ساهم جلال الأبنودى في الارتقاء بالأدب وفنونه في إقليم البحر الأحمر النائي آنذاك في الستينيات منذ أن وطأت قدماه هذا الإقليم، وحتى وفاته، لقد ربى خلال هذه الفترة جيلاً من الأدباء تولاهم بالرعاية حتى صاروا مشاعل للنور في الغردقة والمدن الأخرى، في كافة دروب الأدب: من شعر ونثر وقصة ورواية ومقالة أدبية، وكان لنشأته الأزهرية وتخرجه في كلية اللغة العربية، كلية القمة في الجامعة الأزهرية آنذاك، دور في إثراء ثقافته، فكان العالم الموسوعي في علوم العربية وآدابها. كان جلال الأبنودى بمقدوره أن يذهب إلى القاهرة عاصمة الأضواء، ولكنه آثر المكوث فى البحر الأحمر، لأنه رأى أنه من الواجب زرع الأدب فى هذه المنطقة المجدبة فى هذه الفترة المبكرة... فأخذ يعلم الناس أمور العربية وينهض بهم متنقلا بين المدن في القصير والغردقة وأخيرا أدى الرسالة، وتخرج على يديه كل أعلام الأدب فى هذا الإقليم الذى لم يعرف الثقافة قبله. ولد محمد محمود أحمد عبدالوهاب الشهير ب(جلال الأبنودى) في قرية أبنود بمحافظة قنا عام 1925م، من بيت كل أفراده يقرضون الشعر: الوالد وهو الشيخ محمود الأبنودى الذى كان شاعراً مجيداً ، خلّف ديواناً شعرياً كبيراً تناوله أحد الباحثين فى رسالة جامعية، ووالدته التى كانت تحفظ الصور الشعرية الموروثة فى الصعيد، وأخوته ... كان هو أبكرهم، ثم تلاه إلى مملكة الشعر أخوه الشاعر عبدالرحمن الذى لم يدعم أياً منهم فقد أبت طبيعته النرجسية ذلك. تلقى جلال تعليمه فى الأزهر الشريف، ثم بكلية اللغة العربية، ثم يتخرج فيها مزاملاً لطلاب صاروا من الأعلام بعد ذلك منهم: الدكتور محمد رجب البيومى ، والدكتور أحمد الشرباصى، وتلقى العلم على المشاهير منهم: أحمد شفيع السيد، وعبدالمتعال الصعيدى، ومحمد عبدالمنعم خفاجى ، بعد تخرجه حصل على شهادة معهد التربية العالي ثم عمل بعدها بالتدريس في مدرسة قنا الثانوية، ثم انتقل للعمل بالبحر الأحمر وبالتحديد في مدينة القصير التي تضرب بجذور طويلة في عمق التاريخ، من1963وحتى عام1969م، وفى سنة 1970م أُعير لدولة الكويت حتى عام 1974م، ثم عاد للبحر الأحمر ثانية بمديرية التربية والتعليم وحتى إحالته للمعاش 1990م. قبل مجيء الأبنودى إلى البحر الأحمر لم توجد به أي أنشطة أدبية، ومن حسن حظ هذا الإقليم أن حباه الله بهذا الرجل ، الذي عمل جهده في زرع بيئة أدبية فى هذا الإقليم الساحر ذو الطبيعة الخلابة النقية، التي ترهف حس كل شاعر يهوى الجمال ويقدّسه، فصار له مريدون وأعوان .. كانوا يجتمعون في جمعية الشبان المسلمين، وفى منزله الكل يدلو بدلوه ثم يعقب هو من بعد ناقدا لأعمالهم، وموجها إياهم إلى أقوم سبيل، فبدأ يعلمهم علم العروض والقافية ، وكذلك درّس لهم الأدب العربي عبر العصور، وكان للتنقل بين الدروب يسبب الحيرة والارتباك ففكروا فى إنشاء نادي لهم يجتمعون، فأسس هو والشاعر محمد كمال هاشم "جمعية أدباء البحر الأحمر" التى هى بمثابة الجامعة التى تخرج فيها كل أعلام الأدب فى الإقليم فيما بعد. وقد طرق جلال الأبنودى كل أنماط الشعر وتنوع فيه، من الغزل العفيف إلى شعر المناسبات والديني الصوفي والوصفي ، الإجتماعى ، وهو في ذلك ينتمي إلى مدرسة "الأحياء والبعث" حيث الصور الكلاسيكية، والألفاظ الفخمة ، حيث كان قاموسه الشعري زاخر بالمفردات العذبة الجزلة ، كما أن أشعاره لم تتطرق إلى الرمزية والإغراق في الغموض والطلاسم والحداثة، وإنما كان يميل إلى الأصالة .. فهو امتداد لمدرسة البارودي وشوقي وحافظ والكاشف ومحمد عبدالمطلب، ولم يؤثر عنه أنه كتب التفعيلة ، وإن تطرق لها أتباعه مثل: أحمد عمر وجمال بدوى وصلاح العويضى، أما الذي جاراه وسار على منواله: رمضان الخطيب ومحمد المعتصم والدكتور محمد أبو الفتوح.
