ما من مجتمع أو فيه خلاف بين مواطنيه واحزابه وقواه المختلفة , تلجأ بعض الدول للحلول السياسية لإدارة هذه الخلافات بينما تخوض غيرها صراعات عنيفة مع بعض مواطنيها لقطع الطريق أمام تحقيق مطالب فصيل أو طائفة أو أو عرق. وقد حدث ذلك في اكثر من مكان في التاريخ المعاصر, حدث في الصراع البريطاني الدموي مع الجيش الجمهوري الايرلندي (وهو صراع مذهبي ) بدأت نهاياته باتفاقية بلفست 1993 ووقف اطلاق النار في 1997 ودخول "جيري آدمز" الايرلندي الشمالي البرلمان , وفي نفس العام1997 التقى "جيري آدمز" مع "توني بلير" رئيس الوزراء البريطاني في أول لقاء بين رئيس وزراء بريطاني وقيادي من الجيش الجمهوري منذ لقاء سنة 1921 بين "كولينز" ورئيس الوزراء البريطاني "دافيد لويد جورج" .. حدث ايضا صراع داخلي في لبنان لأكثر من 15 سنة, استطاعت السعودية انهاء تلك الحرب عبر اتفاق الطائف في سبتمبر 1989 , ولم يكن الاتفاق مرضيا لكل اللبنانيين , ولم ينه التقسيم الطائفي في لبنان, لكنه نجح في نقل الفرقاء من ميدان القتال الى ميدان السياسة .. ولازالت الخلافات اللبنانية قائمة حتى اليوم لكن الفرقاء يضعون دائما نصب أعينهم درس القتال والسياسة .. ودرس أخر من تركيا حزب العمال الكردستاني PKK جماعة مسلحة كردية يسارية ذات توجهات قومية كردية وماركسية لينينية هدفها إنشاء دولة كردستان المستقلة. ويتبعها حزب الحياة الحرة الكردستاني في كردستان إيران وحزب الاتحاد الديمقراطي في كردستان السورية وحزب الحل الديمقراطي الكردستاني في كردستان العراق. وهي جماعة مسلحة رغم اسمه, ويصنف PKK كمنظمة إرهابية على لوائح عدة دول في العالم منها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وتركياوإيران .
نشأ الحزب في السبعينيات بزعامة "عبد الله أوجلان" وتحول بسرعة إلى قوة مسلحة حولت منطقة جنوب شرق تركيا إلى ساحة حرب في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين, تفيد إحدى الإحصائيات أن الجيش التركي فقد أكثر من 50 ألف قتيل من خيرة شبابه في مواجهاته مع PKK, بما يعكس خسارة الطرفين الدولة والحزب الكردي..
حين تحل السياسة الصراعات
صحيح أن غالبية الأكراد ليسوا أعضاء في PKK, وصحيح أيضا أن حزب الشعوب الديمقراطي الذي أدخل تنظيما كرديا للبرلمان لأول مرة في تاريخ تركيا ليس هو PKK, لكنه صحيح أيضا أن تعاطفا معتبرا من غالبية الأكراد كان مع PKK , لذلك أستجاب كثير من الأكراد لنداء مؤسس PKK "عبد الله أوجلان" – المسجون - بترك السلاح والانخراط في العمل السياسي..
أظهرت نتائج الانتخابات مفاجأة كبيرة بحصول حزب الشعوب الديمقراطي (ممثل الأكراد) على أكثر من 13% بما يسمح له بدخول حوالي 80 عضوا للبرلمان, وقد تحدث بعض المراقبين عن نجاح تركي في سحب الأكراد من ميدان السلاح الى مضمار السياسة, وأن هذا نجاح للدولة والسِلم الاهلي وإن أتى على حساب حزب العدالة التنمية .
حل حزب العدالة والتنمية أولاً في الانتخابات الأخيرة بفارق ضخم بينه وبين الحزب الثاني ( اكثر من 16%) لكنه لم يستطع الحصول على ما كان يحلم به, فقد تطلع الحزب (أولا) للحصول على 367 مقعدا (أي الثلثين من اصل 550) كي يمرر تعديلاته الدستورية عبر البرلمان, وكان خياره (الثاني) الحصول على 60% (حوالي 330 مقعدا ) لتمرير التعديلات عبر استفتاء شعبي,أما الخيار (الثالث) والذي كان يتصوره مجرد تحصيل حاصل فهو الحصول على 276 مقعدا (50% + 1) كي يحافظ على وضعه السابق لمدة 13 سنة حين حكم البلا د منفردا ..
لم يستطع الحزب الحصول على واحدة من أهدافه الثلاثة, وهذا تراجع معتبر بالمقارنة لما وضعه الحزب لنفسه من اهداف,ومن ثم يحتاج الى وقفة مع النفس للتقييم والمراجعة ولدراسة اسباب تحالف أغلب الأحزاب والتصويت العقابي ضده ,وكذلك خسارة أصوات الأكراد وجماعة خدمة (فتح الله كولن) لكنه يبقى مع ذلك الحزب الاول في البلاد .. لقد عكست نتيجة الانتخابات الى حد كبير نسب التمثيل الحقيقية في المجتمع لقواه المختلفة, وربحت البلاد حين فتح المناخ السياسي الابواب للتغيير عبر الانتخابات والصندوق, ونقل مطالب فئات الشعب المختلفة الى قاعة البرلمان لا ميدان القتال أو صخب الشوارع.
إنه درس معتبر يتجاوز حدود تركيا لغيرها من البلدان التي لم تستطع بعد إدارة خلافاتها الداخلية بالسياسة وهي خلافات أقل حدة مما كان في ايرلندا أو لبنان أو تركيا, واستمرار تجربتها ما جربه الاخرون في ذهول تام عن عدم تحقيق تلك التجارب إلا انهاك المجتمعات وخسارتها !!