يظلنا شهر رمضان الكريم بنفحاته كل عام، وفضائله أكثر من أن يشملها مقال أو كتاب فى سفر متعدد المجلدات، وقد تناول العلماء قديماً وحديثاً فضائل صوم شهر رمضان من جميع النواحى: الشرعية، والصحية، والنفسية، والاجتماعية، وسوف نتعرض فى السطور التالية لكتاب مهم بعنوان (الصوم والصحة) للدكتور نجيب الكيلانى، فى الوقت الذى تزداد فيه الهجمة الشرسة على الإسلام الأمر الذى جعل دعياً ينكر فيه أى فضل لفريضة الصوم كما زعم هذا الدعى أيضاً أن ماء زمزم مسمومة، وقد تحدثنا عن حياة الكيلانى الأدبية والعلمية بشىء من التفصيل فى مقالات سابقة فى هذه المجلة الغراء ..وللصوم فوائد صحية إضافة إلى فؤائده وفضائلة العقدية منها منها وقايته للإنسان من الأورام ويحميه من مرض السكر المهلك كما أنه طبيب تخسيس يضبط جسم الإنسان ويجعله رشيقا نشيطا طوال الوقت (لذلك وقعت الانتصارات فى هذا الشهر الكريم)، ويقى من الجلطات وآلام المفاصل ... يقول تعالى في كتابه الكريم [يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون] (البقرة 183)، ويقول جل وعلا [وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون] (البقرة 184) فهل اكتشف العلم الحديث السر في قوله تعالى [وأن تصوموا خير لكم]؟؟؟ إن الطب الحديث لم يعد يعتبر الصيام مجرد عملية إرادية يجوز للإنسان ممارستها أو الامتناع عنها، فإنه وبعد الدراسات العلمية والأبحاث الدقيقة على جسم الإنسان ووظائفه الفسيولوجية ثبت أن الصيام ظاهرة طبيعية يجب للجسم أن يمارسها حتى يتمكن من أداء وظائفه الحيوية بكفاءة، وأنه ضروري جدا لصحة الإنسان تماما كالأكل والتنفس والحركة والنوم، فكما يعاني الإنسان بل يمرض إذا حرم من النوم أو الطعام لفترات طويلة، فإنه كذلك لا بد أن يصاب بسوء في جسمه لو امتنع عن الصيام، وفي حديث رواه النسائي عن أبي أمامة "قلت: يا رسول مرني بعمل ينفعني الله به، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له"، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني "صوموا تصحوا"، والسبب في أهمية الصيام للجسم هو أنه يساعده على القيام بعملية الهدم التي يتخلص فيها من الخلايا القديمة وكذلك الخلايا الزائدة عن حاجته، ونظام الصيام المتبع في الإسلام - والذي يشتمل على الأقل على أربع عشرة ساعة من الجوع والعطش ثم بضع ساعات إفطار - هو النظام المثالي لتنشيط عمليتي الهدم والبناء، وهذا عكس ما كان يتصوره الناس من أن الصيام يؤدي إلى الهزال والضعف، بشرط أن يكون الصيام بمعدل معقول كما هو في الإسلام، حيث يصوم المسلمون شهراً كاملاً في السنة ويسن لهم بعد ذلك صيام ثلاثة أيام في كل شهر كما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه: "من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر، فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه [من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها]، اليوم بعشرة أيام" .
