النوبة أو بلاد "الذهب" أو " كوش"، أسماء عديدة لمكان واحد وقضية واحدة، تأبى ملامحها أن تطمس بمرور الوقت، تضرب جذورها أعماق التاريخ، يتوارث أبناؤها جينات أقدم حضارة عرفتها البشرية ، بيوتهم الأسمنتية وشوارع القرى الرملية وحياة الصحراء الجافة خالية المرافق والخدمات لم تكن بيتا ولا وطنا لأصحاب القلوب البيضاء ذات الوجوه السمراء ،وظل حلم العودة لبيوتهم القديمة على ضفاف النيل التي اجبروا قسرا على تركها قائما مقام الروح حتى بعد أن تفرقت العائلات و الأحلام بين الشمال والجنوب. تغيرت الفصول في بلاد النوبة ولكن الانتظار واحد، معالم أربعة وأربعون قرية نوبية ممتدة من الشلال الأول وحتى الشلال الثاني جنوبأسوان بطول نهر النيل من قرية "دابود" في الشمال وحتى قرية "أدندان" ،اختفت تحت مياه بحيرة ناصر وقبلها خزان أسوان ، وضاعت حضارة وتراث لم يسبق من قبل وتفرق الأهل والأحبة، وعاشت 100 ألف أسرة تهجيرا جماعيا لم تشهده مصر. كانت بداية هجرة أول نوبي مع بناء خزان أسوان عام 1902 الذي ارتفع معه منسوب المياه خلف الخزان ليغرق 10 قري نوبية بمنازلها وزراعاتها وأراضيها، وفي زيادة ارتفاع خزان أسوان الأولي عام 1912 غرقت 8 قري أخرى، كذلك في زيادة الارتفاع الثانية عام 1932 غرقت 10 قري نوبية وبقيت 11 قرية نوبية مهددة بالغرق. جاء الفصل الأخير ليشهد الهجرة الرابعة لأبناء بلاد الذهب عام 1962 عند بناء السد العالي ،وتم ترحيل النوبيين ونزع ملكياتهم قبل 15 يونيو 1964 ليتم تحويل مجري النهر تمهيدا للبدء في إنشاء السد العالي، وكان آخر القرى التي تم تهجيرها هي قرية "أبوحنضل" والتي استمر تهجيرها 244 يوما منذ أكتوبر 1963 إلي يونيو 1964. خسر النوبيين الكثير من التراث والعادات و الممتلكات والأرواح بسبب عشوائية النقل والترحيل وتم تهجيرهم لهضبة كوم امبو وإسنا في منازل تشبه بيوت الإيواء متكدسة ومتلاصقة لا تتناسب مع طبيعة النوبة القديمة، التي تنقسم لثلاث فروع ,ففي الشمال كان يقيم "الكنوز" ويقيمون حاليا في قرى "البر الغربي " ومازالوا محتفظين بالطابع النوبي في العادات والتقاليد وشكل البيوت القديمة وفى الوسط كان يقيم العرب الذين ينحدرون من أصول عربية وفى الجنوب يقيم "الفدجة "ويقيم أغلبهم حاليا في مركز" نصر النوبة" في قرى على شكل نصف دائرة من "بلانة" حتى" كلابشة". وهاجر النوبيون رغما عنهم لمناطق غير صالحة للحياة الأدميه ،ومساكن مصابة بالتصدعات،و نقص للخدمات كالرعاية الصحية و التعليم ،وكذلك المرافق كمياه الشرب والصرف الصحي ،وقامت الدولة بعمل خطة إحلال وتجديد لتلك المساكن ولكنها لم تسفر عن أية نتائج رغم عدم توقف الخطة إلا أن الأحوال تزداد سوءا. حاول النظام السابق بعد أكثر من 40 عاماً من النسيان تخصيص مساكن وادي "كركر" ، حيث تم تشكيل لجنة عليا من وزارات الري والبيئة والإسكان والزراعة وهيئة تنمية بحيرة ناصر والمحافظة بإجراء المعاينة