جلال الأبنودى ...شاعراً يعرف الأستاذ جلال الأبنودى الشعر فى مقدمته لديوان "أحاسيس وأصداء" قائلا:"إنه اللوعة فى صدر الملتاع ، والأهة فى قلب المحزون ، والبسمة فى شفة السعيد ، والأرغول الذى يرسم أغانى الحب والجمال ، ولوحاته ليست إلا ترجمة فنية للسحر المتألق فى الزهرة النديانة والومضة الخاطفة فى النجم الثاقب ،والهالة الشفيفة حول جبين البدر الوضّاح ، وهو مع كل ذلك صوت الحق الذى يتدافع مع لهوات النفس العالية، ويتدفق من ينابيع الطهر الصافية، والصيحة المدوية التى يتردد صداها كالزئير ينطلق من الصدور الأبية، والنغم الحالم الأخاذ الذى تسمعه فتأخذك روعة سحره وإشراق ديباجته وتأنس إليه وتهش له حين ينسل إلى قلبك من عالم نئىٍّ خفىّ فيشجنك ويشجيك أو يوادك ويصافيك ، أو يناجيك ويناغيك، ذلك هو الشعر، وتلك هى موسيقاه التى تنبع من بلاغة تعبيره ، وسلامة أدواته ، ومما يصاحب هذه الأدوات من شجى وبكاء ، أوطرب وغناء ، ويتحقق به الإنسجام بين السامع والمسموع، والقارىء والمقروء، أو بين اللحن والصدى . والشاعر الشاعر هوالذى يستطيع بصدق بيانه أن يؤلف بين موسيقى الشعر وموسيقى الشعور ويستطيع بدقة ترجمته أن يصور ما يشتجر فى العواطف من انفعالات ، وأن يرسم ما فى الوجدانيات من مشاعر ومنازع كما يستطيع أن يحدو بشعره الأرواح والقلوب ، فيثير مساتيرها وخوافيها ويهيج كوامنها وخوابيها .إن الشعر والشاعر ضرورتان من ضروريات الوجود والحياة كما أرادها الله وهيهات يدرك ذلك إدراكا وجدانيا او عمليا نابعاً من حركة الحواس إلى الإشباع والإرتواء .." ففي قصيدة له في مدح المصطفى بعنوان: (عرفتُ الحب) يحشد فيها المعاني والصور، ويخيل لنا عند معانقة أول أبياتها أنه يتحدث عن خِلّ له، هاجه الصب وأضناه الشوق، حتى يجلى لنا فك لُغرها في أواخر أبياتها، وهى أعظم من مدح شاعر رسول الحق - صلى الله عليه وسلم - وهو في يسير على نهج الصوفية ك:الجيلانى، وابن عربي، وابن الفارض، لولا أنه لم يغرق في حبه، كما أحبوا هؤلاء القوم فيقول:
قالوا عرفت الحب؟ قلت: نعم ولمْ يشغلْ سواه من فؤادي موضعا قالوا: وتخضع للجمال ؟ فقلت : إى هو يطبينى سافرا ومقنعا أدنو وأسجدُ:للجمال مقدّساً وأفر أبعد عن جمال مُدَّعَى قالوا : ومذْ كم أنت نِِضْوُ صبابة قلت : اسكتوا مذ كنت طفلا مرضعا غفر الإله لوالدي فهو الذي روى فؤادي بالهيام فأجرعا
إلى أن يقول ويفصح عن نيته:
قالوا: ومْن هذا الحبيب ؟ فقلت صه أفغير(أحمد) من حبيب يدعى إني إذا غنيت باسم ( محمد) غنيته متضرعا متخشعا وإذا التقيت بذاكرين (محمدا) بكيت مثلهم بكاءً موجعا فأخو المحبة إن أصاب أخا المحبة باح بالمكنون وانتحبا معا يا زاد روحي يا معين حقيقتي يا شافعاً يوم الزحام مشفعا هذى مواجيدى أرتل لحنها قطرات قلب من جواه تصدعا
وكان لمصر نصيب من شعره، ففي قصيدة له من أجمل ما كتب عن مصر بعنوان (في محرابها) صوّرها في أبهى صورة، وأزين حلة ، فهو يذكرها في غدوه وترحاله ولون خديها كلون مجده المفروش بالطهر والصدق والإيمان وجمالها ملء الكون منتشراً في سمعه وفى بصره، تحتل وجدانه وتسيطر عليه، وحبه لها اتحد مع قلبه فصارا كائناًً واحدا يذكره لكل الناس في غدوه وترحاله ونومه وسهره، وهو يرى هذا الحب أيضا في العلم والحضارة والجيش الذي يجلب لها الانتصار، وفى كل من أعطى وأسهم في بناء صرح العلا والتقدم والنصر فيقول :- منك الجمال ومنى أقدس الصور