بين ضجيج الحوادث اليومية التي تغمر مواقع التواصل ووسائل الإعلام، يجد الأطفال أنفسهم أمام سيل من الأخبار المليئة بالعنف والتحرش والتنمر، وحتى حوادث الاعتداء البشعة، ومع هذا التعرض المستمر يواجه الأطفال خطرا نفسيا كبيرا؛ فمع براءتهم، قد تتأثر عقولهم بسهولة بما يرونه ويسمعونه. ورغم أن الهدف من التغطيات الإعلامية هو كشف الحقائق، لكن النتيجة غير المقصودة قد تكون طفلا خائفا ومرتبكا أو عاجزا عن فهم ما يسمعه أو يراه، خاصةً مع امتلاك معظم الأطفال اليوم هواتف ذكية وارتباطهم بالسوشيال ميديا أكثر من أي وقتٍ مضى، لذا تصبح حماية الطفل من الآثار الصادمة للأخبار ضرورة تربوية ونفسية لا تقل أهمية عن حمايته الجسدية. وفي هذا التقرير، تواصلت "الشروق" مع عدد من الخبراء وأساذة الطب النفسي وعلم النفس التربوي؛ للوصول إلى رؤية متكاملة حول السبيل الأمثل لحماية الصغار. يقدم الدكتور محمد فوزي عبد العال، والدكتور تامر شوقي، أستاذ علم النفس التربوي في جامعة عين شمس، رؤية متكاملة لحماية الصغار. كيف يفهم الطفل الأحداث الصادمة؟ يقول الدكتور محمد فوزي عبدالعال أستاذ المخ والأعصاب والطب النفسي بكلية الطب في جامعة أسيوط، إن الطفل لا يستوعب الأحداث المؤلمة بالطريقة التي يفهمها البالغون؛ بل يراها من خلال عدسة عاطفية، ضيقة وغير مكتملة، كونه يلتقط الصور والمشاهد والمفردات دون القدرة على التفريق بين الحقيقة والمبالغة أو فهم السياق الكامل، ما يجعل الطفل يبالغ في تقدير الخطر، ويتخيل أنه قد يكون الضحية التالية، وبدوره يعمم الحدث كأنه يحدث في كل مكان، ويشعر بالعجز والخوف من الكبار أو المدرسة. وأضاف أستاذ الطب النفسي، أن عقل الطفل "يتعامل مع المعلومة الصادمة كتهديد مباشر، حتى لو كانت بعيدة عنه"، ما قد يؤدي إلى الشعور بالقلق ورؤية كوابيس واضطراب النوم، أو التعلق المفرط بالوالدين. التكرار يصنع الصدمة يؤكد الدكتور تامر شوقي أستاذ علم النفس التربوي في جامعة عين شمس، أن الخطر الأكبر لا يأتي من الحادث نفسه، بل من تكرار التعرض لصور ومقاطع وتغطيات تفصيلية؛ فالطفل الذي يشاهد أو يسمع عن حادث اعتداء أو تنمر عدة مرات يوميا قد يدخل في حالة "تقمص دور الضحية"، فيتوحد مع الطفل المعتدى عليه، ويعيش نفس خوفه ورعبه دون أن يفهم سبب ذلك. ويضيف أستاذ علم النفس التربوي، أن بعض الأطفال، خصوصا ذوي الحساسية النفسية، قد يطورون ألأمور إلى الخوف الشديد من الذهاب إلى لمدرسة، وانعدام الثقة بالكبار، والقلق الاجتماعي، أو يتجنبون كل ما يذكرهم بالحادث، بينما الأطفال الذين مروا أصلا بتجارب مؤلمة سابقا قد تثير تلك الأخبار ذكريات مكبوتة لديهم وتتسبب في تفاقم آثارا نفسية لم تُعالج. دائرة التأثير يتفق الخبيران على أن الأسرة هي حجر الأساس في حماية الطفل من أثر الأخبار الصادمة، ويتمثل هذا الدور في خطوات واضحة؛ أولها المراقبة الهادئة دون تجسس، فليس المطلوب