لا أملك توصيفا دقيقا لهذه المرحلة يعبرعن موجة تساقط ثوابتنا الوطنية والاجتماعية واحدة وراء الأخرى، ولا أدرى لماذا هذا التسارع الحميم لتفكيك أنظمة الدفاع الإنسانى للمواطن المصرى والعربى ومصداته كى لا ينفذ العدو فى منظوماتنا المعرفية والثقافية، وماذا نطلق على الذين يريدون تعطيب مفعول كوابحنا فى طريق عدم التطبيع مع العدو الصهيونى . مصر العربية رفضت خطوة صلح السادات مع الكيان الصهيونى، ولم تكن الأجواء ولا الذهنية العربية مهيأة لقبول فكرة التصالح للكيان الاستيطانى، وأخذ الأرض من أصحابهاعنوة بقوة السلاح والخيانات المتعاقبة، فتكون شبه اجماع من الأحزاب والنوادى والنقابات المصرية بمقاطعة التطبيع مع هذا الكيان الإسرائيلى، وتشددت فى هذا المنع بمعاقبة أعضائها الذين يكسرون هذا القرار، وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاما التزمت الأحزاب والنقابات والنوادى بهذا القرار وأصبح معلما من معالم الوطنية المصرية . ولم يكن إعلان البابا شنودة بتحربم زبارة القدس على أقباط مصر للتعاضد والتماهى مع الاجماع الوطنى بمقاطعة التطبيع، وبأن أقباط مصر جزء لا يتجزأ من الجماعة الوطنية الرافضة للتطبيع مع العدو الصهيوني .. والحقيقة لاقى القرار قبولا عاليا داخل مصر وخارجها .. صحيح ان الكنيسة المصرية كانت فى حلقها غصة من إسرائيل فأرادت بهذا القرار ضرب عصفورين بحجر واحد، التماهى مع التيار الوطنى الرافض للتطبيع، وفى ذات الوقت كان ردا موجعا على قرار سلطات الاحتلال بتسليم دير السلطان الذي كان يقبع تحت رعاية الكنيسة المصرية للرهبان الأحباش، وكنت من الذين وقفوا مع الكنيسة المصرية فى التعاطى مع هذا الملف صحفيا فى شبابى . كانت تلك الملابسات السياسية التى هيأت الشعب المصرى لرفض التطبيع مع إسرائيل بكافة طوائفة، ومن ثم كان من الصعب علينا تقبل أى مبررات لكسر هذا المنع، فقد جيشت الجماعة الوطنية وسائلها وأدواتها لتشكيل رفضا طاغيا، يرفض بطلقائيته زيارة البابا تواضروس للقدس عبر تل ابيب وتبريرها على أنها زيارة شخصية لفضل أنبا القدس الذى وافته المنية عليه في بداية رهبنة البابا. لذلك توجس المصريون خيفة من أثار وتداعيات كسر الحظر من مؤسسة دينية كانت يشار إليها بالبنان فى رفض التطبيع، ومن شخص منصب رئيس الكنيسة، فهم يشككون بأن أمور أخرى خارج نطاق الجنازة وراء الزيارة.. وإذا كانت الجنازة يوم السبت فلماذا يذهب يوم الخميس قبلها بيومين ؟ فقد فتح البابا تواضروس الباب على مصراعيه للتطبيع، منقلبا على قرار شنودة.. وسيتبعه أقباط مصر بالذهاب إلى القدس بلا خرج بعدما شاهدوا رئيس كنيستهم فى القدس.. لذلك لا ينبغى التهوين من شأن الزيارة وتوابعها فهى تدخل فى نطاق اللامنطقية، سواء فى مبرراتها أو دوافعها فقد أسقطت سورا عاليا وقويا بنى عبر السنين نراه يتهاوى أمامنا مع أول خطوة خطاها البابا تواضروس فى زيارته للقدس لتحدث ثقوبا كبيرا من الصعب معالجته فى الأيام القادمة . وعلى إثر زيارة تواضروس أعلنت هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عقد مؤتمر عالمى عن القدس، فى شهر فبراير المقبل، حسب مانشرته اليوم السابع، يناقش انتهاكات الكيان الصهيونى للمسجد الأقصى، وتطورات الأوضاع وانتهاكات الكيان الصهيونى للأقصى، والأهم فى هذا المؤتمر مناقشة مشروعية زيارة القدس، ومدى تأثيرها وانعكاسها على القضية الفلسطينية ومصلحة الفلسطينيين. . وانطلقت الدعوات كالسهام فى هذا الصدد فلا يرى الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف غضاضة ولا توجد مؤاخذات من النواحى العملية سواء للمسلمين أو المسيحيين على زيارة القدس، أما فى الأمور الاجتماعية قال كريمة: "هناك علاقات ومعاهدات بين الدولة المصرية والكيان الإسرائيلى، وأنه لا يوجد حظر دينى على الذهاب للقدس أو الأقصى"، مشيرا أن "النبي صلي الله عليه وسلم عبد الله ظل بالكعبة ما يجاوز 53 سنة وكان المسجد الحرام في قبضة قريش الوثنية وعرج به من بيت المقدس وكان فى ولاية السلطة البيزنطية، فرجال الدين وعلماء الإسلام لا يوجد أدنى حظر عليهم في الشرائع السماوية في زيارة المعالم الدينية وتفقد احوالها طالما لا يوجد نهي شرعى" . وماذا عن الوفاق الوطنى والإجماع القومى على رفض التطبيع، ورفض التفاعل الشعبى مع هذا الكيان؟ ألا يدخل كسر هذا السور العتيق الذى صنعته الوطنية المصرية بكافة طوائفها طوال هذه السنوات فى نطاق الحرام الوطنى، فإذا كان بعض شيوخ الأزهر ورهبان الكنيسة يحللون الزيارة من منظور دينى فعلينا أن نحرمها فى إطارها الوطنى الذى توافقت عليه الأغلبية الوطنية التى تمثلت فى الأحزاب والنقابات والنوادى، فعلينا ان نتخيل طفلا ولد فى عام 1979 تاريخ اتفاقية السلام مع إسرائيل وأنهى المرحلة الابتدائية ثم الاعدادية ثم الثانوية والجامعة ثم أنهى تجنيده وتزوج وهو يعيش المسلمة الوطنية برفض التطبيع مع الكيان الصهيونى، ثم يفاجئه رجال الدين الاسلامى والمسيحى بعد هذا العمر بعدم شرعية هذه المقاطعة ولا توجد نواهى دينية للزيارة، الغريب أننا لم نسمع صوتا اعتراضيا للذين صدعونا بالأمن القومى، ونسألهم هل تطبيع المؤسسات والنقابات والأحزاب والنوادى وأفراد الشعب المصرى مع عدوهم يدخل فى نطاق المحرمات الوطنية أم ستسيرون على ايقاعات رجال الدين بتحليل التطبيع والهرولة الى الذهاب لإسرائيل؟