تعرف أدبيات حقوق الإنسان المذبحة أو المجزرة بأنها( قتل وتصفية 5 أشخاص أو أكثر في مكان محدد وعملية محددة لأفراد غير قادرين عن الدفاع عن أنفسهم).. وتطلق أيضًا على القتل الجماعي لمدنيين عزل في الحروب وتصنف من جرائم الحرب.. ويفرقون بينها وبين التطهير العرقي. الصحفية الأمريكية (سامنتا باور) لها كتاب شهير نشر منذ سنوات عنوانه كتاب(مشكلة من الجحيم أو تاريخ المذابح فى العالم).. يعرض الموقف الغربى تجاه أشهر المذابح التى ارتكبت في القرن العشرين فى الوقت الذى كان من الممكن إيقاف تلك المذابح وإنقاذ أرواح ملايين الأبرياء إذا ما أراد الغرب وخاصة أمريكا وأوقفت عمليات الإبادة الجماعية.. الكتاب قرار اتهام واضح وصريح. تبدأ (باور) كتابها بكلمات للرئيس الأمريكي الأسبق إبراهام لنكولن وقد كان من اشد المدافعين عن حقوق الإنسان: إذا كان لدينا القوة.. فيجب علينا أن نتحمل المسئولية... الربط الواضح القوى بين( القوة ) و(المسئولية) هنا على قدر وضوحه إلا أن كثيرين يتفلتون من حصاره بالادعاءات الكذوبة المخاتلة.. حول الدوافع والظروف والسياقات.. ولكن تبقى الحقيقة كما هى.. مهما زخرفوا الأكاذيب من حولها. ولدينا فى تاريخنا المصرى الحديث عدة مذابح يجدر بنا أن نلقى على بعض منها نظرة تأملية.. فأنا ممن يؤمنون بأن التاريخ هو التاريخ.. والبشر هم البشر.. والشجر هو الشجر.. والحجر هو الحجر.. فقط تنويعات مختلفة على نفس المقام النهاوندى .! *عام 1811م قام محمد على الذى كان قد أمضى ست سنوات فى الحكم بمذبحته الشهيرة للمماليك .. دعاهم إلى احتفال كبير بمناسبة تنصيب أبنه طوسون على رأس حملة متجهة إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين ولبى المماليك الدعوة..كان عددهم يقدر بحوالى عشرة آلاف شخص من الصفوة التى تضم كبارهم وأعيانهم ومن مختلف طوائفهم وبعد انتهاء الحفل أمر جنوده بإغلاق أبواب القلعة وإطلاق النار عليهم .. أيا ما كانت أسباب محمد على التى بررها البعض بأن المماليك رفضوا الانضواء فى منظومة الحكم الجديد.. وأنهم ظلوا كتنظيم يهددوا فكرة الدولة المركزية التى كانت فى رأس محمد على.. كل هذا فى جانب والأثر النفسي للمذبحة على المصريين فى جانب آخر.. والتي يبدو أنها أخافت المصريين من محمد علي وقضت على أي إمكانية لنشوء ديمقراطية(كانت وليدة بعد خروج الحملة الفرنسية) في مصر بسبب الرعب الذي انتشر من شخص محمد علي مدبر المذبحة.. والرعب فعلا إنسانيا عميقًا . * مذبحة الإسكندرية 1882م والتى كانت مقدمة لاحتلال مصر.. فقد تم افتعال مشادة كلامية بين مصرى ورجل أجنبي (من مالطة) يعيش فى نفس المنطقة تحولت المشادة إلى معركة دامية راح ضحيتها 250 مصريًا و50 أوروبيًا.. أهم ما سببه هذا الحادث هو اتخاذه من قبل إنجلترا كذريعة للتدخل في شئون مصر الذي انتهى بضرب الإسكندرية والاحتلال الطويل.. يقولون أيضًا إن الواقعة كانت تواطئا بين الخديوي توفيق وعمر لطفي باشا محافظ الإسكندرية وقتها من أجل عزل أحمد عرابي من منصبه وتغيير وزارة البارودى . *مذبحة دنشواى 