لو كانت تعرف أن حرارة الجو سوف ترتفع هكذا فجأة . لم تكن أبدا لترتدي كل هذه الملابس قبل النوم . الملابس الصوفية الثقيلة قد تحولت إلي دبابيس حادة تخترق جلدها الجاف. امتدت يدها الواهنة لتزيح جزءاً من الغطاء الثقيل من فوق جسدها . حاولت أن تنقل إحدي قدميها إلي الأرض فتعثرت في الغطاء . أرادت أن تخلصها بقدمها الأخري . فتشنجت أصابعها .. معركة استمرت فقط لخمس دقائق . لكنها كانت كافية بأن تلقي بها إلي أسفل سريرها وقد التف الغطاء حول جسدها في طبقات متداخلة . جعلتها تدرك أن محاولة إزاحته هي معركة آخري جديدة . دمعة ساخنة انزلقت لتدفئ وجهها البارد . نظرة واحدة ألقتها علي زجاج النافذة المغلق . قبل أن تغلق عينيها مرة أخري.. أصوات الرياح .. زقزقة العصافير .. صوت حفيف أوراق الشجر .. أناملها الصغيرة التي تعلقت بسور الشرفة .. صوت صراخ أمها .. حكاياتها الهامسة التي تتوقف دائما عند ظهورها .. البنت التي لم تتجاوز العاشرة كانت تحاول الانتحار .. لماذا لايصدقون أبدا أنني فقط كنت أريد أن اعرف كيف تبكي أوراق الشجر كل صباح .. هل تبكي لان أمها كانت تمنعها من التسلق؟ تنتقل بخفة الأشباح بين الأركان الخشبية المتراصة التي تئن رفوفها بما تحمل من كتب ثقيلة تقلب يديها صفحات هذا الكتاب . بينما تمسح كل عناوين الكتب الأخري بنظراتها الحائرة دائما . بدأ الأمر بقراءة تلك القصة عن الثورة الفرنسية . من هو نابليون هذا الذي حير العالم معه .ومن هو ذلك الشعب الذي أرهق نابليون نفسه . الكتب القليلة في مكتبة منزلها لم تعد كافية للإجابة علي أسئلتها التي تزداد كل يوم. كانت قد تعلمت منذ سنوات أن تمر بعينيها علي كل الصفوف المقابلة للمنصة . قالوا إنها طريقة جيدة تجعل كل الحضور يشعرون بأنها تنظر إليهم . اليوم فقط تمردت عيناها المدربة فلم تشاهد سواه . ذلك الرجل الذي يقف في نفس المكان كل مرة . يبتسم دائما. ويصفق عند نهاية كل عبارة تلقيها .. أفاقت من شرودها علي صوت المفتاح وهو يدور في قفل الباب . تبتسم له قائلة : هل تذكر محاضرتي عن تاريخ الثورات ؟ ينظر إليها صامتا كأنه يراها للمرة الأولي .. ثم يجيب : كل ما اذكره الآن أنني لم أتناول شيئا منذ الصباح.. هل سقطت قلعة الباستيل عندما أصر الشعب علي حصارها ؟ أم لأن قادتها استسلموا ؟ قبل أن تمد يدها وتقلب صفحة الكتاب بحثا عن الإجابة. كان صوت المنبه قد انطلق ليخبرها أن عليها الاستيقاظ لتبحث عن إجابات لأسئلة الصباح اليومية .. ماما .. أين الحذاء ؟. أين الحقيبة ؟. ماذا سنأكل اليوم؟. هي تعلم أن الأسئلة لن تتوقف إلا عند باب الشقة قبل أن يغادر الجميع . وبعد أن يلقي هو السؤال المعتاد : هل تريدين شيئا؟. ثم ينغلق باب الشقة قبل أن يسمع إجابتها .. تجيب بصوت لايسمعه سواها : نعم أريد .. أريد استكمال الحلم .. أريد أن اعرف كيف سقطت قلعة الباستيل .. وكيف لي أن اعرف بعدما ضاق هذا المنزل بالكتب واحتلت أرفف المكتبة جيوش من الملابس والأحذية والجوارب ..تستبد لونها كل عام أو عامين . وتبقون لي بعض الأقمشة المهترئة لأنظف بها الأرفف الفارغة. في اليوم الأخير قبل رحيل آخر أبنائها واعداً إياها - مثل سابقية - بأن يرسل لها دعوة للحاق به قريبا . سألته : هل درست الثورة الفرنسية ؟ أجاب : هل يمكنني تذكرها بعد سنوات من دراسة الغدد والخلايا وتركيبات العظام ؟ . سأحضر لك مكتبة جديدة ممتلئة بكل الكتب التي تتحدث عنها . ارتسمت علي ملامح وجهها العجوز ابتسامة عمرها خمسون عاما. كانت قد قررت قبول هدية الوداع . قانعة بثمن الوحدة الأبدية. في الصباح عندما كانوا يحاولون فك الغطاء الثقيل من حول جسدها . شاهدوا ذلك الكتاب الذي سقط أيضا بجوار السرير . وفي نهاية اليوم وبعد أن غادر الجميع الشقة حاملين معهم ذلك الجسد المفوف بالملاءات البيضاء . كانت الرياح القادمة من شباك الغرفة قد بعثرت أوراقه قبل ان تستقر علي الصفحة الأخيرة التي حوت عبارة وحيدة : " سقطت قلعة الباستيل عندما علم من بالداخل أن عدتهم لن تكفي لإسكات صوت هذه الفتاة . هتافاتها التي لم تتوقف طوال اليوم كانت تخبرهم أن الروح الثائرة لايقتلها الرصاص".