هناك صنف من الناس يحلم لأوطانهم باستمرار، يبغى لهم الخير والصلاح، ينير لهم الطريق، باذلاً ما أمكنه من قوة لتحقيق هدف وضعه نصب عينيه .. لا يهمه تقدير المجتمع له أو أن يُكّرم من أحد، وإنما الذي يهمه إرضاء الذات... وهذا ما ينطبق على الشاعر محمد كمال هاشم، الذي جاء إلى البحر الأحمر من أحضان الدلتا (محافظة الغربية) أرض الخير والنماء، بعد بضع سنوات من قدوم الشاعر جلال الأبنودى (1925- 2001)، الذي استقر بالقصير في بداية الأمر، ولم يكن بالإقليم أية أنشطة أدبية قبل مقدمهما، فقد لعبا دوراً مهماً ومؤثّراً في خلق مناخ أدبي حيوي وصحي بدأ من العدم، إذ جمعا كل من لديه موهبة أدبية من الموظفين أو من سكان هذه البلاد، كانوا يجتمعون بجمعية الشبان المسلمين أو بمنزل أي من الرفاق، يجمعهم حب الأدب وتذوقه، الكل يعرض بضاعته من شعر ونثر وقصة ورواية وزجل ومقالة، وكان الشيخ جلال الأبنودى المرشد الأمين لهؤلاء، لأنه تخرج فى كلية اللغة العربية فى أيام مجدها (وقد تحدثنا عنه فى مقالة وافية قبل ذلك) ولما اتسع النطاق وزاد عدد الأعضاء فكروا في إنشاء منتدى رسمي لهم فأنشأ كمال هاشم "جمعية أدباء البحر الأحمر" عام1970م، وهى أقدم جمعية مشهّرة في هذا الإقليم.. إن الحديث عن كمال هاشم حديث ذو شجون، فقد تعودنا هضم مكانة الأعلام في حياتنا، وإهمال شأنهم كأنهم أساءوا إلينا، في نفس نعلى من قدر الوصوليين والانتهازيين الذين هم أدعياء ساءوا إلينا في هذه الفترة الحالية بيدهم الحكم على قيمة الأعمال، يرفعوا من هو على هواهم، ويهيلون التراب على الأدباء الحقيقيين الجديرون بالإهتمام والتكريم، لأن التقييم الأدبي صار يخضع للأهواء ومدى الانتماء إلى الأيدلوجيات التي ينتمي إليها النقاد...
خلّف بعض الآثار الشعرية أشهرها ديوان "غداً أعود" وهو أول عمل إبداعي طبع في إقليم البحر الأحمر في صورة رائعة، صدر عام 1970م ثم اشترك في بعض الأعمال التي طُبعت عن جمعية أدباء البحر الأحمر، منها ديوان "أحاسيس وأصداء"، ومجلات "البحر" و"شدوان" التي كانتا تصدر عن نادي الأدب بقصر ثقافة الغردقة يشاركه نفر من أعلام الأدب في هذا الإقليم مثل الشعراء: عبدالعزيز الأنصاري، ورمضان الخطيب، ود.محمد ابوالفتوح، وجمال عبدالعزيز بدوى، ومحمد المعتصم الببلاوى، وصلاح العويضى، وتلميذه الأثير محمد سيد عبدالباقى، وغيرهم ..
وقد قصدنا من وراء انجاز هذا البحث التعريف بالأعلام البارزين، كي نهتدي بهم ونتخذهم قدوة لنا، ودراسة عصر أدبي مضى ومعرفة ملامحه وسماته الأساسية ... نشأته: نشأ بالريف، بين أحضان أسرة متدينة، فوالده كان من طلاب الأزهر الشريف بل إن جده كان عالماً كبيرا به، وقد ولد محمد كمال هاشم بقرية "ميت حواى" مركز السنطة بمحافظة الغربية في سنة1936م، حفظ أجزاء من القرآن الكريم في كُتّاب القرية قبل دخوله المدرسة الإلزامية وقد كان لأبيه الفضل الأكبر في تنمية معرفته الأدبية.
أتم دراسته الابتدائية بمدرسة السنطة الابتدائية، ثم في مدرسة طنطا الثانوية حتى على البكالوريا منها ثم التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1954م ليحصل على ليسانس الآداب قسم التاريخ 1958م وكان يدرس له الأساتذة العظام شوقي ضيف، وأبو العلا عفيفي، وعبد الرحمن بدوى، ومحمد مصطفى حلمي، ويوسف خليف، وحسين نصار، وفؤاد الأهوانى، وسعيد عبد الفتاح عاشور، ومحمد مصطفى زيادة، وزامل فيها طلابا صاروا قمماً بعد ذلك، منهم أبوالوفا التفتازانى، وعاطف العراقي، وعبد الرحمن الأبنودى، وجمال بدوى المؤرخ الكبير وأبن بلدته.
