تغيرت فى مصر بفعل ثورة 25 يناير حقائق وأوضاع ذات تأثير بالغ فى حياتنا السياسية وحياتنا الاجتماعية وفى علاقاتنا الداخلية والخارجية على السواء.. ورغم تأثير هذه التغيرات، وأهميتها لا نكاد نتنبه إليها أو نضعها فى تقديرنا، ونحن بسبيل تحليل كشف حساب المكاسب والخسائر؛ ففى الماضى كانت السلطة الجائرة تفعل ما يعنّ لها دون اعتبار لإرادة الشعب أوحتى لوجوده، وكان الشعب اليائس يستقبل تصرفات السلطة على مضض، ويذعن لها كارها.. قد يتمرد عليها فى سرّه أحيانا.. وفى أحيان أخرى تنطلق من بعض فئاته انفجارات غضب محسوبة.. ولكنها تُواجه من قِبل السلطة بالقمع المفرط .. ويمكن إجمال الصورة فى الماضى بأن السلطة كانت هى الفاعلة.. وزمام المبادرة فى قبضتها دائما، وكان الشعب دائما فى موقف رد الفعل الذليل.. الآن انقلب الموقف وأصبح الشعب هو الذى يملك زمام المبادرة، وهو الفاعل الحقيقي للأحداث الكبيرة بينما تحولت السلطة إلى موقف رد الفعل.. ولو ذهبت تقلّب فى صفحات الماضى القريب خلال فترة ما بعد الثورة فسترى المعجزة الحقيقية التى قام بها الشعب: أراد الشعب تنحية الطاغية وإسقاط نظامه وكان له ما أراد؛ سقط الطاغية رغم أنفه وانهار نظامه، ووُضع أركان النظام فى السجون انتظارا لمحاكماتهم على النهب والفساد وجرائم القتل التى ارتكبت فى حق أبناء هذا الشعب.. وستشهد مصر محاكمات حقيقية عادلة على غير ما تم التخطيط له بالمماطلة والتمييع وتزييف شهادة الشهود.. لم ينخدع الشعب بنائب الرئيس الذى جاء ليضع العوائق فى طريق تحقيق أهداف الثورة.. ولم ينخدع بخطابه واكتشف أنه لا بد من التخلص منه فخرج بالملايين إلى ميدان التحرير وأسقطه.. وأدرك الشعب بعد تجربة شائنة مع حكومة أحمد شفيق الذى اعتبره الناس امتدادا لمؤامرات أعداء الثورة، فخرج وأسقطها بنفس الطريقة التى أسقط بها مبارك ونائبه.. فلما جاءت حكومة شرف بيحي الجمل ليقوم بدور خبيث فى الالتفاف على اختيارات الشعب الديمقراطية فى الاستفتاء المشهور(19 مارس 2011)، هبّ الشعب وأسقط يحيى الجمل.. ثم حلّ مكانه على السلمى بوثيقته ، لنفس الهدف الغبيّ.. مدعوما بالمجلس وبفلول الأحزاب الكرتونية اليائسة من تحقيق أى نجاح ملموس فى نظام ديمقراطي.. ولكن اكتشف الشعب خطورة على السلمى ووثيقته المشئومة.. فنهض ثائرا (رغم الدعاية التى شنتها أجهزة النظام وأجهزة ساويرس والكتلة التى ابتدعها..) وأسقط على السلمى ومزّق وثيقته.. وذابت حكومة شرف بأكملها فى لهيب الغضب الشعبي.. فقد كانت حكومة واهنة لا إرادة لها ولم يستطع رئيسها أن يحافظ على وعوده للشعب فى ميدان التحرير فتخلت عنه صلاحيته واختفى من الصورة.. أود هنا أن أسجّل نقطة قد يغفل عنها كثير من الناس وقد تعرّضت لها فى مناسبتين قبل رحيلى من مصر: محاضرة لمجموعة كبيرة من الشباب سعدت بلقائهم مساء يوم الجمعة التاسع من ديسمبر 2011 ، وفى ندوة خاصة قبل ذلك بيومين سعدت فيها بمصاحبة مجموعة من المثقفين الحكماء.. أشرت فيهما إلى أننا لا ينبغى أن نيأس من اصلاح هذا الوطن العظيم رغم كل الصعوبات التى يضعها أعداء الشعب وأعداء الثورة وأعداء الديمقراطية فى طريقة .. وقلت أن الشعب أثبت بسلوكه العملي أنه أقوى من كل هؤلاء .. وأنه قادر على إحباط مخططاتهم .. ربما بعمله الصامت أكثر من صوته المرتفع، وضربت على ذلك بمثالين اتضح فيهما أن أعداء الشعب أجهدوا أنفسهم لصرف الناس عن أحزاب معينة بالافتراءات والأكاذيب والتشويه والتخويف.. ولكن الشعب أفشل جهودهم وأنجح هذه الاحزاب وخرجت الأحزاب المزيفة بأصفار أو بنتائج أٌقرب إلى الأصفار.. وكان فشلها أكثر مما توقع أصحابها والمروّجون لها.. ودِيستْ ملايين الدولارات الأمريكية تحت أقدام الناخبين.. أما المثال الثانى فخلاصته أن أناسا فى السلطة كانوا يخططون ليكون إقبال الجماهير على الانتخابات ضعيف.. و