سوف نلتقى على متن هذه الصفحات مع عالم من أعلام العصر.. هو الأستاذ الدكتور حلمى محمد محمد القاعود القاعود بمناسبة بلوغه سن السبعين، وأردنا أن نحتفل بهذه المناسبة التى ننتظرها على أحر من الجمر، وكان المتوقع من مؤسسات الدولة أن تتبنى هذه الاحتفالية أسوة بغيره من أنصاف المتعلمين والأدباء الذين سيطروا على مؤسسات الدولة الثقافية، ومارسوا الإقصاء الخسيس ضد من يعترض على أفكارهم ومعتقداتهم الفكرية، وصارت الجوائز والنشر والسفر إلى المؤتمرات حكراً على فصيلهم الذى سقط فى دولة المنشأ قبل ربع قرن من الزمان، ومازال القوم يصارعون من أجل وجودهم، ولو بذلوا الدماء فى سبيل الحفاظ على تكية وزارة الثقافة، فعلوا كل شىء منكر.. من التطبيل للطغاة والتسبيح بحمدهم وتسويد ملايين الصفحات حول إنجازاتهم الوهمية التى هى "الفنكوش" بعينه، وكنت عندما أحضر مؤتمرات أدباء مصر التى تعقد فى شتاء كل عام، أراهم يبعثون ببرقيات تأييد للرئيس الأسبق حسنى مبارك، الذى زرع الشقاء والفساد فى الأرض، وترك من ورائه أرضاً بوراً لا تصلح لزراعة شىء، ومع ذلك كان فى نظر النخبة الثقافية: القائد الشجاع صاحب الضربة الجوية، والأخ الأكبر لكل المثقفين والمواطنين، وفرضوا سياج من التعتيم على المثقفيين الحقيقيين، الذين شرفوا مصر فى الداخل والخارج، وأثرّوا فى مجتمعاتهم، لأنهم رزقوا لغة الصدق والإخلاص. واتفقت مع عدد من رفقاء دربه من العلماء المخلصين ومن تلامذته، على أن نخصه بأبحاث، ومقالات، وشهادات تبرز مكانته ودوره فى حياتنا الأدبية المعاصرة، ورغم الموج العاتى الذى يهدد هويتنا الثقافية من فكر وافد يريد أن يزيح فكرنا من الخارطة الثقافية ليحل محلها بمعاونة أناس باعوا ضمائرهم للشيطان نظير المنح والجوائز والأموال التى تغدق عليهم والسفريات المشبوهة.. وصمم الدكتور حلمى منذ يومه الأول أن ينازل هؤلاء ويقارعهم بالحجة الأمر، الذى يسبب لهم ألم شديد، وخاض معهم العديد من المعارك التى تخللتها الافتراءات والتشعينيات من أناس فقدوا الشرف والضمير، وخرج منتصراً لا يقول إلا الحق وحده الذى وهب له حياته، واضعاً نصب عينيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قول الحق فى وجه سلطان جائر"، لذا عارضهم طوال حياته بقلمه وفكره، لم يهادن أو يداجن، أو ينزو إلى جحر حتى تهدأ العاصفة كما فعل غيره إيثاراً للسلامة، فمازال حتى يومه هذا ينازل الطغاة والظالمين والمجرمين بقلمه السيال الذى يتحول إلى نار لظى تحرق وجوههم ... وقد ولد الدكتور حلمى محمد القاعود فى قرية "مَرْقَص" مركز شبراخيت بمديرية البحيرة وذلك يوم الخامس من ابريل عام 1946 فى أسرة ريفية متوسطة الحال، وقرية "مَرْقَص" ، تحدث عنها الأستاذ محمد رمزى (ت1945م) فى كتابه "القاموس الجغرافى للبلاد المصرية" فقال: " مَرْقَص قرية قديمة، اسمها الأصلى محلة مَرْقَص، وردت به فى قوانين ابن مماتى، وفى تحفة الإرشاد، محلة مُرْقُس وضبطها صاحب تاج العروس مَرْقَس بفتح الميم والقاف كما ينطق بها الآن وفى تاريخ سنة 1228ه باسمها الحالى". أه (محمد رمزى "القاموس الجغرافى للبلاد المصرية" المجلد الثالث، ص 310،الهيئة العامة لقصور الثقافة 2010)
وقد تغيرت اسم القرية إلى "المجد" سنة 1983، نسبة إلى العارف بالله سيدى عبدالعزيز أبى المجد، المدفون بالقرية وله ضريح يزار، وهو والد العارف بالله إبراهيم الدسوقى المدفون بدسوق، وهى تقابل القرية على الضفة الأخرى لنهر النيل، وفى آخر تقسيم جغرافى للبلدان المصرية تم تحويل قرية "الرحمانية" إلى مركز، وضمت إليه قرية "مرقص" أو "المجد".. كانت القرية تقع على الشاطىء الغربى لفرع رشيد، وأغرم القاعود بالنهر منذ الصغر أيام كان النهر يجرى ويحمل معه الخير، ولكن هذا الخير توقف بعد بناء السد