إذا سألتنى عن أهم إنجازات ثورة يناير فلن أتردد فى أن أضع لك ضمن أهم ثلاثة أو أربعة إنجازات صدور قانون انتخاب شيخ الأزهر، الذى تم التصديق عليه أمس الأول، والذى بموجبه يصبح تعيين شيخ الأزهر باختيار هيئة كبار علمائه من خلال تصويت ديمقراطى حر، وليس بتعيين من رئيس الجمهورية أو أى شخص آخر فى الجهاز التنفيذى للدولة، هذا حدث تاريخى بكل المقاييس. مقام شيخ الأزهر ليس مقاما دينيا بحتا، ولكنه منصب له تداخلات سياسية واجتماعية وحقوقية وإنسانية متشعبة، ولذلك يكون من الغفلة والتسطيح أن يتعامل معه بعض القوى السياسية بوصفه "منصبا دينيا" ينبغى عزله عن الحياة العامة، الأزهر بطبيعته وتكوينه ورسالته وتاريخه وحضوره لا يمكن أن تعزله فى حيز دينى مغلق بالمفهوم الضيق للدين، وإذا فعلت ذلك فكل ما تنتجه أن تنعزل أنت عنه، وتترك مساحة للطغاة والمستبدين أن ينفردوا به ويستثمروا حضوره الروحى والعقلى والسياسى الكبير فى المجتمع لخدمة أغراض ضد الديمقراطية وضد مصالح الشعب وضد إرادة الأمة، بل وتحويله إلى أداة قمع إضافية. على مدار التاريخ كان الأزهر، بتلقائية كاملة، مفجر ثورات الغضب للشعب المصرى ضد الطغاة أو ضد المحتلين، وكان المصريون عندما يضجون بمظالم الولاة يلجأون إلى الأزهر، وكان شيخ الأزهر عندما يأتيه وفد من إحدى مناطق البلاد يشتكى الولاة والظلم والضرائب أو الإهانات يكفيه أن يغلق أبوابه ويعلن الاعتصام أو الإضراب لكى يهرع إليه الولاة يستجدون ترضيته ويرفعون المظالم عن الناس، وحتى فى الفترة التى هيمنت فيها الروح الاشتراكية على مصر أيام الرئيس عبد الناصر، عندما تشعر البلاد بالحصار وتدخل فى محك تاريخى يلجأ الرئيس إلى منبر الأزهر لكى يحشد الشعب للصمود والمواجهة لأنه يعرف جيدا قوة الحضور الشعبى لهذا المنبر، وشهيرة هى مواقف شيخ الأزهر الراحل الدكتور عبد الحليم محمود فى وجه نفوذ حرم الرئيس السادات ورفضه تمرير القوانين التى كانت تفصلها على مقاسات بعينها ورفضه كل الإغراءات بما فيها رفضه أن يغادر شقته القديمة والصغيرة فى حى حدائق القبة حتى وافاه الأجل، وفى الحالة الإسلامية تحديدا يستحيل أن تفصل الدينى عن السياسى بشكل صارم، أو تفصل الدينى عن الحقوقى أو الاقتصادى، هى أمور متداخلة بطبيعتها، وبالتالى أن تمنح المؤسسة الدينية الأخطر والأهم استقلالها وحريتها، بحيث يكون قرارها بيدها وليس بيد أى شخص أو طاغية، فأنت تستعيد هذه القوة الاجتماعية الجبارة لتنحاز إلى الشعب والوطن وليس الأشخاص أيا كانوا، وإذا كانت إحدى أهم عوامل نجاح الديمقراطية فى مجتمع أن يكون هناك توازن قوى بين المؤسسة التشريعية والمؤسسة التنفيذية والمؤسسة القضائية، فإن فى بلادنا خصوصية إضافية تحمى الديمقراطية وتمثل أهم ضماناتها، وهى استقلالية المؤسسة الدينية، نفوذها وحضورها يغل يد السلطات التنفيذية عن التجاوز إذا ضعف حضور البرلمان، وتحمى البرلمان نفسه من التعسف فى استخدام سلطاته إذا هيمنت عليه قوة بعينها فى مرحلة بعينها. قرار انتخاب شيخ الأزهر من أعظم انتصارات الشعب المصرى فى ثورة يناير، وعلى الجميع أن يعض على هذا المكسب بالنواجذ، ولا نفرط فيه أبدا. [email protected]