سألني محمود البدوي ونحن نغادر كازينو "ميرامار": متي نلتقي في المرة القادمة؟ كنت حريصاً علي صداقته وأستاذيته.. نلتقي في الكازينو الهاديء بمصر الجديدة نتكلم ساعة أو أكثر في غير موضوع محدد يحدثني في القصة القصيرة وأدب ما بين الحربين العالميتين ورحلاته في العالم وانسلاخ ابداعاته الواقعية من رومانسية محمود كامل وكنت اسأل ويجيب تشي كلماته بإحباط ومرارة لأنه لم ينل المكانة التي يستحقها ثم نتفق علي موعد لقائنا التالي وأعود إلي بيتي القريب بينما يفضل العودة ماشياً كم كان يحب المشي إلي بيته في ميدان تريامف.. قلت: مساء الاثنين مناسب؟ قال في لهجة معتذرة: هذا يوم سماعي الشيخ محمد رفعت.. نقلتني العبارة إلي ايامي السكندرية حرص أبي ان يلزم الشقة مساء كل اثنين. لا يقرأ ولا يكتب ولا ينزل إلي اصدقائه في مقهي المهدي اللبان ينشغل بسماع الشيخ رفعت في الراديو وهو يتلو القرآن يحلق بالصمت وبإغماض العينين مع الصوت الملائكي المفردات حبات نور والآيات سلاسل ذهب واللحظات نورانية علوية كأنها هاتف من السماء فيوض مقطرة بالروحانية تتألق بالشجن والحزن والبهجة والسكينة لا صلة لها بصخبنا في الشقة ولا بالاغنيات المنبعثة من فونوغراف قهوة فاروق القريبة ولا تلاغط الدكاكين والشوارع اسفل البيت. أذكر ان النافذة الخلفية لبيت عمتي بالمواردي كانت تطل علي النافذة المقابلة لبيت الشيخ محمد رفعت "1882-1950" المسافة بين النافذتين قصيرة إلي حد اني كنت استمع إلي صوت متكرر يترامي من نافذة بيت الشيخ قالت لي عمتي بلهجة حزينة ان الصوت للشيخ فهو يعاني الفقهة "الزغطة" التي ألزمته البيت فلم يعد يتردد علي الجامع لم اصدق ما كتبه الناقد الفني الراحل كمال النجمي حول ظروف المرض وان الفقهة جاءت عقاباً سماوياً له لأنه جعل المال مقدماً علي تلاوة القرآن ساند وجهة نظري ما روي ان الشيخ رفض عند افتتاح الإذاعة ان يتلو فيها القرآن قال ان الراديو موجود في كل مكان ربما اقتناه صاحب بار واداره علي تلاوة للقرآن هل يستمع السكاري إلي آيات الله؟ لكن الرجل اقتنع بعد إلحاح وقال المذيع احمد سالم في 31 مايو 1934 في ميكروفون الإذاعة: الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية تبدأ بثها وخير ما تبدأ به ما تيسر من آيات الذكر الحكيم يتلوه الشيخ محمد رفعت وقرأت ان الكاتب الراحل احمد الصاوي محمد "اذكره في "مجلتي" ولا اذكره في "الاهرام"" دعا إلي اكتتاب شعبي لعلاج الشيخ رفعت وبلغت التبرعات خمسين ألفاً من الجنيهات وهو مبلغ هائل آنذاك لكن الشيخ رفعت رفض قبول التبرعات وقال ان ما حدث له هو إرادة الله وعليه ان يمتثل لهذه الارادة وظلت الفقهة مرادفة لحياة الشيخ حتي رحل عن عالمنا في التاسع من مايو .1950 لعلي أعترف ان صوت محمد رفعت لم يكن هو وحده ما يهمني لأتدبر الكلمات او أحاول استكناه دلالتها إنما يتجه اهتمامي إلي آداء الرجل كيف يبدأ القراءة وكيف يتوقف وكيف ينتهي.. الهارموني المكتمل الذي يصدر عن القراءة الواعية الجميلة. موعد افطار رمضان يرتبط الآن عندي بالأذان الذي يرفعه محمد رفعت صار جزءاً من روحانية الشهر وملايين الاجساد التي تلتف في تلك اللحظات حول موائد الافطار. بل ان رفع الأذان بصوت محمد رفعت ينقلني إلي افطار رمضان. المدفع والفوانيس والكنافة والقطايف وقمر الدين وسوق العيد وصلاة التراويح والسهر حتي مطلع الفجر وسهرات التليفزيون سهرات الحسين التي تذكرني بغياب السهرات في أبو العباس بعد ان احتل المبني الخرساني السخيف كم أكرهه وسط الميدان. لذلك فإني اضيف اسم محمد رفعت إلي أسماء المشاعل الذين افرزتهم فترات التنوير سيد درويش ومختار ومحمود سعيد وأم كلثوم وعبد الوهاب ويوسف وهبي وغيره.