وقد أراد الدكتور نجيب الكيلانى أن يوضح العلاقة بين الصوم وصحة الإنسان عضوياً ونفسياً واجتماعياً وذلك فى ضوء الدراسات التى قام بها نخبة من العلماء والأطباء الذين تجردوا للحقيقة، واتخذوا منهج العلم الحديث أسلوباً لبلوغ النتائج التى توصلوا إليها.. ويقرر الكيلانى أن الصوم بالإضافة إلى كونه عبادة ربانية يجزى بها المسلم الجزاء الأوفى عند الله سبحانه وتعالى فى الآخرة وهذه هى فلسفة الصوم المرجوة إلا أن للصوم فوائد لأجسادنا ونفوسنا وتلك منافع نلمسها فى الدنيا وندرك أهدافها وأبعادها بالمقاييس العلمية المتاحة، والصوم مهم ومطلوب للإنسان فقد فرضه الله على الأمم (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) وبين أن بعض الحيوانات تصوم حفاظاً على نفسها وجنسها، واستجابة فطرية لظروفها وتكوينها ..بل أن بعض الأطباء فى حالات معينة يأمرون مرضاهم بالصيام جزئيا أو كليا وقد يكون الصيام عن أنواع بعينها ..وينقل عن "أليكسى كاريل" فى كتابه "الإنسان ذلك المجهول" قوله: "إن كثرة الطعام، انتظامه ووفرته، تعطل وظيفة أدت دوراً عظيما فى بقاء الأجناس البشرية، وهى وظيفة التكيف على قلة الطعام ، ولذلك كان الناس يلتزمون الصوم فى بعض الأوقات".
ماذا يحدث عندما يمتنع الإنسان عن الطعام والشراب اثناء الصوم؟ ويتساءل الكيلانى قائلاً: "ماذا يحدث عندما يمتنع الإنسان عن الطعام والشراب أثناء الصوم؟ أولاً: يحدث فى البداية الشعور بالجوع حيث تخلو المعدة من الطعام وتنخفض نسبة السكر فى الدم . ثانياً: قد يحدث عقب ذلك بعض التهييج العصبى فى الأيام الأولى من الصيام، بسبب خروج الإنسان على المألوف من العادات، وبعض التغييرات فى الأنسجة المختلفة بالجسم وهذه الظاهرة قد لا تحدث فى كثير من الناس . ثالثاً: قد يعقب ذلك شعور بالضعف وخاصة عند أولئك الصائمين الذين يبذلون جهوداً فوق العادة اثناء تأدية وظائفهم، وأولئك الذين يهملون فى أداء وجبتى السحور والإفطار على الطريقة المناسبة لهم . وهناك بعض الأمور الخفية التى تحدث داخل جسم الإنسان دون أن نراهم، فالكبد مثلاً به كمية مخزون من السكر للطوارىء وزيادة هذه الكمية بالكبد قد تكون لها أثار وخيمة، أما عند الصوم فإن سكر الكبد يتحرك ويذهب إلى الدم والأنسجة للإستفادة منها أثناء الصوم. كذلك يتحرك الدهن المخزون تحت الجلد أو فى الأماكن الأخرى وهى وسيلة سهلة للتخلص من هذه العبء الزائد من الدهون التى تسبب السمنة وما تجره من مصائب ومضاعفات خطيرة".
وينتقل عن الأطباء العالميين الذى جربوا فؤائد الصوم على صحة الإنسان وعلاج الأمراض بالصوم بدلا من استخدام العقاقير التى تساهم فى تخفيف الآلام إلا أن لها أثار جانبية فضلا عما يتخلف عنها فى الجسم من سموم ومركبات ضارة، فينقل عن الدكتور "ماك فادون" وهو من الأطباء العالميين الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره قوله: "إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم وغن لم يكن مريضاً لأن سموم الأغذية والأدوية تجمتع فى الجسم فتجعله كالمريض، وتثقله، فيقل نشاطه، فإذا صام الإنسان، خف وزنه، وتحللت هذه السموم بعد أن كانت مجتمعة وما أن تذهب عنه حتى يصفو صفاء تاما .ومع ذلك يستطيع الصائم إذا أراد أن يسترد وزنه ويحدد جسمه فى مدة لا تزيد عن العشرين يوما بعد الإفطار ، لكنه يكون قد تخلص من أعباء السموم، ويبدو يشعر بنشاط وقوة لا عهد له بها من قبل".