كان يعمل أثناء دراسته الجامعية في وظيفة محضر بمحكمة السنطة، تجول خلالها في الريف بين القرى والعزب زهاء سبع سنوات، قاسى خلالها كثيراً من المشاق وقد أثرت هذه الفترة الشاقة في حياته فظل حوالي سنتين يعانى من ثلاثة أمراض في آن واحد، وانعكس ما قاساه على شعره في هذه الفترة، فخرج قاتماً حزينا مليئا بالدموع..
في سنة 1961م ترك وزارة العدل وعين بمحافظة الغربية ضمن حملة المؤهلات العليا، ثم نقل إلى مجلس مدينة السنطة حيث عمل مديرا لمكتب رئيس مجلس المدينة، ثم نقل سكرتيرا لمجلس قروي "كفر كلا الباب" وكان رئيس المجلس حينذاك المرحوم كامل سالم وهو الرجل الذي ترك في قلب الشاعر أثراً خالداً من الحب الأبوي والرجولة الفذة والصداقة الخالدة.
ثم تحدث نقطة تحول هامة في حياته أعدها القدر له بعناية، وهو نقله إلى محافظة البحر الأحمربالغردقة بإدارة العلاقات العامة، وتدرج في مناصبها ثم مديراً لمكتب وزارة السياحة بالغردقة، وكانت السياحة في مبدأ أمرها لم تكن على ما عليه الآن، عمل العديد من الدلائل الإرشادية التي ساهمت كثيراً في مساعدة القائمين عليها، ثم عين وكيلا لمديرية التنظيم والإدارة، وبعدها مديراً لمركز المعلومات بالمحافظة، وظل به حتى خروجه إلى المعاش فى عام 1996م ومنذ أن نقل إلى الغردقة، كان يضنيه الشوق والحنين إلى مسقط رأسه الغربية، فهو مدرك أنه عائد بلا محالة، وأنها محطة كغيرها من المحطات السابقة، وكان يسّوف ويُؤجل، ويغريه المكوث مستمتعا بالصحبة الرائعة التي كان يجدها في منتديات الأدب، فكانت سلوانا له على الغربة، ومرت السنون وهو يضع في الحسبان الرحيل، حتى رحل فجأة في أيام كريمة في شهر رمضان 1419ه (1999م)، ولم تتحقق أمنيته التي تاق دوماً إليها وهى العودة ولم يعد بل استقر جثمانه للأبد بمدينة الغردقة التي عاش أكثر من نصف أيام عمره ..
كان أول أديب نال عضوية إتحاد الكتاب من محافظة البحر الأحمر، وأذيعت قصائد في البرنامج العام، قدمها له الشاعر العظيم فاروق شوشة في برنامجه (كلمات على الطريق)، وعرف الهروع إلى المنتديات الأدبية بالقاهرة والأقاليم، يتعرف إلى كبار الأدباء على رأسهم الشاعر صلاح عبد الصبور، والشاعرة ملك عبدالعزيز وغيرهم. محمد كمال هاشم شاعراً: وعن ولُوجه لميدان الشعر يقول: "منذ صباي وللشعر في حياتي قصة .. كان لأبى الفضل الأكبر في تنمية معرفتي الأدبية، كما لا أنسى "الدولاب" القديم الذي تركه لنا جدي، والذي قرأت معظم كتبه وفجأة في أحد الأيام – كنت في الرابعة تقريباً- وجدت نفسي أكتب كلاما موزوناً ما بين السجع والشعر فعرضته على مدرس اللغة العربية (الأستاذ محمد عبد الحليم عيسى) وبدأ أستاذي الحبيب يتابع صقل موهبته بالدراسة حينا وبالتشجيع حينا أخر...".
وقد تنوع الشعر لديه ما بين العاطفي وهو جل شعره في ديوانه المطبوع "غداً أعود" وشعر المناسبات في الاحتفالات التي كانت تقام في العيد القومي للمحافظة والشعر الصوفي..
