الحراك الداخلي العنيف الذي يجري في جماعة الإخوان المسلمين هو في جوهره أحد الاهتزازات التي تمثل "توابع" زلزال 25 يناير 2011 ، تلك الثورة التي هزت مصر كلها ، حكومة وشعبا ، أحزابا ومؤسسات ، يسارا ويمينا ، دينيا وعلمانيا ، الكل اهتز بقوة ، وظهرت حسابات وتوازنات جديدة عند الجميع ، ربما الأمر تأخر نسبيا في جماعة الإخوان بفعل نجاح الثورة وزخمها وكون الجماعة القوة الأكثر تنظيما والأكثر استعدادا لاقتناص فوائد الثورة ونجاحاتها ، وفي العادة ، لا تقع المراجعات عند النجاح أو في مسار تفاؤل وانتصار ومكاسب ، وإنما تظهر بقوة عندما تحدث الانتكاسات والتراجعات وتبرز الخسائر . لا معنى لتكرار الحديث عن أخطاء الإخوان في تجربة يناير ، فقد أخطأوا ، ولكن أيضا الآخرين أخطأوا ،الجميع أخطأ ، والجميع أساء التقدير ، وإن كان بطبيعة الحال خطؤهم أعظم ، بحكم ضخامة حضورهم في المشهد ، وبحكم أنهم تولوا المسئولية بالفعل في حكم مصر ودخلوا مؤسسة الرئاسة ممثلين لقوى الثورة ، ثم ضاع كل شيء خلال عام واحد ، وضاع الجميع معه ، الإخوان وغيرهم ، بدرجات متفاوتة من الضياع ، ليس هذا وقت مثل هذا النقاش ولا هو موضوع هذه السطور ، وإنما موضوعها هو هذا الحراك الذي يبدو فيه تياران يتنازعان الشرعية في قيادة الجماعة ، وهو انقسام أجيال بشكل واضح وصريح ، فالشيوخ والكبار وأصحاب التجارب القديمة يحتشدون في خندق ، والشباب والأجيال الجديدة وأصحاب التجارب الجديدة يحتشدون في الخندق المقابل . يعود صراع الأجيال إلى خبرات كل جيل ، فالأجيال التي عاشت محنة المواجهة مع عبد الناصر وتشكلت ولاءاتها في السجن الحربي وتحوصلت خبراتها الفكرية في ميراث الشيخ حسن البنا وأدبيات الأستاذ سيد قطب رحمهما الله ، تختلف عن الأجيال التي نشط وعيها في حراك سياسي أكثر انفتاحا في عهد مبارك ، سياسيا ومدنيا وحقوقيا ثم توهج كثيرا مع ثورة يناير ونيرانها التي صهرت مكونات المجتمع في بوتقة واحدة ، وتحول ميدان التحرير إلى أكبر جبهة سياسية ثورية عرفتها مصر ذابت فيها الخلافات الأيدلوجية وأدرك الجميع أنهم لا ينتصرون إلا بهذا الذوبان ، وعندما نسوا تلك الحقيقة وتفرقت بهم السبل خسروا كل شيء ، الإخوان وغيرهم سواء . والجيل القديم من الإخوان يتشكل وعيه السياسي من خلال أطر تنظيمية صارمة تقوم على الولاء والسمع والطاعة للأمير "المرشد" ، وفكرة المؤسسية رغم وجودها نسبيا أو شكليا إلا أنها تبقى ضعيفة أمام فكرة الولاء والسمع والطاعة ، وتفسير تقليدي ضيق للنصوص النبوية في ذلك الأمر ، مع ضعف حضور الاجتهادات الحديثة في صياغة نظريات سياسية إسلامية تستوعب ما استجد في الميراث البشري وخبراته ، وهذه للأمانة مشكلة معظم الجماعات الإسلامية ، وليس الإخوان وحدهم ، بينما الجيل الجديد هو أقرب إلى فكرة المؤسسية والديمقراطية حتى في هياكل العمل السياسي ، وأن فكرة الولاء والثقة لا يمكن أن تكون بديلا عن المؤسسية و"دمقطرة" البنية التنظيمية للعمل ، ولكن كانت دائما القيادات المتمسكة بقاعدة الولاء تفرض إراداتها وتخفي عيوبها وتهمش أي قدرة مؤسسية على مناقشة أخطائها وربما خطاياها . مسار التاريخ ، والتحولات السياسية بعد الربيع العربي ، والآفاق الهائلة التي فتحتها تقنية المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعي ، تنتصر للشباب على حساب الشيوخ ، ويصعب تصور استمرار فكر وعقلية وثقافة تشكلت قبل نصف قرن تقريبا في التحكم في جسم سياسي كبير مثل الإخوان عنفوانه وقدراته الأهم يمثلها الشباب ، ولا يملك الجيل القديم من قدرة على وقف مسار التاريخ ، رغم أنه يمتلك القدرات المالية للجماعة ويسيطر عليها بالكامل