والرفع المساحي للموقع المقترح لإنشاء القرى النوبية الجديدة ، وقد تمت الموافقة المبدئية علي تخصيص مساحة 10 ألاف و400 فدان بمنطقة وادي كركر على ضفاف بحيرة ناصر للنوبيين غير المقيمين بواقع 10 ألاف فدان كتعويضات لأراضيهم قبل التهجير مع تخصيص 400 فدان لإنشاء 4721 بيت ريفي، وتم بالفعل إنشاء ثماني قرى بوادي كركر أربعة منهم تم بناؤها من قبل الجيش والباقي من قبل شركة حسن علام للمقاولات. ورصدت " البديل" رحلة أهل النوبة من جنة النيل والطبيعة الخلابة إلى جحيم الصحراء، ومعاناتهم في قري التهجير، وحلم العودة إلى ضفاف النيل بجوار بحيرة ناصر. وقال الحاج عبد الله ، عمدة قرية" ادندان" ، نصر النوبة ،أنهم يعانون من ارتفاع منسوب المياه الجوفية ،مما يؤثر علي المنشآت والمنازل بالقرية ،لافتا إلي تأثير المياه علي الصحة العامة لأهالي القرية ،وكذلك الطرق والأراضي الزراعية . وأضاف،إن عدم وجود صرف صحي بالقرية زاد من حدة من الأزمة ، مشيرا إلي أن المكان غير مهيأ للحياة الادمية والمنازل مهددة بالانهيار . وأشار عبدالله ، إلي إن الكثير من النوبيين يتمنون العودة للنوبة القديمة علي ضفاف نهر النيل بجوار البحيرة ، والعودة حلم كل نوبي علي ارض مصر ، رافضا العودة التي أطلقتها حركة " كاتالة" النوبية لأجل الضغط على الحكومة لعودة النوبيين ، موضحا إن النوبيين لا يرحبوا بالعنف ، واصفا حركة "كاتالة" بأنها ليس لها تأثير أو رواج بين النوبيين، مؤكدا إن حق النوبيين في العودة اقر بها النظام السابق والحالي ، ولا ينكره أي مواطن مصري . وأوضح "الحاج حسين" من شيوخ قرية" ادندان" ، إن بيوت النوبة القديمة غير تلك المنازل الخراسانية المتلاصقة الصغيرة ، لافتا إن بيوت النوبة القديمة تبنى بالطين ، ويصل مساحتها إلي فدان علي الأقل ، والمنزل مكون من 10 غرف ، ويوجد بالمنزل طاحونة يطلقون عليها " الجاو" لتطحن الحبوب ، كما يوجد بيت صغير للحيوانات يطلق علية "الكرديجة" ، مشيرا إلي تبادل السلع الغذائية بين الأسر النوبية، وأضاف إن النوبة القديمة كان يوجد بها مدرستان فقط. وقال "محمود يوسف" من غرب أسوان ، إلي إن تملك الأرض أو المنزل للنوبي أمر صعب ، لافتا إلي إن منازل وارضي النوبيين منذ التهجير وحتى الآن هي حق انتفاع فقط ، وأكد إن القضية النوبية تعاني التهميش في حقوقهم ، مطالبا بعودة النوبيين لقراهم بالنوبة القديمة أسوه بما تم مع شعب السويس وبورسعيد بعد تهجيرهم عام 1967، وعودتهم عقب حرب1973. ونوه " علي أحمد عبد الله"من قرية "الدكة" ، إلى إن القرية تحتاج خدمات ومرافق ، موضحا إن القرية بها مدرسة واحدة فقط لا تتناسب مع الكثافة السكانية للقرية،لافتا إلي زيادة نسبة البطالة بالقرية ، فلا توجد أي تنمية لتوفير فرص عمل للشباب، وأضاف أن القضية النوبية مطروحة منذ مائة عام دون حلول. وأوضح "منصور حسنين " من قرية "السيالة" ، إن القضية النوبية تتلخص في التحكم الأمني