العالى الذى حجز خلفه الطمى والغرين والأسماك، وقد أطلق الدكتور حلمى على الجزء الأول من مذكراته "النيل بطعم الجوافة"، ويقول: "والنهر له في حياتي قصص وحكايات والنهر مصدر فرح ومصدر سرور ومصدر غضب أيضاً، النهر ربطني وارتبطت به"، وكان النهر يجمع النساء على مدار اليوم وخاصة فى الصباح أو المساء، يحملون الجرار لملئها بالماء فى الصباح الباكر، لأنه ماء رائق تملأ به الخوابى والأزيار التى تنقط هذا الماء وقبيل الغروب يحمل النساء الجرار مرة أخرى لمزيد من الماء للاستخدام فى أمور أخرى غير الشرب والنهر –إلى جانب ذلك- مكان جيد لتربية البط والأوز، تظل أسراب كل منهما تعوم منذ خيوط الصباح الأولى حتى غروب الشمس، فتخرج وتسير فى طابور منتظم إلى البيوت، حيث تبيت وتبيض أو تستعد للرقاد على البيض .. وكانت القوارب وسيلة المواصلات بين قريته ومدينة دسوق المدينة التجارية الكبرى فى الدلتا وترجع أهميتها لوجود ضريح العارف بالله إبراهيم الدسوقى وأخيه موسى العمران ..وظلت القوارب الوسيلة المتاحة حتى بنى كوبرى دسوق فى التسعينيات ..وكان أصحاب القوارب يعيشون بالرضا والقناعة وكانوا ينتظرون يوم الخميس، وكان موعد السوق الأسبوعى فى مدينة دسوق، ويذهب الناس هناك لبيع حيواناتهم أو الحبوب التى تفيض عنهم أو الطيور أوالدواجن.
وقد فضّل الدكتور حلمى قريته "المجد" مستقراً رغم عمله ودراسته وابتعاده عنها لفترات طويلة، وتأثر فى هذا بالدكتور عبدالسلام العجيلى الروائى الأول فى سوريا، الذي لم يُفارق مدينته الصغيرة أو قريته سابقاً التي تسمى "الرّقّة" ..فالرجل مع أنه عُيّن وزيراً ونائباً في مجلس النوّاب في عام 47 و 48 كان يذهب إلى دمشق ثم يعود إلى قريته ويمارس مهنة الطب كمحترف ومهنة الأدب كهاوٍ ويظل فيها حتى وفاته..وفى هذا يقول: "والقرية ربطتني وارتبطت بها، ثم كانت تجربتي مع العمل في أن أكون معلماً يبدأ المرحلة من أول السلّم كما يقولون، درّست في المرحلة الابتدائية وفي المرحلة الإعدادية وفي المرحلة الثانوية حتى وصلت إلى المرحلة الجامعية والدراسات العليا وهذا كله كان يتم في بساطة شديدة وسلاسة شديدة لشخص عاش بسيطاً وارتضى البساطة في حياته وتعامل مع مجتمع بسيط لا يعرف التعقيد ولا يعرف "البروتوكولات" أو "الإتيكيت" أو غير ذلك من مصطلحات المجتمع المتمدن، ولكن هذا كله لم يمنعني من أن أدخل إلى الدائرة الصعبة أو الدخول في دائرة الأدب أو حرفة الأدب، فأدركتني حرفة الأدب، وما أدراك ما الأدب وحرفة الأدب؟ هي مسألة تقتضي منا مزيجاً من التفاعلات ومن الأحوال، ولكن الفتى الريفي صمم أن يبقى هو كما هو يذهب إلى القاهرة وإلى منتدياتها يرقب ويلحظ ولكنه لا يفرط في داخله لا يفرط في مكنونه.. لا يندمج.. لا يتفاعل بالطريقة التي تلغي تميزه أو تلغي خصائصه".(2)
تلقى تعليمه الأساسى فى المدرسة الابتدائية ببلدته، ثم التحق بالمعهد الدينى بدسوق بعد أن حفظ القرآن وجوّده، وأثناء وجوده فى معهد سمع أن هناك معهد نموذجى بالقاهرة أنشأه الدكتور محمد البهى حينما كان وزيرا للأوقاف وشئون الأزهر، وذهب القاعود إلى القاهرة ليلتحق به، فوجد من يقنعه بالالتحاق بدار المعلمين بدسوق.. لأن طريق الأزهر طويل، والتخرج من المعلمين يضمن وظيفة حكومية بعد سنوات معدودة، وبالفعل التحق بدار المعلمين بدسوق، وقد ألغى المعهد النموذجى بعد خروج الدكتور البهى من الوزارة وكأنه كان يقرأ الغيب، وفى دار المعلمين تفتح ذهنه على الآداب والمعارف وكان يطالع ما تخرجه المطابع من إنتاج فى شتى فروع المعرفة، وكان يسبقه في دار المعلمين بعام الروائى والسينارسيت محمد عبدالقوى الغلبان الذى اشتهر باسم "محمد جلال عبدالقوى"، وكانا يشتركا معا ًفى تقديم الإذاعة المدرسية، ويتخرج ويعمل مدرساً فى قرى مركز دسوق.