يحلمون أن تتشتّت أصوات الناخبين بين كثرة هائلة من الأحزاب .. خصوصا مع التعقيدات والحيل المضللة التى أحكموا صنعها؛ متمثلةً فى انتخابات بالقوائم وانتخابات فردية.. وقدّروا أن هذه التعقيدات كفيلة بتعجيز الناخبين، الذين يُنظر إليهم من أعلى بأنهم قطيع من الأغنام الأغبياء .. لا يوثق فى أهليتهم للديمقراطية.. و كانوا يعوِّلون على أن تشكِّل النتيجة النهائية برلمانا ضعيفا ليس فيه أغلبية مهيمنة.. وإنما شراذم من أقليات متصارعة.. لكي يبقى المجلس العسكري حاكما مسيطرا يقوم بفض النزاعات بين الفرقاء المتصارعين فى حلبة البرلمان...! لكن الذى حدث قلب هذه التدابير رأسا على عقب؛ فقد أقبلت جماهير الشعب على التصويت بأعداد هائلة غير مسبوقة .. وكان مسلكهم تحدّيا حقيقيا وإرادة كاسحة لسحق مخططات أعداء الديمقراطية .. ومن ثم جاءت نتائج المرحلة الأولى محبطة لآمالهم وخططهم.. مؤكّدة على يقظة هذا الشعب الحكيم وعلى ذكائه العبقري.. وأثبتت الأحداث أن الغباء هو من نصيب أعدائه ؛ أعداء الثورة وأعداء الديمقراطية.. وكان رد الفعل من بعض رجال السلطة (فى غبائه) كاشفا عن رغباتهم المكنونة وضعف موقفهم فقد صرّح أحدهم بأن البرلمان المقبل لن يكون ممثلا لجميع فئات الشعب المصري، واستنتج من هذه المقدمة الخاطئة نتيجة على هواه.. قال: " لذا فمن سيتم تعيينهم لكتابة الدستور الجديد لابد وأن توافق عليهم الحكومة المؤقتة.. [ يعنى أن الحكومة التى لم ينتخبها الشعب من حقها أن تلغى اختيارات مجلس الشعب المنتخب.. فتأمّل هذا التخبّط والاضطراب فى التفكير..!].. وفى سياق هذا العبث السياسي تصدر قرارات وفرمانات سلطانية يعيّن فيها العسكرى مجلسا استشاريا من المثقفين والسياسيين والشخصيات العامة.. ليسبغ شرعية منحولة على قراراته.. ويبدى صاحب التصريح اللاديمقراطي لبعض الصحف الأمريكية إصراره على بقاء ميزانية الجيش بعيدًا عن الرقابة البرلمانية، وكرر نفس التقييم الخاطئ بأن البرلمان لا يمثل الشعب المصرى كله، فلا يمكن أن نترك له العنان...! فما الذى يعنيه هذا الكلام..؟ إنه يعنى أن مجلسا (غير ديمقراطي لم ينتخبه الشعب) يحاول بعض أفراد منه (لم يخوّلهم الشعب للحديث نيابة عنه) يحكمون على اختيارات الشعب [فى انتخاب حر نظيف مبرأ من الغش والتزييف -لأول مرة-]أحكاما جزافية.. ويتكلمون كأنهم أصحاب سلطة شرعية فوق سلطة الشعب وسلطة البرلمان .. وأنهم يمكن أن يسمحوا أو لايسمحوا للبرلمان المنتخب..! أو أنهم سيتركون أو لا يمكن أن يتركوا للبرلمان العنان.. فبأي سلطة يتحدّث هؤلاء وعلى أى شرعية يستندون ...؟! ألا يذكرنا هذا بدكتاتورية مبارك وسلطته التى اغتصبها من أصحابها الشرعيين..؟! كلام غير مسئول ولن يملك أحد تنفيذه ضد إرادة الشعب واختياراته الحرّة، وبرلمان الشعب هو الذى سوف يقرر كل شيء فى مصلحة الأمة باسم الشعب وبإرادة الجماهير التى اختارته.. وسوف تسانده الجماهير لآخر قطرة من دمائها.. لذلك أنصح أعداء الشعب الذين يمالئونه على مضض وكراهية دفينة، وأتباع قارون المغرور بكنوزه وامواله الطائلة، والذى يعلن احتقاره للشعب بلا مواربة، وأنصح الأحزاب التى نبذها الشعب ويئست من تضليله عن غايته وتحقيق إرادته.. أنصح هؤلاء جميعا أن يريحوا أنفسهم ويريحونا من محاولاتهم اليائسة لوقف عجلة الديمقراطية الوليدة، التى ستؤكد نفسها، وسلطتها الشرعية، بإرادة الجماهير، مهما كانت العقبات ومهما كان الثمن.. وأحب أن أؤكِّد للجميع أن هذا الكلام ليس من قبيل تحقيق أحلام الرغبة، وإنما هو ما أراه واضحًا وضوح الشمس فى رائعة النهار.. من فضل الله على عباده أنهم إذا غيّروا ما بأنفسهم غيّر الله أوضاعهم وأطلق كوامن القوة فى مجتمعاتهم لتسحق عوامل الفساد وتجتثّ جذوره، وتدكّ معاقل الباطل بقذائف الحق.. هذا وعد الله لعباده المخلصين ولن يخلف الله وعده...