لقد قامت بالفعل فى العالم الأوربى مصحات عديدة يتخذ الصوم فيها كعلاج رئيسى لكثير من الأمراض وخاصة اضطرابات الهضم والبدانة وبعض أمراض القلب والكبد والبول السكرى وارتفاع ضغط الدم وذكر الكيلانى بعض أسماء هذه المصحات: 1- مصحة الدكتور "هيزيج لاهمان" فى "درسون" بسكسونيا. 2- مصحة الدكتور "برشربذ". 3- مصحة الدكتور "موللر". ويعلق الكيلانى قائلاً : "ولا شك أن بعض هذه الأمراض يزيدها خطورة انواع معينة من الطعام مثل زيادة الأملاح أوالدهون أو المواد السكرية، تلك العلاقة بين الصحة العامة والطعام علاقة أكيدة لا خلاف عليها، ولهذا نرى الأطباء يكتبون وصفات بالطعام الذى يناسب المريض، ويحرمونه من بعض الأطعمة التى قد تزيد حالته سوءً..ويستطيع كل صائم أن يجعل من هذا الشهر الكريم فترة للعلاج والوقاية من كثير من الأمراض..".
ويقرر الدكتور الكيلانى أن الصيام مفيد جدا للجهاز الهضمى ذلك الجهاز الحساس الذى يعمل بدأب ونشاط ويفرز الكثير من الأنزيمات ويخلط الطعام ويهضمه لساعات طويلة مرات عديدة كل يوم ومن أخطر الأشياء بالنسبة لهذا الجهاز كما ورد فى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيما معناه: "إدخال الطعام على الطعام"، وفى ذلك مزيد من الإرهاق والاضطراب لهذه القناة الهضمية، فضلاً أن الجهاز يتأثر كثيراً بالحالة النفسية للإنسان، ولا شك أن الصوم وما يسبغه على الإنسان من مشاعر الإيمان والصفاء والرضى، يخفف من توتر الإنسان وجشعه ونهمه، فينعكس ذلك على أجهزة جسمه بالطمأنينة والراحة والسلام، وينقل عن الطبيب العربى الأشهر الأستاذ الدكتور عبدالعزيز إسماعيل قوله: "إن الصوم يستعمل طبياً فى حالات كثيرة، ويستعمل وقائياً فى حالات أكثر، إن كثيراً من الأوامر الدينية لم تظهر حكمتها، وستظهر مع تقدم العلوم، فلقد ظهر أن الصوم يفيد فى حالات كثيرة، وهو العلاج الوحيد فى أحيان أخرى، فللعلاج يستعمل فى اضطرابات الأمعاء المزمنة، والمصحوبة بتخمر، ويستعمل عند زيادة الوزن الناشئة عن كثرة الغذاء، وكذلك فى ارتفاع ضغط الدم، أما بالنسبة للبول السكرى فلما كان قبل ظهوره، يكون مصحوباً فى الغالب، بزيادة فى الوزن، فالصوم يكون بذلك علاجاً نافعاً ولا يزال الصوم – مع بعض ملاحظات فى الغذاء- أهم علاج لهذه الحالة".
ويأخذ الدكتور الكيلانى على سلوك بعض الصائمين الذين يفرطون فى الأكل أثناء فترة الليل ويلتهمون أضعافا مضاعفة من الأكل فى هذا الشهر الكريم ..أمثال هؤلاء لا يفيدون من الصوم الفائدة الكاملة المرجوة وصدق عمر بن الخطاب إذ يقول: "إياكم والبطنة فإنها فى الحياة ونتن فى الموت"، وما أروع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "المعدة بيت الداء والحمية راس الدواء".
روشتة للصائم عند الإفطار: ثم يعطينا الكيلانى روشتة للصائم عند الإفطار ومنها النصح بالإفطار على التمر اتباعا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن السكريات تصل بسرعة إلى الدم فتبعد الشعور بالجوع وتساعد على النشاط، وأن لا نتفاجىء المعدة بالطعام بعد ذلك ومن الأفضل الذهاب لصلاة المغرب وبعد الصلاة نبدا بتناول كمية من الحساء "الشوربة" وذلك يساعد على تنبيه المعدة والبدء فى الإفرازات الهاضمة، وتجنب التوابل كالفلفل والشطة، لأنها تهيج الغشاء المخاطى للمعدة وتؤدى إلى زيادة الحموضة، وتجنب الدهنيات التى تعسر الهضم وتؤدى إلى السمنة والبدانة وأمراض الشرايين والفلب، وألا نتخم المعدة بالأكل مصداقا لقول الله تعالى "كلوا واشربوا ولا تسرفوا"، وكذلك حسن المضغ والتنوع فى الوجبة الغذائية فلابد أن تكون شاملة للعناصر الغذائية المختلفة.
