فقراء مصر ظلوا عبر العصور في انتظار أن يأتي الفرج.. ولا يسمعون إلا عبارة واحدة تدعو إلي شد الأحزمة علي البطون حتي تتحسن الأحوال. وعندما قامت ثورة يوليو 1952 فإن جمال عبدالناصر ألهم الفقراء وحرك مشاعرهم عندما تحدث عن العدالة الاجتماعية وانحاز في خطابه السياسي والاجتماعي للفلاحين والعمال.. وبدأت أحلام الفقراء تجد الطريق إلي النور. ولكن جاءت هزيمة 1967 المريرة والقاسية ليبدأ كابوس من الإحباطات والآلام وتحطمت أماني وأحلام الفقراء عندما توقفت كل مشاريع التنمية وأصبح هناك شعار جديد وهو انه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. فلابد من محو الهزيمة والعار الذي لحق بنا قبل أي حديث آخر عن رغبات وتطلعات الجماهير. ومات الحلم المصري مع موت عبدالناصر وأتي أنور السادات بمرحلة الدهاء والواقعية وتحقق انتصار 6 أكتوبر 1973 والعبور العظيم الذي كان معجزة من معجزات المولي عز وجل الذي يحمي هذا الشعب ويرعاه. وانتظر فقراء مصر أن يأتيهم السلام بالرخاء.. وبدأوا يعيشون في أحلام مساعدات السلام.. والدولارات التي ستتدفق علي مصر ثمنا للسلام من الأمريكان والانفتاح الاقتصادي الذي سيجعل الجميع يعيشون زي المليونيرات..! ولكن فقراء مصر ظلوا علي نفس الحال.. فالأموال ظهرت علي السطح ولكنها أتت من الأغنياء للأغنياء. وصحيح ان هناك من ركب موجة الانفتاح واستطاع أن يجد مكانا بين راكبي موجة المرحلة وأن يصبح من الأغنياء.. ولكن الأغلبية ظلت علي حالها تبحث فقط عن رغيف الخبز..! وأتي حسني مبارك رئيسا لمصر وتحدث في بداية مرحلته بخطاب ناصري.. وظن الناس ان عبدالناصر سوف يبعث من جديد وان هناك انحيازا للفقراء ومطالبهم. ولكن مبارك سرعان ما انقلب علي نفسه وانحاز للأغنياء فقط.. ولرجال الأعمال الذين حولوا مصر معه إلي عزبة خاصة لهم فيها الأسياد وفيها العبيد. فيها من يملك كل شيء ومن لا يملك شيئا يقتات به. وعاش فقراء مصر يترحمون علي أيام عبدالناصر وأيام السادات وفي انتظار فك الأحزمة من علي البطون الخاوية. دون أن يكون في مقدورهم الكلام أو الاحتجاج. فأمن الدولة في الانتظار وقانون الطوارئ جاهز للتطبيق. ولكن الله الذي يمهل ولا يهمل بعث بمعجزة أخري إلي شعب مصر وهي معجزة تبلورت في ثورة 25 يناير التي لم تكن علي البال ولا علي النية والتي يكذب من يقول انه رتب وخطط لها فقد كان التدبير والنجاح إلهيا. فلو ان حسني مبارك كان قد استبق الأحداث بالإعلان في بداية الثورة عن اقالة الحكومة وحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة نزيهة لربما كان قد ظل في الحكم إلي اليوم..! وسمع فقراء مصر مبادئ الثورة في الحرية والعدالة الاجتماعية وشعروا ان اليوم الموعد قد صار قريبا.. وان الأماني أصبحت ممكنة. وتفاءلوا خيرا عندما بدأت الأنباء تتردد في بدايات الثورة عن الأموال والمليارات المهربة التي ستعود وعن نصيب كل مواطن من هذه الأموال. وأغدقت الصحافة الملايين علي الفقراء علي الورق.. وانطقت ثورة جديدة من الأحلام والتوقعات داخل كل مواطن.. فالقادم أفضل والثورة جاءت من أجل الفقراء..! ولكن الفراغ الأمني وحالة الانفلات التي تلت الثورة والرعب الذي عاشه كل مواطن في بيته وفي الشارع وفي كل مكان.. جعل أحلام الناس وتطلعاتهم تتجه نحو البحث عن الأمن والأمان أولا.. وليس مهما تحقيق أي حلم من أحلام السنين.. فالمهم عند الجميع هو النجاة وألا يقتحم البلطجية منزلا أو يغتصبوا ويدمروا الشرف والأعراض. وضاعت الأحلام طوال عامين وبدأت في الأفق ملامح ردة وكفر بالثورة وما أحدثته في نظر البعض من تراجع إلي الوراء. ولعبت الأزمات الحياتية دورها في أن يكون هناك انقلاب علي الثورة. فهناك أزمات في انقطاع الكهرباء وفي اختفاء البنزين والسولار وأنابيب الغاز.. وفي سوء حالة مياه الشرب.. وفي تراجع الأحوال الاقتصادية وزيادة معدلات البطالة وفي وعود كثيرة لم ولن تتحقق. وأدرك فقراء مصر انهم عاشوا الوهم.. وان الحق لا يؤخذ إلا بالقوة.. فانطلقوا في مظاهرات فئوية وفي اضرابات من كل الأشكال والأنواع.. انطلقوا يحتجون ويبتزون السلطة ويحصلون علي حقوقهم بأيديهم.. فقد أدركوا ان من لا صوت له لا حق له..! وبدلا من أن يتفهم من بيدهم القرار ان هذه المظاهرات والاحتجاجات والاضرابات هي بداية لثورة الفقراء والجياع.. وانها بروفة للتحرك الشعبي الجماعي راحوا أيضا يرددون نفس النغمة القديمة في إدانة الذين يبحثون عن حقوقهم.. وأن يطالبوهم بالانتظار.. انتظار الفرج الذي يبدو انه لا يأتي لفقراء مصر أبدا..! ** ملحوظة أخيرة: حكمة ومكتوبة علي سيارة نقل. وبتقول.. اتنين مالهومش آمان.. الصاحب والزمان..!!