كان لي شرف قراءة معظم ما كتب أستاذنا الروائي الكبير محمد جبريل. كتب حتي الآن إلي جانب ما في العلب 67 عملا إبداعيا ما بين مجموعة قصصية ورواية ودراسة نقدية. كما عايشته طويلا. في ندوته الأسبوعية وفي بيته وفي عمله الصحفي مما أتاح لي أن أتعرف علي جوانب كثيرة من عالمه وشخصيته كإنسان ومبدع. بل إني قدمت للمكتبة كتابا عنه بعنوان "محمد جبريل- مصر التي في خاطره" ورغم هذا كله أعترف أني مع قراءتي لكتابه الجديد "أيامي القاهرية" شعرت بأني أكتشف أستاذنا من جديد. ولقب أستاذنا هو أبرز ما وجدته في هذا الكتاب. يسبقه جبريل دائما كل رمز من رموزنا الأدبية خاصة من جيل الاربعينيات الذي أفرد له مساحة خلال حديثه عمن عايشهم منه منذ مجيئه إلي القاهرة تاركا الإسكندرية عازما علي أن يقهر غربته. الغربة شيء صعب. غربة النفس والروح أصعب من غربة الجسد. وقد عاني جبريل الغربتين حين ترك الإسكندرية بعد إصرار شقيقه الأكبر رحمه الله علي أن يقيم بمفرده في شقة الأسرة وتنقل جبريل بعدها عبر كثير من الأماكن مرة في بدروم أو علي السطوح ومرة في إحدي حجرات شقة مسكونة بأسرة في حجرة داخل بيت أشبه ببنسيون مسكونة بغرباء متعددي الجنسيات. كشف جبريل عن حقيقة بخل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويحيي حقي المفتعل وقسوة يوسف السباعي وثراء محمود تيمور وطيبة محمود البدوي وموضوعية عبدالحميد السحار وغيرة عبدالحليم عبدالله وأزمة مرض محمد روميش إلي غيرهم من جيل لجنة النشر للجامعيين صلاح ذهني وباكثير وأمين يوسف غراب وأحمد زكي مخلوف مستدعيا من الذاكرة كم الذكريات التي جمعت بينه وهؤلاء وظواهر حياتهم الإبداعية والشخصية بداية من الجلوس علي المقاهي حتي الحسد والصيد في الماء العكر والخصام بينهم وغيرها وكيف ارتبط بعلاقات صداقة معهم ومع غيرهم مثل أحمد عباس صالح وسعد الدين وهبة ونعمان عاشور وكمال الجويلي وثروت أباظة وعبدالعال الحمامصي وعلي شلش وفخري فايد ومحمد حافظ وعباس محمد عباس وعلاقته بعبد الرحمن الأبنودي وعبدالفتاح الجمل علي نحو خاص بل والإذاعي محمد فتحي وفاطمة رشدي ومحمد القصبجي والعقاد وابنته المنتحرة وغيرهم. في هذا الكتاب بدا لي أستاذنا جبريل أكثر اعترافا بأن عمله بالصحافة شغله عن موهبته وكان مجبرا عليه وبحقيقة شخصيات أعماله وكيف كان هو نفسه بطلا للعديد منها. وكان أكثر صراحة فيما رواه عن نفسه في علاقته بالجنس الآخر. الفتاة الخرساء ياسمين وسناء وسهير وسلوي ومديحة وطفلة ابن الرشيد. ليعيد صياغة الفكرة التي استقرت داخلي حول غياب المرأة في أعماله انعكاسا لعلاقته الجافة بوالدته وبخالته في مصر الجديدة التي عرض لها في روايته "كوب شاي بالحليب". إنها ليست المرة الأولي التي يبهرني فيها ارتباط أستاذنا جبريل بالقراءة. لكنها هذه المرة أكثر عمقا وأشد تأثيراً خاصة ونحن في زمن يجثم فيه علي نفس ثقافتنا الضحلة عصفور والقعيد والغيطاني وحجازي ويس سراج الدين والدنيا علي رأي صديقي المبدع سعد القرش وغيرهم ممن فشلوا في أن يجعلوا من القراءة عادة والثقافة سلوكا مثلما فعل أستاذنا جبريل وزمرة أصدقائه من رموزنا الأدبية الحقيقيين.