مرتلات بتنغيمي على وترى وأنا وأنت كلانا بيننا رحم أنا وأنت كلانا عاشق الغرر أنا أدين بدين الحب تكرمة له وأسجد في الآصال والبكر هذا جمالك ملء الكون منتشرا هذا جمالك في سمعي وفى بصري أراه في الجيش يعلى قدر أمته يصمى بضربته المخدوع ذا البطر أراه في كل من أعطى وأسهم في بناء صرح العلا أو كان ذا أثر فالحب دين ودين الله مكرمة يا مْن يدين بدين الحب والطهر فنحن أبناء مصر نحن عدتها ونحن حراسها في حومة الغير ومصر مصر(كما قال أولنا) (من صنعة الله لا من صنعة البشر)
ولا ينسى دور الأزهر في تكوينه العلمي والأدبي، منذ أن كان حدثاً وحتى شبيبته طالبا للعلم، فهو يدين له بكل فضل، وإن أغرقه مدحا لا يوفيه قدره، ففي قصيدة بعنوان (تحية الأزهر) يبين تلك المعاني، فالأزهر هو المعقل للثقافة العربية حتى في أحلك العصور ظلمة، كالطود مرتكز الجوانب ثابتا بمنهجه السليم ووسطيته وتسامحه وقد قاد الأمة ضد المحتل الغاشم يقف له بالمرصاد كاشفا عواره وكذب أدعائه يقول:
لبيت شوقى إذ دعا فى كل االورى (قم فى الدنيا وحى الأزهرا) فبأى لحن أبتديك محييا وبأى تبيان أبين معبرا ؟ وصباى منك جماله وشبيبتى هذبتها ونفيت عنها المنكرا والعهد فيك وما محوت ظلاله قد كان أحلى العمر عهداً مثمراً أنا غرسك النامى فقد غذيتنى وسقيتنى من فيض عذبك كوثرا أقسمت باسمك ما ذكرتك تائها إلا اهتديت وكنت أنت مذكرا أنا لو نظمت العمر فيك ممجدا واشعت هذا الحب لحناً مسكراً بل لو وهبتك نور عينى (والذى خلق الضيا) لعجزت عن أن أشكرا فالفضل منك ومن ضياك ثقافتى أفإن كبرت أشيح عنك تكبرا؟ وأنا الذى ملأ المحافل شعره ونثاره أرجا يفوح معطرا وبناك جوهر تلك كانت عادة فى الفتح : قبل الحكم يبنى المنبرا يا معقلاً كنت الملاذ لأمة فى الحالكات مبشراً أو منذراً كالطود مرتكز الجوانب ثابتاً تختط منهجاً السليم مقرراً يا تاج مصر وصوتها وهتافها وملبى الصرخات إن خطب عرا يا منتج الضربات بكراً فى الوغى قد كنت للرأى الموحد مصدرا عبث السياسة كم كشفت خبيئة وفضحت ما قد كان منه مضمرا الشعب كنت ضميره وظهيره ولسانه ذربا وعنه معبراً الشعب كم قومت منه أعوجا وأحلت فيه النشء خلقاً آخرا والله لولا أن فيك عصابة شدوا العزائم وارتدوها مظهرا رهبان علم لا ينون بفضلهم العلم والدين الحنيف تآزرا يا قوة تحمى الحقيقة كلما جاس الضلال خلالها وتسترا عظمت لديك حضارة عربية فحفظتها من أن تموت وتقبرا وبنيت للدين الحنيف رواقه ونفيت عنه باطلاً ومزورا ومحوت عنه كل شائنة فأصبح كالسحائب طاهراً ومطهرا علمت مصرا كيف تبلغ عزها فى الجو فى البحر العظيم وفى الثرى وجعلت مصر للكفاح معسكراً وهتفت حى على الجهاد مكبرا مرت عليك من الخطوب عواصف هوجاء قد تركتك أصلب عنصرا نشر العدو مبادئاً هدامة فوقفت صلباً لا رياء ولا مرا ووقفت للطغيان حتى سمته ذلاً وإركاساً فعاد مبعثراً ودعوت جهراً فى المجامع كلها شر المبادىء ما يباع وما يشترى يا كعبة القصاد دمت محجة للسالكين معلماً ومؤثراً وتذود عن هذا الدين عداته وترد عنه كل إفك مفترى سأظل طول العمر أدعو خافقى (قم فى الدنيا وحى الأزهرا)
وقد استمر الأبنودى في البحر الأحمر، يؤدى رسالته حتى رحل في يوم21يناير2001م، بعد أن أنشأ فيها نهضة أدبية وكانت من قبل يعدم فيها أى نشاط أدبي، وآن لنا أن نُكّرم هذا الإنسان ونجمع شتات شعره فى ديوان وننصفه بعدما عانى من الإجحاف فى حياته وبعد مماته.