هذا وقد احتل الريف النصيب الأوفر من وجدانه، حيث نشأ كما أسلفنا في قريته "ميت حواى" بروعة زرعها ورقرقة جداولها، وكثافة أشجارها وأيام الحصاد، ومنظر الفلاح وهو يذهب إلى حقله بدوابه في البكور، يرهف حسه رؤية هذه المناظر وتذكّره الدائم عندما كان يهاجمه الحنين لموطنه الأول يتذكر تلك الأيام الخوالي في قصيدة له بعنوان (شوقا إلى الريف الجميل) في ديوانه "أحاسيس وأصداء" يقول:- يا ضفاف الترعة الحيرى لجين أم ذهب هرع الشط إليه كلما الماء اَطرب فإذا صبت عليه كأس خر للأزاهر رقصت بين يديه وتغنى كل طائر إيه يا ترعة ما نجمي تولى أو خبا ما نسيت المنتدى ..كلا ..ولا عهد الصبا في عيون الصبح ..والصفاف قد جف نداه في سكون الليل والنسم خجول في خطاه كلما هام فؤادي بالسراب الحالم أحصد الشوق غلالات لطيْف واهم أجعل الرؤية سفينا فوق أمواج الظنون علها تحمل عطر الحب من غيث العيون أيها السائر في روضة ريفي وصباي حولك الجنة ..أفنان ..وألحان ..وناي ويقارن بين جو الريف وأجواء البحر الذي عاش فيه نصف عمره الأخير مفضّلا في النهاية جو الريف نبع الخير وأرض النماء والطبيعة الخلابة: إن تكن يا بحر ندا فاخضرار الحقل بحر شاطئاه سوسن رطب وأزهار وعطر لست وحدي من هواه ..فاسأل العشاق قبلي أتراهم فارقوه ..جحدوا بالخير مثلى؟ لمتني يا بحر يوما إن تنفست اشتياقا قد عرفت الريف أشهى منك بل أحلى مذاقا
والشاعر صوفي مُوجد، موله يذوب عشقا في حب الواحد مبرزاً قدرة الله في مخلوقاته يقول فى قصيدة بعنوان( قطرات في حب الله) من ديوان (أحاسيس وأصداء) قائلا: - طاف بالعطر قلت: هات نصيبي يا حبيبي وجدد الترتيلا رد صوت يقول للروح "إنا سوف نلقى عليك قولا ثقيلا" قلت الروح : هاته فهو زادي ليتنى أنهل الشراب الجميلا ليتنى أرشف الصفاء فأحيا ليتنى مثلكم شددت الرحيلا شفني الوجد يا رفاق فهاتوا نفحة الذكر أسكروني طويلا ذوبوني في غمرة النور إني كدت من فرط نوره أن أسيلا أنني قطرة من الحب لكن أينما سرت كنت وقعا جميلا فاذكروا الله كلما جن ليل إن ليل الصفاء أمسى قليلا وإذا أشرقت على الأرض شمس سبحوا الله بكرة وأصيلا
ولقد أوصلته إلى حالة من التصوف..فقد عرف طريقه بل أنه أراد أن يجعل من تجربته تجربة للإنسانية فنصب نفسه هاديا: أنا أعمى حملت النور في الظلمة أردت هداية الإنسان للحكمة لأبعده عن الطغيان والنقمة وأرشده لسبل الخير والنعمة
ويستمر الشاعر إلى نهاية المطاف مع تجربته الصوفية ، فهو يتعذب بين الشك واليقين .. يبكى ولكنها دموع التوبة وطلب المغفرة: معذب يارب ذاقنى الضنى يعيش في أعماق هذا الفضاء دموعه تنساب فيها المنى وقلبه يشفى بذل البقاء إن طافت الألحان في عزلتي فما عرفت اللحن إلا دعاء أو ثارت الأحزان في دمعتي فأنني أبكى بدمع الرجاء
وقد اكتوى بنار الغربة وفراقه أهله وصحبه وخلانه وبلدته التي مشى في مناكبها وهو في فترة الصبا والمراهقة، وفى الوظيفة حينما بُعد عنها، يحّن إليها ، لم يغب طيفها عنه ولو لحظة واحدة مؤْثراً الريف الوادع الرقيق عن جو البحر الهائج ذو العواصف المتلاطمة التي تزعج وترجف النفس فهو يخاطب أخته في قصيدته (أختاه غدا أعود) يصف لها مدى معاناته في الغربة ويبث فيها الطمأنينة واعداً إياها أنه سيعود إلى قريته يوما: لم يبق إلا هذه الساعات إني عن قريب سأودع الأحباب بالدمعات في شفق الغروب سأظل حيا رغم بعدى في أعماق الدروب سأظل حيا رغم قيدي ، فاصبري ،لا، لن أغيب
أختاه إن قرب الغروب فسوف يرتد الشعاع وأنا أنادى يا رفيقة معبدي حان الوداع
سأروح مغتربا مع النسمات في جوف المغيب فتذكري أن الزمان يدور في فلك الحبيب
وغدا أغيب وتذكرين وتسمعين وتحلمين وأدور أحتضن السنين فلا ترق ولا تلين ونكون يا أختاه بسمتها غدا أو لا نكون فإن التقينا ليس يعنينا الخلود أو المنون
وهذا قليل من كثير عن حياة هذا الشاعر الثرى، الذي طوّق بمؤامرة من الصمت من الجهات الثقافية بالمحافظة، الذين تقاعسوا عن الإشادة بدوره في نهضة الأدب وازدهاره في البحر الأحمر، برغم عقد العديد من المؤتمرات كمؤتمر أدباء مصر ومؤتمر وسط وجنوب الصعيد الثقافي، لولا الجهد البسيط الذي قمت بها من قبل للتعريف به وبأدبه في دراسة شافية وحث القائمين على المؤتمر الأخير لإقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي على تكريمه وقد كُرّم بالفعل.