روشتة للصائم عند السحور: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "تسحروا فإن فى السحور بركة"، وكما أعطانا الكيلانى روشتة عند الإفطار أعطانا روشتة أخرى عند السحور: يجب أن تكون وجبة السحور خفيفة ما أمكن فتكون مثلا من الزبادى، والجبن، وشرائح اللحوم المسلوقة، والفاكهة، أو الفول المضاف إليه الزيت النباتى والليمون، وهذه النوعية من الغذاء تكفى لمد الجسم بما يحتاجه طاقة أو سعرات حرارية اثناء فترة الصيام، وعدم النوم بعد تناول وجبة السحور مباشرة، لأن الجهاز الهضمى يكسل أثناء النوم والإكثار من الدهون ثم النوم مباشرة يزيد من نسبة هذه الدهون فى الدم، فتزيد كثافته ولذا قد تحدث مضاعفات وخيمة بالنسبة لمرضى الشرايين والقلب أى أنها عوامل مساعدة على تكوين الجلطات، والمشويات أفضل كثيرا من المقليات لأن الأخيرة تحتوى على نسبة كبيرة من الدهون، والغذاء الكامل يتكون من البروتينات والدهنيات والنشويات والمعادن والفيتامينات لذا يجب الحرص أن تشمل وجبة السحور تلك الصورة الغذائية المتكاملة والمتوازنة، ولا ينسى أن ينصح الصائم باستخدام الفرشاة او السواك عقب الانتهاء من وجبة السحور.
موانع الصوم: يقول الله سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)، وقال أيضاً: (ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يجب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه) وهناك أمراض مزمنة تمنع الإنسان من الصوم، وبما أن الدكتور الكيلانى هو الطبيب المسلم المخول له من قبل الشرع تقرير ذلك فيذكرها كالاتى: 1- حالات الإسهال الشديد لأن المريض فى مثل تلك الحالة فى حاجة ماسة إلى السوائل والأملاح لتعويض ما يفقده منها وإلا أصابه الفشل الكلوى المميت أو الفشل فى الدورة الدموية، فضلاً أن المريض يحتاج إلى بعض الأدوية المتكررة الضرورية. ويضاف إلى ذلك حالات القىء التى تؤدى إلى فقدان السوائل وكذلك الأملاح. 2- حالات الحميات الشديدة، حيث ترتفع درجة حرارة الجسم ويزيد الاحتراق ويكون المريض فى أمس الحاجة إلى الدواء والغذاء المناسب فى فترات متقاربة . 3- التهابات الصدر الحادة والسل الرئوى فى مراحله المتقدمة لأن المريض فى مسيس الحاجة لغذاء كاف، أما حالات الدرن المتماثلة للشفاء ففى إمكان المريض أن يصوم. 4- قرحة المعدة، لأن المريض يشعر بآلام شديدة بسبب زيادة إفرازات الحامض المعدى، ومن ثم نراه فى حاجة شديدة إلى تناول اللبن مثلاً أو بعض العقاقير الطبية الضرورية. 5- التهاب وتليف الكبد ومرض الاستسقاء . 6- الأنيميا أو فقر الدم، وهذا المرض له أسباب كثيرة، والمصابون به يحتاجون إلى غذاء قوى وعقاقير لا غنى عنها. 7- تجلط الأوعية الدموية، لأن الجفاف الناتج عن عدم شرب السوائل لفترات طويلة قد يزيد الحالة سوءً. 8- هبوط القلب . 9- حالات البول السكرى الشديدة. 10- حالات انخفاض نسبة السكر فى الدم، وإلا وقع المريض فى غيبوبة ومثل هؤلاء المرضى يحتاجون فى العادة إلى تعاطى مادة سكرية على الفور عندما يشعرون بالدوار أو الدوخة. 11- بعض حالات ضغط الدم. 12- بعض أمراض الكلى الحادة والمزمنة. هذا قليل من كثير يحويه هذا الكتاب النفيس على صغر حجمه إلا أنه ضرورى لكل مسلم للإطلاع عليه والاستفادة من معارفه الجمة الغزيرة والمركزة.