مصر بالتأكيد تتغير.. غير أن البعض لايزال يتشكك، ويرى أن الوضع "محلك سر".. ربما بحكم "الإلف" والتعود على "الإنجازات" فلا يكاد يشعر بوجودها. لن نتحدث هنا عن محاكمة مبارك وإيداع نجليه سجن طره، وحبس سدنة نظامه وأجهزته الأمنية العاتية.. وتحويلهم إلى "فرجة" للعالم كله. مصر شهدت منذ 25 يناير الماضى "إنجازات" كبيرة.. ينبغى أن نعترف بها.. صحيح أنها ما زالت تحت سقف أشواق وأحلام المصريين.. غير أنها من مفاجآت "الغيب السياسى" الصادم: فمن كان يتوقع أن يرى يومًا ما هذا الطاغية وعائلته وأركان حكمه خلف القضبان أمام المحاكم؟! إن المسألة لا تحتاج إلى حرق المراحل، وإنما تترك للتطور والتراكم والمران واكتساب الخبرات.. فأكثر من 60 عامًا من القمع والحرمان من أية حقوق سياسية كانت كافية لإحالة البلد كله إلى محض "جغرافيا" خالية من ال"بنى آدمين".. وإلى تأصيل حالة شديدة البؤس من "الجاهلية السياسية" التى تحتاج إلى وقت لإعادة التأهيل والتنوير والإحساس بوهج اللحظة ومتعتها. حتى قبيل الانتخابات على سبيل المثال كان "التوافق" بين القوى السياسية، محض "أفيات" أو خطاب نخبوى للمناورة أو من قبيل "الإتيكيت السياسى" للتغطية على النزعة المتطرفة نحو التفرد والاستئثار بصدارة المشهد السياسى الرسمى فى مصر. بمضى الوقت وبالمران وبالخبرة بات الجميع بمن فيهم القوى السياسية "العملاقة".. يقتنع بأن البلد كبير.. وتحديات ما بعد الثورة أكبر.. وأنه من النزق أن تتحمل قوة سياسية واحدة مسئولية إدارة الدولة.. وأن "المغالبة" تعد تطرفًا قد تورد صاحبها مورد التهلكة. بعد مرور عام على الثورة.. لا يزال البعض يرى فى الوطن "قيمة مجردة".. وهى نظرة "رومانسية" تأخذه بعيدًا عن الواقع الموضوعى.. والإسراف فيها سيؤدى إلى الصدام وإلى فتن كبيرة قد تعيق التحول الديمقراطى وفق الجدول الزمنى المقترح. فالوطن تتنازعه قوى سياسية وأمنية وعسكرية ومالية ومهنية وإعلامية ودينية.. ولكل مصالحه التى يجب أن تراعى وتحترم.. ويظل تجاهل تلك المصالح مركزا لزلزل سياسى "عاتى" قد يفاجئ المجتمع المصرى من حيث لا يحتسب. وفى تقديرى أن الجماعة السياسية المصرية تحتاج إلى وعى جديد ينقلها من "الدروشة" الأقرب إلى "الرمانسية" المجردة.. إلى وضع أكثر حميمية مع الواقع ومع القوى الوطنية الكبيرة التى لها مصالح مفصلية، وتشعر بشىء من القلق بشأنها وتحتاج إلى "طمأنة" من خلال الحوار الرصين المؤدى إلى تسوية ترضى الجميع وتراعى مصالحها وفق الأوزان النسبية للقوى السياسية المشكلة للطيف السياسى المصرى. ولعل هذا الوعى هو الرقم الغائب الآن فى أصعب مسألة تمثل أهم تحد فى تاريخ مصر الحديث.. وهو كتابة الدستور الجديد. [email protected]