كانت مصر خلال الفترة الممتدة بين بدايات القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين هى الملجأ الأنسب للهاربين من الأزمات والحروب والاضطهاد فى بلدانهم الأصيلة لاسيما اليونانيين والطليان والأرمن والسلافيين والمالطيين، باختلاف انتماءاتهم الدينية والفكرية والسياسية التى شملت فيما شملته اليهودية والشيوعية مع وجود البعض ممن يحملون الانتماءين اليهودى والشيوعى جنباً إلى جنب، وسرعان ما حصل اللاجئون الأجانب على الجنسية المصرية أو حق الإقامة مع احتفاظهم بالروابط التى تجمعهم فيما بينهم وتبقيهم على صلة منتظمة بمجتمعاتهم الأصلية، الأمر الذى سمح باستمرار علاقات اليهود منهم مع الحركات اليهودية العالمية والشيوعيين منهم مع الحركات الشيوعية العالمية، حتى عندما نظم هؤلاء وأولئك أنفسهم فى خلايا وحلقات تتخذ مصر موقعاً مكانياً لها فقد ألحقوها بمكاتب الأنشطة الخارجية التابعة لحركات غير مصرية، وكانت الطبقة العاملة المصرية قد ظهرت عام 1840 عقب توقيع مصر على معاهدة "لندن" التى سمحت بشراء قوة العمل العضلى والذهنى من المصريين وغيرهم مقابل أجر محدد سلفاً، ضمن ما سمحت به المعاهدة من حقوق اقتصادية عديدة لصالح فئة الأجانب وكلاء الرأسمالية العالمية فى مصر، ثم تبلورت الطبقة العاملة المصرية عام 1871 عقب إصدار قانون "المقابلة" المصرى الذى سمح بالتنقل الجغرافى الحر للمصريين والأجانب الباحثين عن العمل العضلى والذهنى المأجور لدى الغير، ضمن ما سمح به قانون "المقابلة" من حقوق اقتصادية عديدة لصالح فئة الرأسماليين المصريين المستقلين أسوة بالحقوق التى سبق أن منحتها معاهدة "لندن" إلى فئة الوكلاء الأجانب للرأسمالية العالمية، ورغم مرور حوالى قرنين على ذلك الظهور المتزامن للطبقة العاملة فى مواجهة الرأسمالية بفئتيها الأجنبية التابعة والوطنية المستقلة مع التفاوت الصارخ الذى صاحبه، بين فريق رأسمالى محتكر للثروة والسلطة يشكل الأقلية النخبوية وفريق أجير محروم من أدنى حدود الثروة والسلطة يشكل الأغلبية الجماهيرية، فإن التناقض الاقتصادى والاجتماعى والسياسى بين الفريقين لم يزل حتى اليوم متواصلاً فى مصر على نفس النحو الذى كان قائماً منذ قرنين، حيث مازال الفريق النخبوى يسعى إلى الحفاظ على استقرار الأوضاع بهدف تكريس استبداده وفساده وتبعيته لمراكز الاستعمار العالمى لاسيما فى ظل اعتلاء الرأسماليين التابعين للرأسماليين المستقلين داخل الفريق النخبوي، بينما مازال الفريق الجماهيرى يتطلع نحو تغييرات جذرية تكفل تحقيق الحرية والتحرر الوطنى والتنمية الاقتصادية المستقلة والعدالة الاجتماعية لصالح الأجراء الفقراء، الأمر الذى كان يفترض أن يترتب عليه حسب نظريات العلوم السلوكية فرزاً طبيعياً لصراع جذرى محدد الملامح بين معسكر استقرار تقوده أحزاب وجمعيات رجال الأعمال ومعسكر تغيير تقوده الحركة الشيوعية، ولكن حسابات الواقع الميدانى الفعلى قد اختلفت كثيراً جداً عن تلك الافتراضات النظرية حتى أصبحت تبدو كأنها مجرد خيال علمي.!! ............ حاول الشيوعيون المصريون تنظيم أنفسهم داخل خلايا وحلقات منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث اعتقلت أجهزة الأمن العثمانية عام 1865 "أحمد الطيب السلمي" من مدينة "الأقصر " بتهمة قيادة تمرد شيوعى ضد أولى الأمر المحليين حسبما ذكر الكاتب البريطانى الشهير" جون ستيوارت ميل" فى أحد مقالاته المنشورة آنذاك، ثم ضبطت الأجهزة الأمنية العثمانية والبريطانية عام 1889 فى مدينتى "الإسكندرية" و"القاهرة "منشوراً يدعو الشيوعيين المصريين إلى الاحتفال بالذكرى المئوية لكوميونة باريس من خلال استمرار نضالهم على نهج رفاقهم الفرنسيين السابقين، وفى عام 1915 أصدر "مصطفى المنصوري" كتابه الشهير "تاريخ المذاهب الاشتراكية "والذى دَونْ فيه عدة أفكار شيوعية مصرية خالصة، مثل رفض التماثل الشيوعى الأممى بتأكيده على ضرورة