احتل الروائي الكبير محمد جبريل مكانة عالية بين أبناء جيله في ساحة الحضور الأدبي.. ليس فقط بغزارة إنتاجه وتنوعه.. ولا بدوائره المعرفية الواسعة وقدرته الخاصة جداً علي صناعة السرد الجميل.. ولكن ايضا بجديته وإصراره ودأبه علي أن يكون حيث يريد.. وهو يريد - كما يفصح دائماً - أن يظل قارئاً وكاتباً.. لم تأخذه طموحات أخري بعيداً عن هذه الغواية التي تمكنت منه وأرهقته.. وفي الوقت ذاته منحته حب الحياة. عرفت محمد جبريل فور عودته إلي "المساء" من فترة عمل قضاها في عمان.. كان فيه شيء غريب يشدني إليه.. ومن وراء ظهره أخذت أسأل عنه زملاءه الكبار.. ثم التقيت به وجهاً لوجه حين قرأت روايته "إمام آخر الزمان" فأدركت علي الفور أنني أمام كنز هائل لا يعرفه كثيرون ممن حوله.. وسوف أبذل جهدي كي أعرفه.. وعرفته فعلاً - أو هكذا أظن - من خلال ما كتب وما كتب عنه.. ومع ذلك يظل المخبوء من الكنز أكثر مما ظهر منه. ويدرك كل من طالع أدب محمد جبريل أنه كائن سكندري.. تتنفس الإسكندرية في كل أعماله.. هو في الحقيقة المعادل السكندري لنجيب محفوظ القاهري.. ورباعية بحري عنده تكاد تناطح ثلاثية محفوظ.. لهذا السبب كان كتابه الأخير "أيامي القاهرية" مفاجأة بالنسبة لي.. فلقد قرر أخيراً أن يتحدث عن القاهرة التي قضي فيها عمره الأدبي "50 عاماً" وشهدت نجاحاته لينفك ولو قليلاً من سطوة الإسكندرية التي كانت بالكاد مرحلة التكوين وتركها وهو في الثامنة عشرة من عمره. في هذا الكتاب "أيامي القاهرية" يستكمل محمد جبريل جوانب مهمة في سيرته الذاتية التي نشرها شذرات في أعمال سابقة.. أو بثها بثاً من خلال رواياته وقصصه.. ويكتب تحديداً عن أيامه التي قضاها في القاهرة منذ مجيئه إليها عام 1959 وعن الشخصيات التي التقي بها وكيف أثرت فيه والأماكن التي عشقها والأحداث التي تفاعل فيها مع الآخرين. يقول جبريل في مقدمته للكتاب: "سيرتي الذاتية - علي نحو ما - تعبير عن الحنين.. في يقيني أن الحنين دافع مهم لكل مبدع".. ومن هذا الفهم لطبيعة السيرة الذاتية جاءت حكاياته - الصادقة فنياً - عن أيام تسكعه الأولي ومغامراته ولقاءاته الخجولة مع سعد الدين وهبة ونجيب محفوظ وعبدالحميد جودة السحار ونعمان عاشور وأحمد عباس صالح ومحمود تيمور ويوسف إدريس وأحمد طوغان ويحيي حقي وفاطمة رشدي. ولا أخفي أنني حصلت علي المتعة الذهنية في أيام جبريل القاهرية من سبيلين لا ينقص أحدهما من الآخر.. الأول ما جاء علي لسان جبريل ذاته وبطريقته الجذابة المدهشة دائماً.. والثاني من الدراسة التي تصدرت الكتاب للدكتورة زينب العسال شريكة جبريل ورفيقته في أيامه القاهرية.. وقد نبهت في هذه الدراسة إلي مواطن مهمة في أدب جبريل وربطت بين عناصره لتزيدنا فهماً. ولعل أهم ما نبهت إليه هو قول جبريل في نهاية مقدمة أيامي القاهرية "الإسكندرية لم تضع مني" وتعلق علي ذلك: كأنه يعتذر لرحيله عن مدينته الإسكندرية متجهاً إلي القاهرة.