سدنة العلوم الدينية. لكل منهم في الغالب باع طويل أو قصير في الأدب.. فالكتب السماوية صيغت بلغة أدبية. ويصل القرآن الكريم إلي الذروة في البلاغة العربية. كما تمتلئ كتب العهد القديم والعهد الجديد بالخيال الشعري. والتشبيهات والكنايات والإسقاطات والرموز والشحنات النفسية والعقلية التي تتسم بها أعلي كتب الإبداع الأدبي شعراً ونثراً. كما أن أعلاماً كباراً من أهل العلم الديني كالإمام الشافعي وابن حزم والشيخ محمد الغزالي والشيخ الشعراوي. لهم نصيب وافر في الإبداع الشعري والإنتاج النثري.. وليس بعيداً عن هذا السياق الإبداعي الروحاني. قداسة البابا الراحل شنودة الثالث الذي عرفته الأوساط الثقافية المصرية في الأربعينيات والخمسينيات باسم الأديب نظير جيد ميخائيل. ثم ساقة الزهد إلي سلك الرهبنة. ورغم انقطاع البابا شنودة عن الحيات الدنيا. واتخاذه الصوامع والقلايات والأديرة له مأوي. فإنه لم ينقطع عن الإبداع الشعري الذي خطا فيه أولي خطواته وهو في السادسة عشرة من عمره. وأتقن علم العروض. وهضم تجربة كثيرين من شعراء العربية وتأثير القدامي والمحدثين. ومنهم أبوالعلا المصري وعباس العقاد وطه حسين وإيليا أبوماضي وميخائيل نعيمة. وظل خيط الشعر ممتداً متصلاً في حياة هذا الرجل المصري الصميم حتي وفاته. التجربة الشعربة للبابا الراحل كانت فرصة لجمع معظم أطياف المجتمع المصري أو ممثليه مرة أخري بعد وفاته. في ندوة أقامتها جماعة الجيل الجديد. بنقابة الصحفيين. بمناسبة صدور قصائد البابا في ديوان شعري عن هيئة الكتاب. الديوان الذي جمعه ودرسه د. محمد سالمان أكد بما لا شك فيه أن الوسطية التي اتسم بها البابا لم تكن مظهراً خارجياً لحياته فقط. بل كانت كذلك منبعاً ثرياً ينبعث من داخله.. فهو قد رضع من ثدي امرأة مسلمة. وأصبح لديه إخوة في الرضاع من المسلمين: رجالاً ونساءً. وهو مولود في عمق الصعيد أسيوط ثم انتقل وعاش في القاهرة. ثم أقام مدة في الإسكندرية. ثم درس تاريخ وطنه من خلال كلية الآداب. وتتلمذ علي يد مفكرين وسياسيين وأساتذة من المسلمين والمسيحيين معاً.. وقد فاضت تجربته الشعرية في هذا الديوان. بكل هذه الخلفيات والمعاني والمؤثرات الحياتية.. وهذا ما أكد عليه المناقشان الرئيسيان للديوان د. أسامة أبوطالب ود. خالد فهمي. وكذلك المتحدثون من الآدباء: مريم توفيق وأحمد عبده وهالة فهمي ورمسيس نجيب ساويرس ومحيي عبدالحي وعبدالمنصف إسماعيل وعزة منسي وأحمد وياسر موسي وحمدي الكاتب ومحمد عبده. قال د. محمد سالمان إنني جمعت حوالي 600 بيت من الشعر. ضمها هذا الديوان الذي أصنفه ضمن المدرسة الرومانسية. حيث سار الشاعر علي درب علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وكذلك شعراء المهجر.. كما أكد أنه تأثر بالقرآن الكريم. الذي كان يحفظه. فأخذ منه الإيقاع. كما أخذ من الكتاب المقدس القصص والحكايات. ذكر د. إسامة أبوطالب أن أخوة شنودة في الرضاعة مسلمون. وهذه ظاهرة لدي كثير من الأسر المصرية. بسبب الإرضاع فالالاف وربما الملايين من المسلمين لهم إخوة مسيحيون والمسيحيون كذلك لهم إخوة حقيقيون من المسلمين .. ونري ملمحاً مهما من ملامح إبداع البابا سواء في شعره أو سيرته الذاتية. وهو الاعتراف بجميل الأستاتذة الذين تربي علي علمهم ومعارفهم.. وملمح حقيقي. لا يستطيع أن يعيش بدون الفكاهة والضحكة البريئة الساخرة.. ثم هناك ملمح "الغنائية" في شعره. فقصائده بعيدة عن الذهنية والتعقيدات الفكرية. حتي وهو يتكئ علي أفكار عميقة في الزهد والتصوف والقلق الوجودي. توقف د. خالد فهمي عند الجهد الذي بذله د. محمد سالمان في جمع الديوان ونشره. فقال إن الديوان بصورته الرائعة هذه تؤكد أن مهنة التحقيق العلمي مهمة جداً. وتحتاج إلي من يمهر فيها ويحرص عليها. كما فعل د. سالمان. ويحيلنا هذا العمل إلي فكرة "الوسطية" كقاسم مشترك أعظم في الشخصية المصرية.. فها هو ذا محقق مسلم يقوم بجمع وتحقيق ديوان لرأس المسيحية في مصر: البابا شنودة.. والديوان نفسه يقرأه كل من المسلم والمسيحي ويعتبره خاصاً به. معبراً عنه. وهو مطمئن بأنه لن يتصادم مع معتقداته ومسلماته. ولن يحمل "إخلالاً" معرفياً. وفكرة "النبوة" التي عالجتها بعض القصائد تدخل ضمن هذه القواسم المشتركة. فكلنا يؤمن بالأنبياء المرسلين جميعا.. ومن ناحية أخري فهذه القواسم تجعل الديوان علي المستوي النقدي مقبولاً. ويحتل أفقا شديد الظهور.. ولكن اختلف مع د. سالمان في تصنيف البابا كرومانسي. وحتي إن كان رومانسياً فهو ليس علي طريقة المهجريين كميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي. وإن بدت نبرة الغربة واضحة في بعض مواقف القصائد.. وإدراج هذه القصائد ضمن الشعر المهجري يضر بالموقع الكنسي للبابا.. كما أنه لم يغادر وطنه مثل شعراء المهجر. يستطرد رمسيس نجيب ساويرس في هذه الجزئية فيقول: كنت أعايش من قرب كسكرتير له اختص بالشئون القانونية ومواءمة تشريعات الكنيسة مع الشريعة الإسلامية بصفتي دراساً لها في كلية الحقوق.. وقد لمست أن الغربة لديه ليست بالمعني المكاني كما كانت لدي المهجريين. بل تتعلق بالجوانب الإيمانية. التي كانت غير واضحة لدي المهجريين. يري محيي عبدالحي أن هذا الكتاب يمكن تصنيفه ضمن السيرة الذاتية. وتوقيت صدوره جاء مناسباً جداً. ندوة الجيل الجديد. اختتمت بغناء شعبي أسواني للفنان "ماندو" وقصيدة في مدح البابا كتبتها مريم توفيق.