وعرف عن الدكتور القاعود مثابرته فى تحقيق أهدافه فقد كانت الجامعة حلماً يراود خياله لم يغب عنه أبداً وصمم أن يستذكر مواد الثانوية العامة، إلا أن التوفيق لم يحالفه بسبب اللغات الأجنبية لقلة بضاعته فيها، ولم يستسلم لليأس فقد انتصر عليه أخيراً، ونجح فى الحصول على شهادة الثانوية العامة إلا أنه تأتى الرياح بما لا يشتهى السفن... فقد وقعت نكبة 1967، والتحق بالقوات المسلحة مجنداً، وعندما قدم أوراقه إلى كلية دار العلوم رفض مسجل الكلية قبول أوراقه تذرعاً باللوائح رغم توسط الدكتور أحمد هيكل لحل هذه الإشكالية، إلا أن المسجل صمم على رأيه وقراره، واستسلم الدكتور لهذا الأمر، ومكث فى الجيش سنوات ست حتى تحقق النصر فى أكتوبر 1973، وإنهاء خدمته فى عام 1974، وأسرع الخطى إلى دار العلوم، وكانت تقع فى مكانها القديم فى شارع المبتديان بحى السيدة زينب، ووفق بين عمله مدرساً وطالباً وكان الأمر شاقاً وعسيراً لا يتحمله إلا من رزق الصبر والجلد والإقدام، وكان يتوارى عن أساتذته العظام خجلاً لأنه فى هذا التوقيت كان اسمه لامعاً فى دنيا الأدب ينشر فى كبرى الصحف والمجلات، وصدر له أكثر من كتاب نقدى وإبداعى، منها: كتاب "الغروب المستحيل عن سيرة محمد عبدالحليم عبدالله" وصدر عن المجلس الأعلى للفنون والآداب سنة 1974، ومجموعة قصصية بعنوان "رائحة الحبيب" صدرت فى عدد خاص من ملحق مجلة الثقافة سنة 1974، وصدرت له رواية "الحب يأتى مصادفة" عن دار الهلال فى يوليو 1976 ..وضحى الدكتور حلمى بأعمال السنة حتى لا يعرفه أساتذته، وله فى هذا مواقف يضيق المقام عن ذكرها ..
وتخرج فى كلية دار العلوم عام 1978، وصمم أن يكمل المشوار فى الدراسات العليا، واختار موضوع الماجستير عن الشاعر أحمد مخيمر، وكان يعرفه شخصياً ..قابله أكثر من مرة فى دار الأدباء، ومقر مجلة الثقافة فى إصدارها الثانى، ولما أحس أنه مهضوماً فى الحياة الأدبية، أراد إنصافه بدراسته عنه، إلا أنه عدل عن الموضوع لعدم توفر المراجع اللازمة للبحث، فاختار موضوع "مدرسة البيان فى النثر العربى الحديث" وعرض الخطة على على الدكتور عبدالحكيم حسان، إلا أن القسم اختار مشرفاً هو الدكتور على عشرى زايد وناقش الرسالة سنة 1980، بعدها أعد رسالة الدكتوراه بعنوان "محمد صلى الله عليه وسلم فى الشعر الحديث" وحصل عليها سنة 1985. بعد نكبة 1967 صدم الدكتور حلمى القاعود فى القيادة السياسية القائمة آنذاك التى باعت للشعب الوهم والشعارات والهزائم والمظالم، وجند بعد النكسة فى المسلحة ليبقى ست سنوات طوال مليئة بالأسى والشجن وبالأعاصير النفسية والفكرية، فهو يعيش مرحلة الهزيمة المريرة التي عبَّر عنها في مجموعتي القصصية "رائحة الحبيب"، وفي روايته الوحيدة "الحب يأتي مصادفة"، وفى هذا يقول: "وكانت هذه المرحلة من أشق الفترات على النفس البشرية المصرية خصوصاً، وعلى نفس البشرية العربية عموماً، فإن تُفاجأ بين يوم وليلة وقد ضاعت منك أرضك وقدسك وكل فلسطين وجزء كبير من سوريا، وجزء من لبنان، وجزء من الأردن، وتجد العدو يفصل بينك وبينه ممر مائي وهو يغايظك ويكايدك في الصباح والمساء وأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً وثلاث محافظات هُجّرت إلى الداخل رجالاً