1906م قام بتنفيذها 5 من جنود الاحتلال الإنجليزي حيث خرج الضباط الإنجليز لصيد الحمام بالقرب من قرية دنشواى المشهورة بكثرة حمامها (المنوفية ) فقام بعض الأهالي بتحذيرهم من أن اقتراب البارود من أجران القمح يمكن أن يتسبب في احتراقه ولكن الضباط لم يهتموا فأخطأ أحدهم فى التصويب فأصاب امرأة كانت تمر من الطريق وقتلها فهاج الأهالي نحو الضباط وطاردوهم.. وهو يصيحون (قتلوا المرأة وحرقوا الجرن) حتى أصيب كابتن الفرقة بضربة شمس وسقط ميتا .. كان رد الفعل البريطاني سريعًا وعنيفًا حيث قدم 92 من أهل القرية إلى المحاكمة بجريمة القتل العمد و تم إعدام 4 أشخاص والأشغال الشاقة والجلد للباقين .. قضاة المحكمة كانوا من النوع(الشامخ).. بطرس غالى وفتحى زغلول أخو زعيم الأمة سعد باشا الذى كان فى فرنسا وقتها وكان مدعي النيابة إبراهيم الهلباوى الذى نجح فى تبرئة الجنود الإنجليز من (قتل المرأة وحرق الجرن) بل وأثبت أن الجنود هم الضحايا المجنى عليهم.. بعد هذا الحادث تم عزل اللورد كرومر _ وما أدراك ما اللورد كرومر_ وقتل بطرس غالى، قتله المجاهد إبراهيم الوردانى الشاب الذى درس الصيدلة فى سويسرا.. حافظ إبراهيم قال عن هذه الحادثة: إنما نحن والحمام سواء ** لا.. لم تغادر أطواقنا الأعناق.. اغتيال بطرس غالي كان أول جريمة اغتيال سياسى فى مصر الحديثة وكان متزامنا مع نظر الجمعية العمومية لمشروع مد امتياز قناة السويس واعترف الورداني بقيامه بقتل بطرس غالي وقال: لأنه خائن.. صاحب مشروع الاتفاق الثنائى عن السودان .. قانون مد امتياز قناة السويس وقاضى محكمة دنشواي وأيضًا أصدر قانون المطبوعات.. حكم على الوردانى بالإعدام ورفض المفتى الأكبر(الشيخ بكرى الصدفى) فى موقف تاريخى متفرد التصديق على الحكم. أظرف شىء فى هذه القصة أن اغتيال بطرس غالي كان سببًا في إنشاء (القلم السياسي)الذي كان يهدف إلى تعقب السياسيين وذوي الاتجاهات الوطنية .. ومعروف طبعا أن القلم السياسى تطور إلى المباحث العامة ثم أمن الدولة ومعروف أيضًا أن زكريا محيى الدين (بيريا الرهيب) كان يعمل به قبل حركة 1952م. عقب اغتيال بطرس غالي.. تشكلت وزارة جديدة كان سعد زغلول فيها وزيرًا للحقانية (العدل) وصودرت الحريات ونفي الزعيم الوطنى الكبير محمد فريد إلى خارج مصر وزاد اعتماد الخديوي عباس حلمي الثاني على الإنجليز وعادت سياسة الوفاق بينهما مرة أخرى .. ستثبت الأحداث فى تشابهها أن الاغتيال والقتل والدم فى الكفاح والنضال السياسى لا تأتى بنتائج جيدة فى أغلب الأحوال إن لم يكن فى كلها .. * مذبحة (شاكيد) نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق أسرى مصريين عزل عام 1967 عقب انتهاء القتال في سيناء راح ضحيتها 250 مجندا مصريا تم ذبحهم ودفن بعضهم أحياء على أيدي حملة (شاكيد)العسكرية التي قادها الضابط الإسرائيلي العراقى الأصل( بنيامين بن آليعازر) المعروف فى الإعلام الإسرائيلى بصديق مبارك الحميم .. والذى اتهم بعلاقات رشوة وفساد مع شركة اورنج .. الشركة التى اشترت من أسرة(ساويرس) موبينيل . . المهم فى الموضوع أن إسرائيل أنتجت من هذه المجزرة فيلما وثائقيا يتمحور حول وحدة الدوريات (شاكيد) التي أنشئت عام 1954 م لحراسة الحدود مع مصر والأردن وتحدث في الفيلم الوثائقي عدد كبير من الجنود الذين خدموا في صفوف الوحدة وكشفوا عن عمليات القتل التي قاموا بها ضد جنود مصريين وهم في طريق انسحابهم للغرب داخل سيناء بعد توقف القتال وروى (بن إليعازر) الذي شارك بعمليات ملاحقة الجنود المصريين وقتلهم عقب هزيمة 1967م كيف تمت مطاردة الجنود المصريين بمروحية كانت تنزل جنودا على الأرض فيرمونهم بالنار رغم عدم قدرتهم على القتال بعد انتهاء المعركة ونفاد ذخائرهم. .............. الجمعة الماضية 14 أغسطس كانت الذكرى الثانية لما عرف إعلاميًا ب(فض رابعة).. الذى قتل أثناءه أكثر من (خمسة أشخاص)عزل فى مكان محدد وعملية محددة.. وهم غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم. .. تذكر كثير من الروايات أن عدد القتلى كان أكثر من ألف شخص (كاملة التوثيق).. وأكثر من 1500 مصاب حصر وزارة الصحة .. بعد كل حرف خطه قلم عن هذا الموضوع .. سأظل أسأل ما وسعنى السؤال عن واقعتين من أخطر الوقائع التى تمت فى السنوات الأربع الماضية ..والتى تفتح أفق التوقعات والتخمينات على أوسع مدى ..باعتبارات مفهوم السبب والنتيجة. ما سبب الإعلان عن علاج فيرس سى بتلك الطريقة التى تم الإعلان بها فيما عرف إعلاميا (بالكفتة) أو ما شابه ذلك ..؟ فى الوقت الذى تمتلك فيه المؤسسة العسكرية واحدة من أقوى الهيئات الطبية فى الشرق الأوسط (الخدمات الطبية) وكل من اقترب من الإدارة الطبية بالقوات المسلحة يعرف قدر المهابة والتفوق العلمي والمهني التى تتصف بها.. كيف يتم التسويق الإعلامى المهول لهذا الحدث (علاج فيروس سى) دون المرور من خلال إدارة الخدمات الطبية .. هل كان المقصود إحداث شيئا ما فى العلاقة الشعب وجيشه ؟ وما طبيعة هذا الشىء؟ وما غرضه النهائى ؟ الواقعة الثانية _وهى لا تقارن بطبيعة الحال بالأولى باعتبار ما تركته وأحدثته وما ستحدثه _لماذا تم (فض رابعة) بكل هذه التكلفة الرهيبة من الدماء والأرواح ..؟ ألم يكن من الممكن إنهاء هذا الاعتصام بالماء ؟ ألف سيارة مطافئ لم تكن كافية لتفريق هؤلاء المصريين المعارضين ؟ وسائل فض التجمعات المتعارف عليها فى كل الدنيا_غازات وعصى _ ألم تكن تكفى وتزيد ؟هل كان مطلوب بقعة دم واسعة على وجه التحول والانتقال الذى تشهده البلاد؟ وما يترتب على ذلك من تحديد لمواقف ومواقع كل الأطراف كل على حسب قدرته على إحداث الأذى والضر. هل كان المقصود أيضًا إحداث شيء ما فى العلاقة بين الشعب ومؤسساته؟ على نحو لا يسمح بأي استقرار على المدى القريب والمتوسط . لأن الدم حدوده بعيده !! وأنت فى النهاية تتحدث عن وطن وشعب .. لا أرض واحتلال. اختم كلامى بما أوردته سامنتا باور عن أبراهام لنكولن: إذا كان لدينا القوة.. يجب علينا أن نتحمل المسئولية. ثم رددوا مع الشاعر(لامارتين) هذا البيت من قصيدة (البحيرة) : ليت شعرى ..أهكذا نحن نمضى ** فى عباب إلى شواطئ غمضي؟