفد في عام 1928 بدأت في التعلية الثانية لخزان أسوان وانتهت منها في 1933 وغرقت لسبب هذه التعلية 15 قرية كاملة هي "الدكا. وقورته. والسيالة. العلاقي. والمحرقة. وجرف حسين. والمضيق. والديوان. وقته. وتوماس. وعافية. وأرمنا. وتنقالة. والجنينة والشباك" وفي هذه الفترة أنشأ الملك فؤاد عمودية الشلال لاستيعاب الهجرات النوبية النازحة نتيجة هذه التعلية واضطر الأهالي إلي العيش في عدة مناطق بمدينة أسوان في الشيخ فضل وبنبان دار السلام والطويسة والغابة الصغيرة والكبيرة بمركز دراو وفي الرديسية والرمادي بادفو وفي الطور بالأقصر ونجع الكنوز في قناة علاوة علي منطقة الفرز في السويس وعابدين وبولاق أبو العلا والسبتية والساحل بالقاهرة ومنطقة العطارين في الإسكندرية النائب النوبي عبدالصادق عبدالحميد في برلمان عام 1933 قال إن وزير الري وقتها محمد شفيق رفض الانتظار سنتين حتي يتم حصر أراضي النوبيين التي ستغمرها التعلية الثانية من الخزان ثم ترحيل السكان إلي وادي السيالة الذي يقع فوق منسوب مياه الخزان إلا أنه رفض هذا الاقتراح وتم تشريد النوبيين شمالا بدون تعويضهم بأرض زراعية بديلة وإعطائهم تعويضات مالية هزيلة قدرت بثلاثة جنيهات للمنزل وخمسين قرشا للنخلة وهي تعويضات لا تكفي لاعادة انشاء قري جديدة. وأوضح الباحث النوبي وحيد يونس ان فترة الثلاثينيات حظيت باهتمام الأدباء النوبيين فيما بعد الذين حرصوا علي إظهار الآثار الاجتماعية والنفسية التي عاني منها النوبيون بسبب التعلية الثانية للخزان حيث كتب الأديب محمد خليل قاسم روايته الشهيرة "الشمندوة" عن هذه الفترة علاوة علي كتاب اخرين امثال حسن نور ويحيي ومختار وإدريس علي وإبراهيم شعراوي ليوضحوا فداحة هذه النكبة التي ترتبت علي غرقة بلاد النوبة في تلك الفترة. أضاف أن النكبة الكبري للنوبيين حدثت حينما قررت حكومة ثورة يوليو إنشاء السد العالي للاستفادة من مياه النيل لاستزراع 2 مليون فدان ومد البلاد بالكهرباء اللازمة لكافة مناحي الحياة الحضارية وعلي الرغم من القيمة العالية المستفادة من انشاء السد العالي إلا أن الأثر الذي ترتب عليه كان فادحا بالنسبة للنوبيين الذين غرقت بلادهم بالكامل تحت مياه بحيرة السد العالي وانتهي الفدروس الأرضي للنوبيين إلي الأبد وتم تهجير النوبيين إلي أرض قاحلة في كوم امبو كان يطلق عليها اسم "وادي الجن" وبدلا من ان يتم تهجير النوبيين إلي الجنة الخضراء وفقا لوعود المسئولين تم تهجيرهم إلي الجحيم الأرضي وفقا لرأي معظم النوبيين الذين تم تهجيرهم في ذلك الوقت لدرجة أن هناك أغنية شهيرة تم تزليفها بهذا المعني حيث اكتشف النوبيون أن الوعد بالجنة الخضراء انتهي إلي جهنم الحمراء ولم يجدوا العدد الكافي من المنازل لاستيعاب كافة المهجرين ولم يجد 8 آلاف مغترب مكاناً لهم في عام 1964 وهناك قري لم تكن قد بنيت بعد منها علي سبيل منازل قرية أبو سمبل حيث تم بناء منازل في شارعين فقط من جملة 20 شارعا واضطر السكان إلي الاقامة في ضيافة اهالي قرية توشكي المجاورة لهم .