اختلاف آراء الشيوعيين من بلد إلى آخر تبعاً لاختلاف الظروف المحلية والإقليمية المحيطة ببلدانهم، ورفض تقديس البيان الشيوعى الذى كان "كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز" قد سبق أن أصدراه عام 1848 لتوجيه الشيوعيين حركياً على مستوى العالم كله، حيث وصفه" المنصورى " بأنه يتضمن أفكاراً عتيقة تجاوزها الزمن فأصبحت لا تواكب متطلبات العصر، مع رفضه للاتهامات الجزافية الموجهة إلى عموم الشيوعيين المصريين بقوله : "إننا لا نحارب الدين بل نحارب الذين يفسدون الدنيا باسم الدين"، ثم أصدر "نيقولا حداد" عام 1920 كتابه الشهير "الاشتراكية" الذى قال فيه: "إن رأس المال قد استعبد جسد العامل وعقل المفكر ليهضم الغلة الناتجة عن تعبهما فأصبح هناك فريق صغير من الناس يتمتع بثمرات أعمال السواد الأعظم من الناس الذين أصبحوا محرومين من ثمرات أعمالهم، لذلك لابد أن يتمهد السبيل للاشتراكية كضرورة مستقبلية تتملك فيها الأمم كل ثرواتها تحت إشراف الحكومات"، ورغم الضغط العثمانى والبريطانى على مفتى الديار المصرية ليصدر فى أغسطس عام 1919 فتوى لم تزل قائمة حتى اليوم بأن الشيوعيين ملاحدة كفار مع ما ترتب عليها من آثار عقب فتوى مماثلة لدار الإفتاء العثمانية، فقد أنشأ الشيوعيون المصريون عام 1921 أول أحزابهم السياسية وهو الحزب الاشتراكى بقيادة" سلامة موسى" و"محمد عبدالله عنان" و"على العناني"، ليغير اسمه فى العام التالى إلى الحزب الشيوعى تحت قيادة جديدة ضمت "محمود حسنى العرابي" و"صفوان أبو الفتح" و"أنطون مارون" وبعضوية حوالى خمسة آلاف شيوعى مصرى حسبما ذكرت الوثائق الأمنية، واستمر الوجود العلنى للحزب الشيوعى على مختلف الأصعدة الفكرية والسياسية والحركية حتى عام 1924، عندما أصدرت المحكمة العسكرية قراراتها بحله وحظر كافة أنشطته ومصادرة كل مقراته وأملاكه وأمواله وحبس جميع قياداته وكوادره أو طردهم خارج البلاد بعد إسقاط الجنسية المصرية عنهم، ليدخل الشيوعيون المصريون مرحلة العمل السرى التى استمرت عشرين عاماً قبل معاودتهم الظهور العلنى مرة أخرى فى منتصف أربعينيات القرن العشرين، من خلال ثلاثة تنظيمات هى تنظيم "طليعة العمال والفلاحين "بقيادة الرفيق "عباس) "أبو سيف يوسف) وتنظيم "الراية" بقيادة الرفيق "خالد "(فؤاد مرسي) وتنظيم "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى "الشهير باسم "حدتو" تحت قيادة الرفيق "يونس" )هنرى كورييل(، وهى التنظيمات الثلاثة التى تجاوزت حاجز العشرة آلاف عضو شيوعى مصرى أثناء قيادتها للكفاح الوطنى المسلح ضد الوجود الاستعمارى البريطانى فى مصر طوال الفترة الزمنية الممتدة بين عامى 1946و 1952، ثم اتحدت معاً يوم 8 يناير 1958 لتعلن عودة الحزب الشيوعى مجدداً بقيادة عدد من الرفاق المتعاقبين كان آخرهم الرفيق "طارق" (إسماعيل المهدوي)، حتى اضطر الحزب إلى حل نفسه عام 1965 تحت قهر الأحكام العسكرية ليدخل الشيوعيون المصريون مرة أخرى مرحلة عمل سرى استمرت عشرة أعوام قبل أن تعاود امتدادات التنظيمات الثلاثة السابقة أنشطتها العلنية وشبه العلنية فى منتصف سبعينيات القرن العشرين ولكن تحت أسماء جديدة، حيث أصبح "طليعة العمال والفلاحين" يحمل اسم "8 يناير" ويقوده "طاهر عبد الحكيم" أما" الراية" فأصبح اسمه "العمال" بقيادة "إبراهيم فتحي" فى حين ظهرت ثلاثة امتدادات متداخلة لتنظيم "حدتو"، أحدها خارجى تمثله مجموعة "روما "لليهود الشيوعيين المصريين المقيمين بأوروبا والآخر داخلى شبه علنى اسمه "الانتصار" والأخير داخلى علنى اسمه "التجمع التقدمي" مع بروز اسم الرفيق "حسن" (رفعت السعيد البيومي) كمنسق يبن الامتدادات الثلاثة، وقد نجحت هذه التنظيمات معاً مرة أخرى فى تجاوز حاجز العشرة آلاف عضو شيوعى مصرى خلال قيادتها للكفاح الاجتماعى الذى بلغ ذروته بانتفاضة يناير عام 1977 ضد الاستبداد والفساد والتبعية لمراكز الاستعمار العالمي.!!