ضد العودة ، مؤكدا إن قضية النوبة أمنية وليست سياسية ، لافتا إن الدليل علي ذلك إننا ندخل النوبة القديمة بتصاريح، مشيرا إلي انه ليس هناك أي إرادة سياسية لحل القضية النوبية. وقال " عبد الفتاح علي " من قرية " العلاقي"، إنهم يعانون من تقص حاد في جميع الخدمات كالصرف الصحي ، وانقطاع الكهرباء باستمرار ، وسوء حالة رغيف الخبز، وارتفاع قيمة فواتير الكهرباء والمياه ، مشيرا إلي إن القطاع الصحي يعاني إهمال تام ، لافتا إن الوحدة الصحية لقرية "العلاقي" تخدم 5 قري مجاورة ، رغم نقص الأجهزة الطبية والأطباء ، وأشار، إلي إن اغلب مدارس القرية تم بناءها بالجهود الذاتية ، مشيرا إلي الغياب الكامل لمؤسسات الدولة فلا توجد أي منشات حكومية بالقرية، وأوضح إن الدولة وزعت مساحات من الأراضي الزراعية لا تزيد علي 2 فدان للفرد الواحد لكن للأسف موزعه كل جزء في منطقة مختلفة. وقال "أحمد كاجوج" من "قرية " بلانة"، إلى انه منذ 114 سنة والفيضانات تضرب في قري النوبة ، إلي إن ضاعت جميع الأراضي في ظل صمت من الدولة المصرية ، لافتا إن معاناة النوبيين منذ عام 1898 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني أثناء وضع حجر الأساس لخزان أسوان ، مضيفا انه بعد بناء السد نقلوا النوبيين ارض وشعب إلي منطقة " وادي الجن"، مشيرا إلي طمس الهوية النوبية في مصر، وأكد إن الحضارة النوبية سبقت الحضارة الفرعونية بأربعة ألاف سنة ، موضحا إن ملوك الحضارة الفرعونية آخذو عن الحضارة النوبية رمز حورس و التاج الأبيض ، وأشار إلى أن النوبيين لم يعترضوا علي فكرة بناء السد العالي وتوفير الكهرباء وتنمية الدولة المصرية ، وأنهم قبلوا الهجرة والتضحية لأجل الوطن الأم. وأضاف "كاجوج" إلى إن اقتناعهم بالهجرة جاء بوعود مبالغ فيها كأنهم سوف ينقلون لمناطق أفضل وأجمل ، والمكاسب في النوبة الجدية أفضل ، لافتا انه حدث غب من جانب الدولة إن ذاك في التعويضات لأهالي النوبة القديمة ، مشيرا إن تعويض الشجرة المثمرة كان 20 قرش، وأنه تم صرف التعويضات علي دفعتين ، الأولي عام 1964 ، والثانية عام 1976. وأشار ، إلي إن الدولة هجرت النوبيين وألقت بهم في هذه المنطقة بحراسة فرد امن واحد يصارعون الحياة لأجل البقاء في هذا المكان ، لافتا إلي وفات معظم مواليد عام 1964 بسبب عدم وجود رعاية صحية . وقال " سعيد الشحات" من وادي كركر " إن القرية تعاني نقص في العديد من الخدمات كخطوط الموصلات ، والانقطاع المستمر للمياه ، لافتا إلي عدم وجود امن أو تواجد شرطي بالقرية ،مشيرا إغلاق تام لمكتب البريد والسنترال ، والوحدة المحلية ، وحتى المستشفي العسكري.. وأوضح ، إن التعامل مع القضية النوبية تأخر كثيرا ، مطالبا بان كل من يمتلك مستند مساحة يجب على الدولة إن تسلمه بيتا ، لافتنا إلي تعرض النوبيين للتعسف في حق استلام البيوت، وتسأل إلى متى ستظل القضية النوبية في طيات النسيان من قبل الدولة.