تقريبا ، وهي ثقل كبير ومؤثر ، لكن استمرار العناد ، والعنت في إفساح المجال أمام الطاقات الجديدة للتصحيح والإنقاذ لن يعيد الجماعة كما كانت ، بل سيعرضها لانهيار تاريخي . الفكرة الأساسية التي نبتت في ظلها جماعة الإخوان في العشرينات من القرن الماضي ، كبديل شعبي للخلافة التي تم إعلان زوالها قبل حوالي ثلاث سنوات من نشأة الجماعة ، وهي الفكرة التي تتصور أن "الجماعة" هي الوريث لمشروع الخلافة ، الممثل للإسلام في جميع شؤون الدنيا والدين ، وأن الولاء لها هو الولاء للإسلام ، وأن الطاعة لقائدها أسبق وأهم من الطاعة لأي جهة أو شخصية أخرى مهما كانت شرعيتها السياسية في الدولة ، وأن الخروج عنها أو منها هو طعنة للإسلام أو ما هو أعظم ، هذه الفكرة انتهت عمليا من سنوات طويلة ، وقد ثبت أنها كانت عبئا كارثيا على أجيال الحركات الإسلامية ، حرمتهم من الانخراط في بناء دولهم وتصحيح مسار أمتهم ، ووضعتهم في صراعات بلا نهاية مع نظم الحكم المختلفة ، استنزفوها واستنزفتهم ، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، ممالك وإمارات وجمهوريات ، منذ سبعين عاما وحتى اليوم ، وحتى عندما تولوا السلطة وضعتهم في صرع مع المجتمع نفسه ، فكان ما كان ، وقد آن لتلك الفكرة ، التي أصبحت "قالبا" تاريخيا صبت فيه كل الأفكار التنظيمية الدينية التي تلته لجماعات أخرى ، آن لها أن تطوى لتصبح تاريخا من التاريخ ، وأن ينفتح أبناء المشروع الإسلامي أكثر على المجتمع والفكر والسياسة والاقتصاد والفنون والمعارف ، وأن يستوعبوا ضرورات منطق الدولة الحديثة ، الدولة القطرية ، وأن ينشط الناشط فيهم في مجال يحسنه ، والعمل السياسي هو عمل من خلال أطر تنظيمية حزبية مدنية منفتحة وتمثل المجتمع كله ، وليس جماعة ولا تنظيم ايديولوجي ، والعمل الدعوي عمل ديني توعوي وتثقيفي يحفظ المسافة كافية بينه وبين النشاط السياسي ، وكذلك العمل الحقوقي وغيره ، لم تعد فكرة التنظيم المهيمن والممثل لكل شي من شؤون الدنيا والدين معا ، والبديل للدولة أو الحكم أو حتى المجتمع ، لم يعد يصلح نهائيا للعمل والاستمرار في عالم اليوم . في الخبرات السياسية المدنية الحديثة ، والتي تبنى على مؤسسية حقيقية ، تكون هناك آليات داخلية للمراجعة والحساب ، ويكون هناك إحساس بالمسئولية لدى صانع القرار وصاحب القرار داخل الحزب ، ويتحمل كامل المسئولية عن انتكاسات الحزب أو أخطائه أو تراجعاته ، وهذا ما نراه في العالم كله ، حيث يتقدم رئيس الحزب أو مكتبه السياسي بالاستقالة إذا خسروا نزالا سياسيا كبيرا أو أخطأوا التقدير والحسابات مما تسبب في كوارث للحزب أو تراجعات كبيرة ، لا يحتاج الأمر هنا إلى دروس وعظات وجدالات طويلة ، فقط ، يتقدم المسئولون عن الأخطاء والتراجعات والخسائر الفادحة باستقالتهم ليفسحوا المجال أمام قيادات جديدة تتحمل المسئولية وتصحح الأخطاء وتبني مسارا جديدا للحزب ، ولكن المشكلة أن كل تلك المعاني "البديهية" في لغة السياسة الحديثة ، لا مكان لها في وعي تشكل وفق مبادئ السمع والطاعة والولاء المغلق ويعتبر أن "الأمير" هو ظل الخلافة أو وارثها ، وأنه لا يستقيل أو يقال إلا إذا خرج من ربقة الإسلام أو رأينا منه كفرا بواحا ؟! ، وأي مصائب أو كوارث دون ذلك فهي عادية ولا يجوز مراجعته فيها ولا يسأل عنها ، وأن الجماعة المنظمة هي جامع الدين وعقدته ، وأن تركها أو الاختلاف معها هو "ثلم" في الإسلام نفسه ، وطعن في الدين ، وربما ما هو أسوأ من ذلك . معركة الأجيال ، داخل الإخوان أو غيرهم من الحركات الإسلامية ، هي معركة أفكار بالمقام الأول ، ومعركة خبرات جديدة يستحيل أن تقودها عقليات قديمة جامدة .