تأثرت كثيرا بما قرأته خلال اليومين الماضيين للناشط السياسي علاء عبد الفتاح ، سواء كان المقال الذي نشره في الجارديان البريطانية أو الحوار الذي أجرته معه إحدى الصحف المصرية الخاصة ، كانت الروح العامة في الحالتين مترعة بالاكتئاب السياسي وما يشبه الإحباط وغياب الأمل أو الطموح في التغيير ، بدا علاء عبد الفتاح في حالة إنسانية تتجه إلى مراجعة شاملة لمسارها السياسي والإنساني ، إدراك غامض بأن خطأ ما ينبغي أن يتجاوزه ، حياة جديدة ينبغي أن يعيشها ، ورغبة في الهجرة والابتعاد عن الوطن ، والعيش في مكان من الدنيا أكثر هدوءا وأبعد عن الصراعات ، وقد علمتني خبرات السجون والمعتقلات أن ما يقال فيها ويكتب لا يمكن عادة أن تبنى عليه رؤية حقيقية وثابتة تجاه المستقبل ، هي مشاعر مؤقتة تفرزها العزلة الجسدية والفكرية والروحية ، والحرمان الشامل ، من كثير من أبسط حقوق الحياة والكرامة ، ويكون وقع تلك الحالة أشد عنفا على التكوين النفسي والسياسي الطوباوي أو الراديكالي ولا أقول المتطرف ، بينما تكون تلك الأزمة النفسية والمعنوية والروحية أقل وطأة على الشخصيات التي تمتلك تكوينا نفسيا وسياسيا أكثر مرونة واعتدالا ، ومن يقرأ على سبيل المثال المذكرات التي كتبها الراحل الكبير علي عزت بيجوفتش ، الناشط السياسي والقائد الحقيقي لثورة الشعب البوسني ، أيام سجنه الطويل ، مثل خواطره التي جمعت في كتاب "هروبي إلى الحرية" ، سيجد روحا مختلفة تماما ، أكثر تفاؤلا بالمسقبل ، وأكثر ثقة بانتصار الحق والعدل ، وأكثر مرونة في تقبل الانكسار المؤقت ، وأقل تأثرا بمشاعر الحرمان وضيق الحياة خلف القضبان . علاء كما يبدو من سيرته شاب وافر النبل ، كما أن البيئة الحاضنة له كانت بيئة مميزة بهذا النبل أيضا والروح العالية والعمل من أجل الآخرين ، هكذا كان والده المرحوم أحمد سيف الإسلام ، الذي اجتمعت كل التيارات على حبه واحترامه ، رغم يساريته العقائدية الملتزمة ، وعلاء كان له موقف نضالي ضد كل السلطات التي شهدتها مصر طوال العقد الماضي كله ، فقد كان معارضا لنظام مبارك ، كما كان معارضا للمجلس العسكري من بعد الثورة ، كما كان معارضا لمحمد مرسي والإخوان بعد ذلك ، وأخيرا كان معارضا للسيسي ونظامه ، فهو على يسار السلطة دائما ، والمثقف الحقيقي ، المثقف النبيل لا يعيش في حضن السلطة أبدا ، أيا كانت ، هو دائما على يسارها ، وهذا ما يقطع بنبل علاء السياسي ، حتى لو أخطأ في تقديره للواقع أو اختياره للموقف في لحظة ما ، إلا أنه يصدر عن قناعاته بأنه يضحي من أجل الأفضل لبلده وناسه ، وتبقى المشكلة مع علاء ، كما مع كثير من النشطاء والمعارضين ، هو الإرهاق السياسي والإنساني والحقوقي ، نظرا لتوالي الصدامات مع نظم سياسية مختلفة ومتنوعة ومتوالية في فترة زمنية قصيرة ، وفي كل مرة نكون قد دفعنا الثمن وحلمنا بالأفضل وتصورنا أننا وصلنا خط النهاية والنصر وامتلكنا الأفضل ، ثم نفاجأ بأن ظننا خاطئ ، وتقديراتنا غير صحيحة ، فنبدأ من جديد ، ذلك مرهق جدا ، أكثر من أن تناضل ضد نظام واحد ، حتى لو طالت مدة ذلك النضال . رسائل علاء عبد الفتاح هي حالة نفسية مؤقتة بكل تأكيد ، ولا يصح أن تحمل على محمل التغير الفكري والسياسي أو انقلاب المسار ، هو سيتغير حتما بطبيعة الحال ، لكنه التغير الذي يمثل تطورا طبيعيا لخبرات الإنسان ، وسيكون لهذا التطور بصمته على الاختيار السياسي والإنساني في خطواته المقبلة ، وأعتقد أنه سيكون باتجاه أكثر اعتدالا وواقعية وأكثر اقترابا من مكونات الطيف السياسي كله ، وهذا يمنحه نفسا أطول في النضال من أجل الحرية والكرامة والعدالة ، وعلاء شاب ما زال في بداية الثلاثينات ، والنضج السياسي والنضج الإنساني يأتي مع الوقت ، وعلاء عبد الفتاح بحاجة إلى التضامن السياسي والإنساني مع محنته ومحنة كثيرين من الشباب من أبناء جيله ، كما أن هؤلاء الذين لا يملون من إعطاء المواعظ والحكم على صوابية مواقفهم وأن الآخرين ينبغي أن يعترفوا بأنهم أخطأوا في حقهم ، على هؤلاء أن يكون أكثر تواضعا ، فهم أول من أخطأوا ، وربما بأعظم مما أخطأ به الآخرون ، ومن أخطأ بنبل وضحى من أجل الوطن ، كل الوطن ، ليس كمن أخطأ بانتهازية وضحى من أجل الجزء الذي يخصه من الوطن ، وأي مخلص لهذا الوطن ، وثورته النبيلة ، ثورة يناير ، يلزمه مراجعة أخلاقية وسياسية عاجلة ، وإعادة النظر في موقفه من رفقاء الثورة ، ومكوناتها ، وأن يكون ظهرا للآخرين ، ورفيقا بهم ، لا أن يكون ندابة تنشر الإحباط وتمزق النفوس وتقطع الطريق على وحدة الإرادة ، فهؤلاء في الحقيقة هم أعظم داعم للاستبداد وليس للثورة والإصلاح . يا علاء ، لست مدينا بأن تعتذر لأحد ، فكلهم أخطأوا ، كلنا أخطأنا .