تجمدت دموعها وهي تتابع في ذهول مراسم تجهيز ثم دفن فلذة كبدها التي أصرت أن تضعها بنفسها في الثري بعد أن ضمتها إلي صدرها لآخر مرة. لم تسمع كل الأصوات التي تواسيها ولم تعرف كيف عادت إلي فيلتها الفارهة التي بدأت تشعر أنها أضيق من القبر الذي ودعت فيه ابنتها وأخذت سيول من التساؤلات تدق رأسها في عنف شديد.. أهذه هي النهاية أم أنها البداية للحياة الحقيقية جنة أونار.. ان لقاء الله آت لا محالة وكيف سنجيب علي الأسئلة التي لا يقدر علي الاجابة الصحيحة عليها سوي المؤمنين.. وهل هناك سبيل للتوبة وكيف سنبدأ صفحة جديدة وهي مازالت تعيش في عش الدبابير. بكت بحرقة كما لم يبك إنسان قط.. بكت علي ابنتها التي كانت أقرب أولادها الستة إلي قلبها وعلي الحياة المظلمة التي عاشتها في تجارة السموم ومن دمرتهم من شباب وهي تبرر لنفسها ان كل إنسان مسئول عن تصرفاته وانها لا تجبر أحداً علي إدمان المخدرات والكل يعرف أخطارها. أنار لها الله بصيرتها ورأت الحقيقة كما هي عندما هزتها صدمة موت ابنتها بعنف فأخذت قرارها الذي لا رجعة فيه وهو التوبة مهما كانت النتيجة. في البداية ظن زوجها والعاملون معها انه قرار مؤقت سرعان ما تتراجع عنه بعد أن تهدأ فهي المعلمة الكبيرة التي يعمل الكل تحت يدها وهي العقل المدبر والآمر الناهي في كل شيء. أدرك الجميع انها صادقة عندما حزمت حقائبها وأخذت أولادها الخمسة وغادرت فيلتها إلي شقة أسرتها المتواضعة في أحد الأحياء الشعبية فرفض زوجها الذهاب معها وحاول إقناع أولادها بالبقاء معه ولكنها أجبرته علي تركهم بعد أن هددته بالابلاغ عن نشاطهم التفصيلي للشرطة. لم تأخذ معها سوي بعض الملابس الضرورية وخرجت للعمل في البيوت سعيا علي رزقها وأولادها وعانت كثيرا معهم لاقناعهم بأنهم يعيشون أصعب اختبار في حياتهم ولابد أن ينجحوا فيه. مضت السنون وهي صابرة صامدة حتي عرف المرض طريقها وأجرت أكثر من عملية جراحية منعها الأطباء بعدها من بذل المجهود الزائد هنا جاءتني تطلب مساعدتها علي عمل مشروع صغير لتربية الطيور علي سطح منزلها وروت لي بفخر قصة توبتها فاشترينا معا الطيور والأعلاف اللازمة لها وتابعتها وهي تصنع لها "العشش الخشبية" في سعادة بالغة سألتها قبل أن أتركها كيف تتخيلين هذه الحياة الشاقة بعد أن ذقت طعم الراحة والرفاهية سنوات طويلة فأجابتني علي الفور: لأنني أيقنت منذ أن دفنت ابنتي بيدي أن الكفن ليس له جيوب.