ونساءً وأطفالاً، مع ما تبع من ذلك من مضاعفات وآلام كل ذلك اختزنته وتأثرت به وانفعلت به وتألمت منه وتألمت له، وعبَّرت عن بعضه وما زلت أختزن معظمه لعل يوماً ما يأتي فأحاول أن أعبِّر عنه"، ولكنه رد له بعض الأمل بعد انتصار أكتوبر المجيد، لولا تصرفات القيادة السياسية الرعانة التى بددت آثار النصر بالزيارة المشئومة إلى القدس التى أهتز لها الدكتور حلمى، وانصرف عن الأبداع لينشغل بعد ذلك بهموم أمته الفكرية والثقافية والاجتماعية ... وقد عرف الدكتور حلمى القاعود طريقه إلى الصحافة الأدبية والفكرية مبكراً، فكتب فى مجلات: "الأديب"، و"الآداب"، و"الجديد"، و"الرسالة"، و"الثقافة"، ومجلة "الأزهر"، وكانت تجربته مع الصحافة الإسلامية تجربة ثرية جدا جديرة بالدراسة والتحليل، والمقالات التى نشرت بها شكلت صلب الكتب الثقافية التى نشرها على مدار تاريخه الثقافى الطويل، فكتب فى "الاعتصام"، و"لواء الإسلام" و"المختار الإسلامى"، و"الدعوة" وصحف "المصريون"، و"النور"، و"آفاق عربية"، و"الشعب" الأولى والثانية، كما كتب فى مجلات الخليج مثل "المجتمع"، و"المنهل"، و"الأمة"، و"الوعى الإسلامى"، و"منار الإسلام"..ويمتاز أسلوبة بالبساطة والعمق وسبر أغوار الموضوعات فى لغة بسيطة راقية يستفيد منها الباحث المتخصص والقارىء العادى..
وكان هناك مجال آخر توازى مع الاهتمامات الأدبية والنقدية بصفة عامة وهو المجال الإعلامي، كانت هناك بعض الظواهر الإعلامية كان يتابعها عنكثب وعن قرب، وكان أن كتب كتابه المشهور فى بداية الثمانينات عن "الصحافة المهاجرة" (وسوف نستعرض هذا الكتاب فى نهاية كتبنا هذا فى جزء الملاحق)، التي تركت العالم العربي وذهبت إلى لندن، وباريس، وروما، وقبرص، لتصدر من هناك بعض المجلات وبعض الصحف، وأيضاً بعض الكتب فيما بعد، على كل حال هذه الظاهرة كانت ظاهرة أملت عليّ أن أؤلف فيها كتاباً يكشف عن بعض أبعادها الغائمة ويأتي بعض الزملاء ليكملوا المسيرة من المتخصصين في كليات الإعلام وأعتقد أنني لم أتوسع في هذا المجال لأن الصحافة الإسلامية استغرقتني، والحقيقة الصحافة الإسلامية كان لها في أوائل السبعينيات منهج تقليدي يقوم على معالجة القضايا المكررة والنظر إلى بعض الأمور التي لا تعني الجمهور فبحمد الله تعالى أعتقد أن إسهامي في هذا المجال كان لمناقشة القضايا اليومية التي يعيشها الناس، والقضايا المطروحة على الساحة وعلى رأسها قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، وكانت الشريعة في ذهن بعض النخب الثقافية في ذلك الوقت وربما إلى الآن مرتبطة بالحدود، وطبعاً هذه مسألة في غاية الخطورة أن يفهم الناس أن الإسلام هو قطع أيدٍ وهو رجم للرجال والنساء وهو قتل ولا شيء غير ذلك، فحاولت مع مجموعة من الكتّاب الفضلاء أن نُقدم الصورة السمحاء للإسلام ونبرز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث وأرسل رحمة للعالمين وأن الشريعة الإسلامية ليست هي الحدود، وليست هي القِصاص، ولكنها منهج حياة يقوم على الرحمة وعلى المودة وعلى التكافل وعلى التعاون، وعلى المساواة وقبل ذلك وبعده على الحرية، لأنك عندما تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإنك تحرر من كل شيء آخر.