حرمان الطفل من الإنترنت، ولكن متابعة ما يشاهده وتحديد الوقت وتفعيل أدوات الحماية، وكذلك فتح باب الكلام بحرية، لأن الطفل لن يتحدث إلا إذا شعر بالأمان، ويجب دائما سؤال الطفل عن يومه، وما إذا رأى أو سمع شيئا أزعجه، مع تجنب اللوم أو السخرية. ويؤكد الخبيران، ضرورة تقديم تفسير بسيط وغير مرعب، فعند سؤال الطفل عن حادث مؤلم، ينبغي تبسيط الأمور: "هذه حوادث نادرة والكبار يتصرفون لحمايتك، والمدارس تضع قوانين، والشرطة تعاقب المعتدين". ويشير الخبيران، إلى أهمية عدم تضخيم الأخبار داخل المنزل؛ لأن التحدث أمام الأطفال عن هول الحادث أو خطورته يضاعف تأثيره النفسي، فضلا عن تعزيز الشعور بالأمان الذهني والجسدي من خلال قواعد واضحة، مثل من يحق له لمس جسده؟، أو ماذا يفعل إذا شعر بالخطر؟ ومن يخبر؟. المدرسة تبني الأمان أو تهدمه يشدد الدكتور تامر شوقي، على أن المدرسة ليست فقط مكانا للتعليم، لكنها بيئة تشكل إحساس الطفل بالأمان، ومن أهم الإجراءات المطلوبة زيادة عدد المشرفين والمعلمين في الأدوار والساحات، وتركيب كاميرات في المناطق غير المرئية، موضحا أنه لا بد أن يكون هناك تواصل دائم مع أولياء الأمور، وإدماج دروس مبسطة عن حماية النفس ضمن المنهج، فضلا عن استخدام الإذاعة المدرسية للتوعية دون ترهيب، وإشراك الأطفال في أنشطة تمنحهم الثقة والانتماء، مؤكدا أن الطفل العادي الذي يحاط بالطمأنينة داخل المدرسة غالبا لن يعاني تأثيرا طويل المدى من متابعة الأخبار الصادمة. الإعلام بين كشف الحقيقة وصناعة الذعر يشير الدكتور محمد فوزي عبدالعال، إلى أن الإعلام قد يتحول دون قصد إلى عامل يزيد من خوف الأطفال، حال تم التركيز على العنف والتفاصيل الصادمة، مشددا على ضرورة أن تتجنب وسائل الإعلام نشر صور الأطفال الضحايا، والامتناع عن إعادة بث المقاطع العنيفة، مع تقديم محتوى توعوي للأسرة بدلا من التهويل، وكذا وضع تحذير واضح لعدم مناسبة المحتوى للأطفال. ويري خبير الطب النفسي، أن الإعلام التربوي يمكن أن يكون أقوى داعم للأطفال إذا ما قدم برامجا تعلمهم كيفية مواجهة الخطر دون خوف أو جلد للذات. متى يحتاج الطفل إلى دعم متخصص؟ يوضح الخبيران أنه يجب اللجوء إلى مختص نفسي عندما تظهر على الطفل بعض الأعراض، مثل: عزلة واضحة، نوبات هلع، كوابيس مستمرة، تجنب شديد للمدرسة، فقدان الشهية أو اضطراب النوم، وسط تأكيد على أن الأطفال الذين لم يتعرضون لأذى مباشر عادة لا يحتاجون إلى جلسات علاجية، بل فقط احتواء أسري وطمأنة واضحة. حماية الصغار تبدأ من الكبار يتفق الخبيران على أن الأطفال لن يتوقفون عن رؤية الأخبار الصادمة لكن يمكن للكبار أن يقللون من أثرها، وأن يعيدون للطفل ثقته بالعالم؛ لأن الحماية لا تبنى من خلال الخوف بل بالتوعية، ولا تتحقق بالإخفاء، بل عن طريق الاحتواء، ولا تعتمد على المنع، بل على فهم كيف يرى الطفل العالم وكيف نكون نحن نافذته الآمنة إليه.